خيري الذهبي: الفكر العربي توقف عن التطور منذ القرن الرابع الهجري
انور بدر
دمشق ‘القدس العربي’: ينتمي خيري الذهبي الى جيل ما بعد الرواد في الرواية السورية، لكنه لم يكن تابعا لهم فيما كتب، ولم يستسلم لأساليب القص الكلاسيكية، بل اشتق لنفسه ريادة في الحداثة الروائية، ريادة يقوم معمارها على المزاوجة في المعمار الفني بين بنية شرقية تتحرك وحداتها في زمن لولبي مغلق، وبين بنية غربية تشتغل على خط درامي يتحرك فيه الزمن باستمرار الى الامام.
وفي هذه التجربة يسعى الذهبي لاستعادة مفاتيح قراءة الحضارة العربية الاسلامية عبر هواجس التاريخ والجغرافيا، فالزمن لديه عنصر اساسي في بناء معماره الفني المتفرد، لكنه زمن يحتفي بالمكان ويقوم في مساحته المتعيّنة .
حاول خيري الذهبي في ندوة المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الادنى ان يعيدنا الى ايامه الاولى في حيّ القنوات على اطراف دمشق، حيث البيئة الريفية التي نما فيها طفل صغير، بدأ وهو في سنواته العشر الاولى يقرأ الف ليلة وليلة والمقامات كما يقرأ قصص طرزان وأرسين لوبين، تلك الخلطة العجيبة والمتنافرة من عالمين شكلا مخزون ذاكرته الاولى وخزان تجربته المعرفية والروائية لاحقا.
يقول الذهبي:
كنت اعيد تشكيل روايات طرزان وأرسين لوبين مستعينا بابطال من الف ليلة وليلة، كنت آخذ العمود الفقري من الروايات المترجمة واكسوها زخرفا شرقيا.وعندما اعود الان لتحليل هاتين البنيتين اللتين شكلتا ذاكرتي المعرفية والثقافية، اكتشف ان البنية الاولى الشرقية تقوم عمارتها الفنية على زمن حلزوني دائري مكتف بذاته، لم تكن تتحرك بفعل زمن خطيّ الى الامام، فكل شيء مقدر ونحن لن نغير شيئا منه، لذلك نجد ان الزمن يسير وفق منحى حلزوني لا يتقدم الى الامام. تلك الاعمال الادبية قدمت لنا عالما جميلا ومكتملا بذاته لكنه لا يصل بنا الى نتيجة، حتى الفن الزخرفي الاسلامي نجده يتألف من وحدات متشابهة ومتتالية تصنع عالما وتأخذنا اليه دون ان تصل بنا الى نتيجة، بينما الفكر الغربي الارسطي الذي حكم البنية الثانية للثقافية التي تأثرت بها، كان الزمن فيها يسير الى الامام، ويصل الى نتائج من مقدمات كبرى وصغرى، هو فكر محكوم بقوانين تشكل القوة النابضة او الفاعلة في حركة الزمن، وتلك الروايات المترجمة لم يكن فيها غير الحبكة الصافية، ليس فيها اهتمام بالشخصيات والحواشي، عمارة تقوم على زمن خطّي يسير الى الامام. وما بين هاتين الرؤيتين بدأ يتشكل عالمي الفكري والثقافي.
الان عندما اعود الى روايتي الاولى ‘ملكوت البسطاء’، وكنت قد كتبت ثلاث روايات قبلها لم انشرها، اجد انها ذات عمارة غربية تماما. استعنت فيها بالمعمار الذي اشتغل عليه فوكنر ولورانس داريل، لكن مادتها محلية، والمكان هو المزة او دمشق التي انتمي اليها، مدينة عليها ان تواجه عالمها المستقبلي في شخصيتين، الاولى عثمانية تنتمي للماضي، والثانية تحاول دخول العصر بكل ماديته وانتهازيته دون الاكتراث بقيم دينية او تراثية او اخلاقية.
