خيري الذهبي: لا المخيم ينتج رواية ولا الريف.. والجنس لا يُكتب للإثارة وحدها
راشد عيسى
جعلــتْ العروبيــة التفكيــر بالمكــان الــذي تحــت قدميــك خيانــة للحلــم
أشعل الروائي السوري خيري الذهبي سجالاً في مؤتمر الرواية الأخير في القاهرة حول ما سماه أدب الفراش، حين كان الحديث يدور حول الكتابة الجديدة والأدباء الشباب. قبل ذلك بسنوات كان فتح معركة لعلها الأعنف له مع الأدب الفلسطيني تتعلق بموضوعة بالكتابة والمنفى،
ليروج عنه أنه ربط الكتابة الروائية بالاستقرار المكاني، وفي ما إذا كان المنفيون قادرين على التصدي لكتابة الرواية، إلى جانب معارك مع اتحاد الكتاب العرب في دمشق، وسواها من معارك. كانت تلك سجالات ليست غريبة على كاتب «يعارك» نفسه أحياناً، حين يراجع ما كتب، ويعترف بجرأة مثقف أصيل بأنه سار خطأً في درب ليس له، كما يعترف في حوارنا هنا. فماذا يقول صاحب «ملكوت البسطاء» و«التحولات» و«لو لم يكن اسمها فاطمة» و«صبوات ياسين» في كل ذلك؟ ماذا عن الرواية والمكان، واللجوء إلى التاريخ في أعماله، وسواها من إشكالات؟ هنا حوار معه.
هل كتبتَ دمشق؟ هل يمكن القول إنك كاتب دمشق مثلما كتب نجيب محفوظ القاهرة، وأورهان باموق استانبول؟
} كل كاتب روائي لا بد له من مكان يجري فيه أحداثه الروائية، وأفضل الأمكنة كما أعتقد هي أمكنة الذاكرة، أي المكان الذي عشتَ فيه طفلاً وتشبعت بدهاليزه وزواياه، وعتمته ونوره وأوراق شجره المتساقطة. أتمنى أن يقال عني إني كاتب دمشق، فهذا فخر كبير لي. ولكني أعتقد أني لم أحز هذا الشرف بعد، رغم أني جعلت من دمشق ومن حارة القنوات ومن بيوتها مكاناً أسرح فيه في رواياتي، قد أشرّق وقد أغرّب، ولكني سرعان ما أعود إليها، فهي المكان الذي يمكن أن يوحي إليّ بكثير من الدفء في الكتابة.
في فترة من الفترات، وأثناء كتابة عدد من الروايات التي استجبت فيها إلى الضغط الثقافي المسيطر على الساحة السورية في سبعينيات القرن الماضي، حيث كانت البعثية هي المسيطرة على الشارع، رغم أني لم أكن يوماً بعثياً، إلا أن العروبة اختلطت بالبعثية بحيث صار من الصعب أن تفصل بينهما. ذلك الجو الذي كان يمكن أن يكون على سوريا أن تكون وطناً دائماً للسوريين، ومن المؤسف أن سوريا المعاصرة، لم يصنعها أبناؤها، بل فرضت على يد لويد جورج، وصبييه سايكس وبيكو، ليجد السوريون أنفسهم فجأة مفصولين عن محيطهم محبوسين في حدود لم يشاؤوها، لذلك لم يكن غريباً أن سوريا لم تصدر في تاريخها كله حزباً