لماذا إيران؟
حازم صاغيّة
يتجدّد في العالم العربيّ اليوم «الصراع على سورية». لكن ما وصفه باتريك سيل، في الخمسينات، تنازعاً بين القاهرة وبغداد، يدور الآن بين القاهرة والرياض من جهة وطهران من جهة أخرى. والصراع لا يطاول الطبيعة الاجتماعيّة والايديولوجيّة للنظام السوريّ، وهذه سنّة عربيّة مألوفة، لكنّه يتركّز على التموضع الاستراتيجيّ والجغرافيّ – السياسيّ.
مع ذلك فالصراع، والانقسام الذي ينطوي عليه، يدلاّن الى استثناء إيرانيّ يلحّ على المنطقة، بل يلحّ على العالم. والاستثناء هذا لا صلة له ببعض التعابير القوميّة والعنصريّة والطائفيّة التي تهبّ من الجهات العربيّة ترصّعها تعابير «الفرس» و «المجوس» وغير ذلك.
المقصود بالاستثناء وجود نظام ايديولوجيّ وتوسّعيّ يريد لنفسه حصّة أساسيّة و «شرعيّة» في المجال العربيّ، ابتداء بالعراق والخليج، ومنهما إلى اليمن، وانتهاء بفلسطين، مروراً بسوريّة ولبنان. وفي هذا يخلّ التمدّد الإيرانيّ بالمعادلات التقليديّة للجغرافيا السياسيّة العربيّة، ما توفّر الأيّام القليلة الماضية أكثر من عيّنة عنه: فقبل ان تهدأ العاصفة حول «إيرانيّة» البحرين، هدّد نائب وزير الخارجيّة حسين شيخ الاسلام مصر اذا ما آوت «مجاهدين خلق»، وحذّر نائب الرئيس برويز داودي سوريّة، من موقع الحرص والتحالف، من «حيل الأعداء».
وفي إخلاله هذا يحمل الاستثناء الإيرانيّ للوضع العربيّ تصعيدين غير مسبوقين: من جهة، إدخال الاحتمال النوويّ، ومن جهة أخرى، إقحام التنازع المذهبيّ الصريح الذي قد لا يكون أقلّ خطورة من الذرّة. وهذا ليس للقول إن العلاقات المذهبيّة والأهليّة في الخليج أو في المشرق العربيّ بألف خير. فهي، بالطبع، ليست كذلك. وإذا جاز التمثّل بـ «ربّ ضارّة نافعة»، جاز القول إن التحدّي الإيرانيّ يطرح على الأنظمة والمجتمعات العربيّة ضرورة تصحيح الأعطال البنيويّة الضخمة في نسيجها الأهليّ.
مع ذلك، وهذا أيضاً من مواصفات الاستثناء الإيرانيّ، انه لا يتيح تلك الفرصة الملائمة للمراجعات، بل يتسبّب في توتيرٍ نتائجه غير صحيّة بالتأكيد.
شواهد ذلك ان إيران تتوسّل، في توسيع نفوذها، سياسة العود على بدء، في السياسة كما في الثقافة. فعلى الجبهة الأولى، هناك الخط الِصداميّ مع الغرب ومع اسرائيل الذي لم يعد العالم العربيّ يتحمّله منذ معاهدة كامب ديفيد والتحوّلات الاجتماعيّة والطبقيّة والقيميّة التي تحاول الاستفادة من الخبرة المأسويّة للمواجهات السابقة. فكيف وأن الأدلّة لا تُحصى على أن الإيرانيّين إنّما يتوسّلون هذه النزعة الصراعيّة لترتيب أمورهم القوميّة مع الغرب على حساب العرب؟
أما ثقافيّاً، بالمعنى العريض للكلمة، فيعمل التقاطع بين النظام الاسلاميّ في طهران والقوى الاسلاميّة الراديكاليّة على إضعاف كلّ محاولة عربيّة للإصلاح والعقلنة التدرجيّين. صحيح أن الاسلاميّة الايرانيّة تبدو، مرّات كثيرة، أرحب من إسلاميّات تجاورها، غير أن الفارق الذي لا يخطئه البصر أن الأولى يفرضها النظام على المجتمع فيما الثانية يفرضها المجتمع على النظام. ولمّا كان النظام العربيّ المحافظ يسعى الى موازنة الثقل الاسلامويّ بالانفتاح على الغرب والغربيّة، بدا العداء الايرانيّ والراديكاليّ لهذه الوجهة مشبوهاً وخطيراً (اذ ما عدا العلاقة بالغرب، أين هي القاعدة الماديّة والثقافيّة في مجتمعاتنا للتصدّي للنفوذ الاسلامويّ؟).
بلغة أخرى، تعمل طهران على منع من يريد الانتقال من الحرب الى السلام من ذلك، وعلى منع من يريد أن يزحزح الكابح الأصوليّ، ولو مجرّد زحزحة، من ذلك. وهي تفعل هذا باستخدام أسلحة فتّاكة ومهلكة في عدادها الانقسامات الأهليّة والاحتمال الذريّ. فهل يكون الحذر، والحال هذه، مجرّد «اختلاق»؟
الحياة