في هذه الرواية كنت مخلصا لمدرستي الاولى ‘لورانس داريل’ اول روائي قرأت له بالانكليزية ما بين 1959 و1960، واصبت بذهول عارم: كيف لك ان ترى عالمك المألوف ‘سوق الحميدية او باب الجابية مثلا’ بعيون غربية؟ كيف يمكن ان تكتب رواية عن هؤلاء الناس البسطاء؟
في شرق سورية كان الناس يعيشون في خيام، شقٌ للرجال وآخر للنساء، وشقٌ ثالث في الوسط مفتوح من الجهة الجنوبية للناس او الضيوف، وفيما بعد عمروا بيوتهم الحديثة بنفس الالية والطريقة، نقلوا العمارة من الخيمة الى البلوك، لكنهم ظلّوا مخلصين للمعمار الذي عاشوا فيه. لم يطوروا ادوات لصنع عمارة روائية معقدة كما فعل الغرب في عمارته القوطية مثلا.
لاحقا جاء هاني الراهب ونظر في رواية ‘الوباء’ الى عالمه القديم بعين جديدة، وتابع في روايات لاحقة. وعندما سُئل نجيب محفوظ كيف ابدع عالمه الروائي، قال: انا ابن المهندسين الذين بنوا الاهرامات وابو الهول، قاصدا بذلك ان يتجاوز العمارة العربية الاسلامية ليصل ما بين العمارة الفرعونية والعمارة الغربية مباشرة. وكنت في نفس الاتجاه احاول ان اصنع رواية مخلصة لمحليتها، ومخلصة لاحدث ما انتجه الفكر الغربي في العمارة وفي التعامل مع الزمن.
في روايتي ‘حسيبة’ كان الزمن يتقدم الى الامام، ولكن ضمن الرواية ازمان حلزونية تشكل وحدات منفصلة، ويأتي الراوي ليقطع ذلك الزمن الشرقي بضربة ايقاعية قاسية ومفاجئة معلنا الانتقال الى زمن جديد. وفي روايتي ‘فياض’ نجد روايتين، واحدة معاصرة والاخرى تراثية، الاولى تروي عن الزمن الراهن والاخرى تروي عن الزمن الماضي، زمن اسامة ابن منقذ الهاشمي.
في ‘فخ الاسماء’ حاولت ان احفر عميقا لأصل الى جذر الطاغية الشرقي، فوصلت الى المماليك، تلك الظاهرة الغريبة في تاريخ العالم، اذ لا مثيل لها الا في ارضنا، ان ترسل تجارا يجيئونك بالعبيد، فتربيهم وتدربهم ليصبحوا سادة عليك!
في ‘صبوات ياسين’ الظاهر بيبرس دمغنا جميعا ودمغ الحضارة الاسلامية حين جاء بمثقفي عصره ليكتبوا سيرته، وهي من اعجب السير في التاريخ، سيرة الحاكم ظلّ الله على الارض، وقد عاش هذا الكتاب 800 عام وهو يصنع تاريخنا وثقافتنا حكاما ومحكومين.
رواية ‘لو لم يكن اسمها فاطمة’ حاولت من خلالها ان اصنع شيئا جديدا. مخرج سينمائي عاطل عن العمل ، يتعاقد مع احدى الشركات التلفزيونية الفرنسية ليصنع افلاما وثائقية عن المدن المنسية او الميتة في سورية، وما اكثرها، من تدمر الى الرصافة مرورا بايبلا، يمضي الى تلك المدن ليصورها وهو يسكن في مدينة عادية حيّة، لكنه يعيش في سراب غامض، ليكتشف في النهاية ان مدينته الحيّة قد ماتت، لانها مدن تعيش كلها في قوانين وزمن ما قبل المدينة.
البعض حاول الخروج من العمارة البيبرسية الى العمارة الغربية لكنهم تعجلوا كثيرا، والبعض الاخر حاول تقليد ‘جورج سيمنون’ الذي كتب عددا هائلا من الروايات باللغة الفرنسية، روايات للتسلية وتمضية الوقت، روايات لا تطرح اسئلة، لكني لا اعرف كم نحن بحاجة لهذا النمط الروائي، اذا اعتبرناه نمطا روائيا حقيقيا. لانني اعتقد اننا في حضارتنا العربية الاسلامية بحاجة الى اعادة طرح الاسئلة، والرواية احدى المفاتيح التي تلج بنا عالم السؤال. وهذه المسألة شكلت هاجسا او هما اساسيا في تجربتي.