سياسياً واحداً يعلن أن سوريا وطني النهائي، بل كانت الأحزاب دائماً تعلن السياسة وتعلن أن سوريا وطن معبر إلى وطن أكبر وأجمل، قد يكون الوطن العربي، وقد يكون سوريا الكبرى، أو الأممية الإسلامية، هذا الإحساس العام الذي يشمل السوريين بمعظمهم قد طغى عليّ بعد عودتي من مصر ونشر روايتي الأولى الدمشقية «ملكوت البسطاء». هذا الطغيان الفكري الذي جعل كل كتابة عن المكان الذي تحت قدميك هي بمثابة خيانة للحلم، فجعل من السوريين يكتبون عن بغداد الأسطورية (سعد الله ونوس)، وعن غرناطة الأسطورية، بل وصل الأمر بكاتب مسرحي عظيم مثل مصطفى الحلاج أن يكتب عن دريزدن وهو يعني دمشق طبعاً. في ذلك الحين خضعت لهذا الضغط على غير إرادة مني، فكتبت عدة روايات تتحدث عن مدينة غير ذات اسم، وكنت أعني دمشق، وكنت أخاف من أبناء جيلي من البعثيين والباحثين عن وطن خارج ما تحت أقدامهم، فكتبت تلك الروايات ثم راجعت نفسي: خيري الذهبي ما الذي تفعله؟! إن لديك مشروعك الروائي، وثقافتك التي لم تربّ أصلاً في سوريا، بل في مصر المنفتحة على العالم بكل ثقافاته، فلمَ تتراجع عن مشروعك وتجاري هذا الشكل من إنكار الذات. في تلك الفترة كنت قد عملت على التعمق في قراءة الثقافة الإسلامية والعربية محاولاً أن أفهم سر الخيبات التي كانت تترى علينا، وعند ذلك وصلت إلى مفهوم التحولات، ذلك الذي عنيت به أن الثقافة العربية الإسلامية قد توقفت عن كل فعل حضاري منذ القرن الرابع الهجري واكتفت بنسخ نفسها ببلادة، فحتى الفرق الإسلامية، التي بدت في حينها معارضة وداعية إلى التغيير بعد القرن الرابع الهجري، تكيّست كما تكيّس الإسلام الرسمي والثقافة العربية الرسمية. وحتى حينما كان يظهر عبقري مثل ابن خلدون كانت الثقافة الإسلامية تحجّمه ليصبح مؤرخاً من الدرجة الثالثة، لا صاحب نظرية. ولما ظهر ابن رشد استطاعت الثقافة المتكلسة أن تفرض عليه الحرق والعزل وعدم التأثير في الناس. كانت الثقافة الإسلامية قد هربت على يد العرب وحملت قسراً بمفكريها وصانعيها وعلماء حيلها (الميكانيك) ونقاشيها ومزخرفيها وملونيها ورخّاميها إلى يد مسلمين آخرين؛ الترك في استانبول بعد السلطان سليم، والتتار في بخارى والهند بعد تيمورلنك، وإلى إيران بعد اسماعيل الصفوي، وهكذا حكم علينا أن نعيش في الظل لألف عام مسروقي العقول. كانت هذه هي رؤيتي للتحولات، التي لم تُقرأ كما تستحق من احترام وتفسير، فأنا لم أكن من رجال نصف الأمي المسيطر على الثقافة ولم أكن أعيش خارج سوريا.
العصر الأسود
قلت مرة إن ابن الريف لا يمكنه أن يكتب رواية. وقلت في مرة أخرى إن الفلسطينيين لم يكتبوا الرواية لأن هذه تحتاج إلى مكان، والفلسطينيون في المنفى. كيف تفسر العلاقة بين الكتابة والمكان؟
} أنا لم أقل إن الفلسطيني لم يكتب رواية، هذا تحريف لكلامي، بل قلت إن فلسطينيي المخيمات، الذين يعيشون في مكان يكرهونه، أي المخيم، ويحنون إلى مكان لم يروه، أي فلسطين الذاكرة، وقعوا بين هذين الشرطين، فكان الكاتب معمّى في كتاباته، وكان بحكم كونه فلسطينياً محكوماً بقدر صعب، وهو أن فلسطيني المخيم لا يستطيع أن يكتب رواية دون أن يذكر فلسطين. لا أذكر أني قرأت رواية لابن مخيم دون أن يذكر فلسطين التي لا يعرفها. فإذا ما ذكر فلسطين هل يستطيع أن لا يذكر الإسرائيلي الذي يحتلها الآن، وإذا ما ذكر الإسرائيلي الذي يحتلها الآن هل يستطيع أن يكون محايداً حين ذكره؟ شروط ثلاثة قاسية جعلت عجلة الكتابة شديدة الصعوبة للفلسطينيين، و لكن هذا لا يعني أن سحر خليفة ليست روائية عظيمة، وجبرا الذي خرج من فلسطين في سن الرشد لم يكن روائياً عظيماً جداً، وهذا لا يعني أن إميل حبيبي لم يكن كاتباً عظيماً. أظن أنني الآن قد فسرت ما حرّف. أما حديثي عن الريف فأنا أعني الريفية المقيمة ضمن علاقات ريفية يعرف كل أحد فيها كل أحد، والرواية فن النميمة فكيف ينمّ عن أناس سوف يواجههم في اليوم التالي؟ ولكن حين ينتقل إلى المدينة ويعيش في شروطها، كما فعل الروائي العظيم هاني الراهب، وكما يفعل جيل كبير من الروائيين السوريين فالرواية قد طاعت لهم. ولأذكر أن كاتباً كالعجيلي ليست لديه في كل كتاباته شخصية نسائية من الرقة، فهو يخاف من ردود أفعال أهل الرقة حين يرون نساءهم في رواياتهم.
تبدو كمن يعود أبداً إلى التاريخ في رواياتك؛ فترة العثمانيين، أو الفرنسيين، وحتى عهد المماليك. لماذا التاريخ؟ وهل من الصعوبة فعلاً الكتابة عن زمننا؟
} هل تعتقد أنّا قد خرجنا من هذا التاريخ؟ علينا أن نتذكر رجال السياسة في العالم العربي كلّه، ولا أستثني. بعد فترة الاستعمار مباشرة، استلم الحكم مجموعة من السياسيين الملوثين بالفكر الغربي البرجوازي، فقدموا لنا شكلاً من أشكال الديموقراطية (وأنا من المعجبين بمسلسل «الملك فاروق»، ليس بفاروق شخصياً، بل بشخصية مصطفى النحاس كما قدمت؛ الديموقراطية، المعارضة، اللجوء إلى التصويت، قبول الآخر مكرهاً..) هذا الأمر اختفى تماماً مع قدوم العسكر في العالم العربي. ماذا فعل العسكر في العالم العربي كله؟ لقد قفز العسكر إلى الحكم، ولا آباء سياسيين لهم يسألونهم المشورة، فمثل نوري السعيد أو النحاس، كان يستطيع بكل بساطة أن يسأل أباه البرجوازي في لندن أو باريس مثلاً عمّا يفعل في هذا المأزق أو ذاك. أما العسكر الذين لا آباء لهم إلا المماليك فقد رجعوا إلى آبائهم الذين أفتوهم بأن كل الحقوق للسلطان، وأن لا حقّ للرعية إلا ما يعطيه السلطان، وحتى عند التأميم الذي يفاخرون به هم لم يفعلوا إلا أن كرروا ما فعله المماليك الذين كانوا يملكون كل وسائل الإنتاج في البلد، ولنذكر أن الاشتراكي الأكبر محمد علي باشا كان أول ما فعل أن أمّم كل أراضي مصر، ولم يترك للشعب شبراً واحداً يتصرف به. هذا الانزياح إلى المماليك، وهذا الإصغاء إلى الياوران، وإلى مستشاري السلطان الذي كان يسمع إلى مستشاري المماليك جعلنا لا نستطيع أن نفهم الآن إلا إن فهمنا ذلك العصر الأسود الذي وُجد فيه المماليك.