في السؤال عن الاهتمام بالتاريخ وقراءة التاريخ يقول خيري الذهبي:
الفكر العربي الاسلامي توقف تطوره منذ القرن الرابع الهجري وحتى الان، لم يستطع ان يقدم شيئا، حتى المذاهب الاسلامية التي كانت تجتهد وتتصارع فيما بينها توقفت عن التطور، وضعت في ‘فريزا’.
امّا بالنسبة للرواية فاعتقد اننا تخلينا منذ بدايات القرن العشرين عن النزعة الفانتازية في تراثنا السردي، والتحقنا بالمدرسة الواقعية حيث الزمن الخطي الغائي. وقد ساد هذا المنطق في الرواية العربية لعقود. وعندما كتبت روايتي ‘ملكوت البسطاء’ ونشرتها عام 1975 كنت مخلصا لثقافتي المزدوجة. لذلك جاءت رواية اصوات، وكل صوت فيها يُقدّم رؤية للعالم وتجربته في الحدث، وفي كل صوت من هذه الرواية نجد زمنا داخليا متراصفا، وهذه تقنية كانت متقدمة على صعيد الرواية السورية. وكنت عند كتابتها مهتماً بقراءة ازمة العالم الاسلامي العربي الذي اكتشف نفسه في خضم الحياة بعد انقطاع 15 قرنا عن العالم وحداثته وفضائه.
هل انا مسكون بالتاريخ؟ ربما اكون حاولت قراءة الحاضر بالعودة الى ادراج الماضي، فقدمت العام المنصرم وضمن مساهمة الهيئة العامة للكتاب في احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية مجموعة كتب عن مدينة دمشق وتاريخها وحيواتها والصراعات التي دارت حولها، واعتقد انني افدت بها الاخرين كما افدت نفسي، راجيا ان يعرف الجيل الجديد شيئا عن عالمهم، واقعهم، تاريخهم، مدينتهم، ولو معرفة صغيرة.
اما عن هواجس الجغرافيا فيتابع خيري الذهبي قائلا:
بداية منع انتشار دولة المدينة ظهور الدولة الواحدة في بلاد الشام باستثناء المرحلة الاموية، ومع سقوط الدولة العثمانية بداية القرن العشرين انتعش حلم الدولة العربية الواحدة او الشاملة، وهو حلم شامي ان صحّ التعبير، فالشاميون هم من فرضوا انفسهم على الشريف حسين وفيما بعد على جمال عبد الناصر، فكانت رغبتهم باقامة دولة واحدة اقوى من شروط تحقيق هذه الوحدة، فجاءت تلك المشاريع خارج المكان ورغم المكانة وربما لذلك فشلت هذه المشاريع التوحيدية والوحدوية.
لكننا في سورية احسسنا باستمرار انّ الوطن الذي فُرض علينا هو وطـن مؤقت، وطن مَعْبَر باتجاه الوطن المأمول الواحد، ومن هنا كان السوريون يخافون الحديــــث عن المكان باعتباره خيانة لحلمهم التوحيدي، بينما انا نشأت في مصر، ولذلك لم اكن اخاف من المكان، بالعكس، تجد كل رواياتي ترتبط بقوة بالمكان، بل يتحوّل المكان فيها الى عنصر اساسي في معمار الرواية.
في ‘صبوات ياسين’ يُفاجأ كاتب صغير بانقلاب يحرمه من حقوقه في الكتابة، ويتعرّض لضغوط خارجية ونفسية، تقدم له الرشاوى والعطاءات، يعيش صراعه بين التطهر وبين الاستسلام، فيستسلم في النهاية ليصبح كاتبا لسيرة السلطان، لكنه في الوقت ذاته يبدأ كتابة سيرته الشخصية، وهكذا يعيش شيزوفرينيا وانفصاما ككل مثقفينا، وتتطوّر الرواية، لكنه يظلّ يرى العالم بعيني شخصيتين منفصلتين، هو والاخر في لعبة روائية تحتفي بالفانتازيا والخيال.
في روايتي الجديدة ‘رقصة البهلوان الاخيرة’ حاولت ان اكتشف سرّ الالم والوجع الذي تعيشه مجتمعاتنا العربية والاسلامية، مجتمعات ما زالت عاجزة عن مجابهة الاسئلة الكبيرة، مجتمعات تستسلم لقدرها المزري.
القدس العربي