هل تريد أن تقول إن روايتك «صبوات ياسين» في حديثها عن الملك الظاهر بيبرس كانت تسبح في هذا البحر؟
} بيبرس هو أب النظام المملوكي القائم على مبدأ أن هناك مجموعة من الأقوياء الذين استولوا على بلد ما، وهؤلاء الأقوياء يسلمون القيادة إلى الأقوى والأشرس فيها إلى أن يضعف فيخلعوه ويقتلوه ليحلوا قوياً آخر مكانه. بدأ النظام المملوكي بيبرس وهو يقتل معلمه قطز بعد نصر عين جالوت مباشرة، ثم بعد بضع سنوات أراد بيبرس أن يخلّد نفسه فأمر مثقفي عصره بكتابة سيرة حياته. كان يحلم بشيء مثل الشاهنامة، بطولة مطلقة تقرب من الألوهة، فجاء مثقف اسمه ابن شداد (وهو ليس ابن شداد مؤرخ صلاح الدين) فكتب له سيرة حياته، قرأها فلم تعجبه فما طمح إليه شيء آخر، فجاء مثقف آخر هو ابن عبد الظاهر فكتب له سيرة حياة لم تعجبه أيضاً فرفضها، فعرف المثقفون الموعودون بالجائزة المطلوب، فتقدم مثقفان هما الديناري والدوادار بعرض هو أن يكتبا سيرة حياة تقدم له فصلاً فصلاً فيوافق على ما يعجب به ويرفض ما لا يعجب به، وهكذا كُتبت هذه السيرة العجيبة، التي كان فيها بيبرس أشبه بإله ينتظره التاريخ والآن والمستقبل، ينتظره الإنس والجن ليسلموا له كل مقادير البلد من صناعات وزراعات وأسلحة، فهو الوحيد القادر على تحقيق كل الأماني، ليس هذا فحسب، فهذا المملوك القفجاقي يقدمه كاتب السيرة وهو يصر على استخدام متمرد مدوخ للشرطة في مصر اسمه عثمان بن الجبلة يصرّ على استخدامه سائساً لديه، يصرّ فيرفض، إلى أن يهرب إلى مقام السيدة نفيسة فيلحق به، وهناك ينام الرجلان كما يحدث لأبطال الإلياذة حين يقابلان الآلهة أثينا، فتقول السيدة نفيسة لعثمان عليك بالطاعة فطاعته طاعة لي، تقول لبيبرس عليك بالرحمة بهم طاعة لي. وهكذا يبدأ منيفستو العلاقة بين الحاكم والمحكوم حسب هذه السيرة التي كانت كتاب الطاولة لكل سلطان جاء إلى الشرق منذ الظاهر بيبرس وحتى القرن العشرين. وكتاب الطاولة لكل من يمضي إلى المقهى ليسمع الحكواتي. استطاعت هذه السيرة أن تشكل وعي الحاكم والمحكوم ؛ طاعة مطلقة من الرعية وسلطة مطلقة للسلطان. جاء العسكر وبحثوا عن أب لهم فلم يجدوا إلا بيبرس والمماليك وسيرة الملك الظاهر دستوراً لهم، فحاولوا تشكيلنا حسب هذا المنــظور الذي شكل أجيالاً من الحضارة الإسلامية. وأخيراً تسألني لماذا التاريخ؟ وهل تستطيع فهم الحاضر إلا إن فهمت هذا التاريخ؟
هل يشغلك الشكل الروائي؟
} كل رواية ترتدي شكلها منذ السطر الأول للكتابة، أنت لا تصنع قالباً ثم تسكب فيه روايتك، فالرواية مخلوق حي يبدأ نطفة فعلقة فجسدا فمخلوقا، لا يفكر كيف سيكون في المستقبل، إنه يصنع شكله الخاص. في مؤتمر القاهرة للرواية استمعت إلى كاتبة، ساذجة ولا شك، كانت تتحدث أنها كتبت في كل أشكال الرواية، وأنها سمعت بالرواية الرقمية وتبحث عن كيفية كتابتها! الكاتب الذي يتقن مهنته لا يفكر بهذه الطريقة. كل رواية تبتدع شكلها وشخصيتها منذ أن تقرر أن تولد.
يقول ناقد: «إن أبطال خيري الذهبي، الذين يتسمون بمأساوية مصائرهم وأقدارهم الشخصية الحزينة، يمتازون بكونهم صورته الشخصية الأخرى، أناه الثانية التي تبزغ من قلب عالمه الروائي». هل توافق؟ هل يعني ذلك أن صوت الروائي ينبغي أن يكون حاضراً إلى هذا الحدّ في شخصياته الروائية؟
} من يقول إنه ينبغي؟ في عالم الأدب ليس هنالك «ينبغي»، ولكن ربما يعود الأمر إلى رؤيتك للعالم، فهناك من يرى العالم عبثاً في عبث، وأنا أحسد من يرى إلى العالم بهذه الطريقة، وهناك من يرى العالم مغامرات لا تنتهي، وهناك من يراها محكومة بشروط مأساة بشرية. لا أستطيع أن أصف نفسي في أي من هذه الأنواع، وأنا أكتب وأستدعي الذاكرة المبدعة لتساعدني على الكتابة. أية ذاكرة في ذهني ربما هي التي تحكم كتاباتي، لا تنس أنني من الجيل الذي لم يعرف الفرح في حياته، والفرح الوحيد الذي عرفته فتى كانت الوحدة التي لم تلبث أن تساقطت تحت أساطير العسكر والمباحث وغباءات الإنسان. ثم ماذا بعد؟ قتل إثر قتل وهزائم إثر هزائم.
كنت أعني أن صوتك كمثقف له مشاغله، حاضر وبارز في الرواية؟
} أعتقد أننا نحن، ما نسمى العرب والمسلمين، من أكثر الناس فصاماً في الشخصية، في الوقت الذي نعيش على أنّا مؤرَّخون، فما إن يلتقي اثنان الآن حتى يسأل أحدهم الآخر ما رأيك بالخلفاء الراشدين الثاني والرابع، ويبدأ السجال، ولكن في الوقت نفسه إذا سألت ماذا يعرف عن التاريخ الأموي لعرفت أنه يعرف رجلين هنا وهناك ثم يغيب التاريخ حتى الحاكم المعاصر.
كيف يمكن أن نتجاهل لألف عام من التاريخ التركي مما شكل وعينا؟ أنا، وبما أنني انغمست في دراسة الحضارة العربية والإسلامية، لا أستطيع إلا أن أحس هذه المأساة التي نعيش، والتي تعبر عن نفسها كتابياً في «فخ الأسماء» و«صبوات ياسين» و«التحولات» وسترى تعبيرها الأخير في روايتي القريبة التي ستصدر في القاهرة بعنوان «رقصة البهلوان».
فقر لغوي
أخيراً أثارت بعض تصريحاتك حول الرواية الجديدة والجنس في الرواية جدلاً لافتاً. فما حقيقة تصريحاتك؟
} في مؤتمر الرواية في القاهرة، أثناء ما يسمى بالطاولة المستديرة، اجتمعنا أنا والكاتب الكبير بهاء طاهر والناقد الكبير محمد برادة والكاتبة الكبيرة علوية صبح، وعدد من الكتاب المصريين الشباب (وليعذروني الآن لا أذكر أسماءهم) فتحدثنا كل بدوره عن الكتابة الشابة، وكان البعض متحمساً للكتابة الشابة الخفيفة على مستوى اللغة، وبناء الشخصيات، بل تطرّف أحدهم ليتحدث عن مدوّنات الانترنت. ولما جاء دوري بالكلام تحدثت عن الفقر اللغوي الذي يعيشه بعض الأدباء الشباب، فتقرأ رواية تعدّ مفرداتها التي لا تتجــاوز الأربعمئة مفردة من لغة ثرية هي العربية. قلت صار الكاتب يقول: جلست تحت الشجرة، ولا يعرف يقول إن كانت شجرة صفصاف أو بلوط أو شربين. ويقول مرّ فوقي طائر ولا يعرف إن كان الطائر حمامة أو غراباً.
هذا الفقر اللغوي كيف انعكس في اختيار مواضيع خفيفة للكتابة. فتدخل برادة وقال إن الطلاب الذين يدرسون في المدارس الفرنسية يمتلكون معجماً أكبر من معجم أولئك الذين يدرسون في المدارس العربية، فتذكرنا أن من بين دروس المدارس الفرنسية دروسا في الرسم والموسيقى وفي المخابر. أما طلابنا فليس لديهم رسم ولا موسيقى ولا مخابر. ثم عدت إلى الحديث عن الخفة التي يتعاملون بها مع فن الرواية، فقلت إن الرواية المعاصرة الآن صارت أقرب إلى البحث الأكاديمي الذي يعاد صوغه ليصبح رواية، واستشهدت بإيكو وغراس بل حتى بدان براون في كتابة الرواية البوليسية التي حوّل فيها بحثاً في الأديان المقارنة إلى رواية بوليسية، ثم تابعت الحديث: إن من طرائق الخفة في تناول موضوع جليل كموضوع الرواية هو أن يعمد البعض إلى كتابة مواضيع لا تهتم إلا بالفراش ومغامراته، وتذكرت الكاتب الكبير ميلان كونديرا الذي هو خلاصة الثقافة الأوروبية المعاصرة فلسفة وتاريخاً وجدلاً دينياً، وفي كل رواية من رواياته نجد وجبة دسمة من الأفكار ولكنه حتى يقرّبها ويمررها للقراء المتوسطين، يبهّرها ببعض الكتابات الجنسية، وتذكرت أن الكتابة عن الجنس في الحضارة الغربية المعاصرة طبق يومي غير مجلل بالإثم والشهوة والتوتر، كما يحصل في ثقافتنا الإسلامية، فقلت إن صغار كتابنا تخلوا عن الوصية الدسمة لكونديرا ولم يجدوا فيها إلا المبهرات الجنسية فصاروا يقومون ويقعدون ولا يتحدثون إلا عن الجنس، ثم أضفت أن الرجل العادي المعاصر الذي يعيش أربعاً وعشــرين ســاعة في اليــوم ينام منها ستاً ويعمل لكسب عيــشه ســتاً ويقرأ أربعا، فلا يبقى للتفــكير بالجـنس أكثر من نصف ساعة في اليوم، فكيــف يجــعل هؤلاء الكتاب شخصيات رواياتـهم تفكــر أربعاً وعشرين ساعة بالجنس؟ وعند ذلك تدخل برادة وقال: أعتقد أن كاتباً سيردّ على ذلك، ونظر إلى علوية صبح، ولكنها قالت أنا أحترم رأيه، هو يكتب ضمن نسق وأنا أكتب ضمن نسق، وكان هذا كل تعليقها.
أنا أعتقد أن الكتابة التي يعمد إليها صغار كتابنا والتي يبتعدون فيها عن قضايا الأدب الأساسية، ويلجأون إلى أدب الفراش، ما هي إلا محاولة سريعة للوصول والانتشار، لكنهم بعد أن يكبروا قليلاً سيحسون أن هذه المواضيع ليست كافية لفن الرواية العظيم. هنالك كتّاب مثل هنري ميللر كتبوا عن الجنس ولكن جعلوه وسيلة لتهديم بنية المجتمع الرأسمالي الذي أهدر الإنسان وأحاله إلى روبوت وأزرار. هنالك كتاب مثل رشيد الضعيف كتب عن الجنس ولكنهم جعلوه وسيلة للحديث عن المجتمع البوليسي الطاغي الذي يعيشون بين ثناياه، وهناك كاتبة عظيمة مثل علوية صبح جعلت من الكتابة عن الجنس وسيلة للدخول إلى العالم الأسطوري للمرأة، أما أن تكتب عن الجنس للإثارة فقط فأنا ضد هذا النوع.
(دمشق)