حَوْلَ تَمدِّيدِ الحُكْمِ في الأنظِمةِ العربيَّةِ المُعَاصِرة
د. مُحمّد حِلمي عبد الوَّهاب*
يُنْسَبُ للإمام عليّ أنه قال: “مَنْ مَلَكَ استبد”!، وهو ما أكدهُ ابن خلدون لاحقاً بقولِهِ: “إنَّ المُلْكَ يعْني التغلُب والحُكم بالقهر، فصاحِبُ العصبيّةِ [السُلطة] إذا بلغَ رُتْبَةً طلبَ ما فوقها؛ فإذا بلغَ رُتْبَةَ السُؤْدَدِ والإتباع ووجدَ السبْيلَ إلى التغلُّبِ والقهر لا يَتْرُكهُ لأنه مطلوبٌ للنفس”.
وما نودُ أنْ نؤّكِدَ عليه من خلال هذين الاستشهادين هو أنَّ “السُلطةَ المُطلقة مَفْسَدَةٌ مُطلقة”. وتبعاً لذلك، تتأتى الأهمية القصوى لمبدأ “تداول السلطة” في المجتمعات الإنسانيّة لأنَّ الإِبقاءَ على نظامٍ سياسيٍّ مُعين في السلطة لمدة طويلة من شأنِهِ أن يُفرزَ بمرور الوقت كياناتٍ فاسدةٍ تدور في فلكه، أو تتركزُ من حوله مهما بلغت درجة نجاحه ونزاهته.
غيْرَ أنّ أغلبَ الأنظمةِ العربية، والتي عادةً ما تتشدَّقُ بالديمقراطية، دائماً ما “تُباغت” مواطنيها بإجراءِ تعديلاتٍ دُستوريّةٍ تُتيحُ لها البقاءَ في السلطة إلى الأبد!. ولعل آخر هذه الأخبار “المُباغتة” ما حدثَ مؤخراً من إقْرارِ البرلمانِ الجزائريّ تعديلاتٍ دُستوريّةٍ تُتيحُ للرئيس بوتفليقة الترشح لولايةٍ رئاسيّةٍ ثالثة!!.
وفي الواقع، إنَّ ما يجري في الجزائر الآن ليسَ بعيداً عن مُحاولاتِ التوريث التي تتمُ سراً أو علانيّةً في أكثر من مكان (سواء في ليبيا أو في مصر) اقتداءً بسوريّا بشار الأسد. كما أنهُ ليْسَ بعيداً أيضاً عمّا حدث في الماضي من تأبيدِ السُلطة لصالح أنظمةِ الحِزبِ الواحد.
ومما لا شك فيه، أنَّ جانِباً مُهماً من العقدِّ الاجتماعيَّ الذي تكْشِفُ عنهُ “رُوحُ القوانين”، على حد تعبير مونتسكيو، إنَّمَا يظْهَرُ في البنيّةِ العامَّةِ للسُلطةِ السياسيةِ وكيفيةِ توزيعهَا. وتبعاً لذلك، فإنَ أيَةَ تعديلاتٍ دستوريّةٍ ينْبغي أنْ تنْعَكِسَ آثارُها الإيجابيّة بصورةٍ واضحةٍ على النموذج الكُليّ للنظامِ السياسيّ الذي تنقُلنا إليهِ، أوْ لا تنقُلنا إليه.
ومن ثمَّ، إذا ما قُدِّرَ لأيّةِ تعديلاتِ دُستوريّةِ أنْ تتوافقَ معَ رُوحِ القوانين فسيُفْضي ذلكَ حتماً إلى تحقيقِ أمْرينِ رئيسين:
الأول: إنتاجُ نمطٍ للعلاقة بين الدولةِ والمجتمع يكونُ بديلاً للنمط السائد في العصور الوسطى والقديمة.
الثاني: بناءُ نظامٍ سياسيٍّ يُتيحُ للمجتمع تحقيقَ أكبر قَدْر مُمكن من الانسجام الحُر، وبناءُ التوافُق من خلال نماذجَ وهياكلَ واضحة تُنظِّمُ التفاوُضَ الاجتماعيّ على المستوياتِ كافةً.
أي أنَّ المحكَ الأساسيّ في أيةِ تعْديلاتٍ دُستوريّةٍ إنمَّا يتلخصُ في التساؤلِ حولَ ما إذا كانت تسْعى إلى إعادَّةِ توزيعِ السُلُطاتِ، أمْ تعْزيزِ مَرْكزيتِها؟!.
ولدينَا بالطبعِ أسبابٌ كافيةٌ للتركيز على هذه الناحية. فبالنظر إلى مُجْملِ التعدّيلاتِ التي تمتْ بمصرَ مؤخراً يتَّضِحُ أنَّها في مُحصلتِها النهائيّة لمْ تُحقِق أيَّاً من الأهْدَافِ التي تمَّ تروِّيجُها من أجلِّ تمريرهَا. بل إنَّها، على العكسِ تماماً، أدَّتْ إلى تقْوّيةِ الاختصاصاتِ الكُليّةِ لرئيسِ الجُمهورية، وذلك بعدَمِ تصدِّيهَا لهذِهِ المُشكِلة أصْلاً مُكتفيّةً بتركِ الوضعِ على ما هو عليه، فَضْلاً عن أنَّهَا زادتْ من حِدَّةِ الاحتقانِّ السياسيِّ في المُجتمعِ المِصْريّ.
لِنَقْتَرِبَ الآنَ من وضعيَّةٍ مُغايرَةٍ تماماً في النُظُمِّ الدِيمُقراطيةِ الرائِدة. ففي الولايات المتحدة الأمريكيةِ، على سبيل المثال، استطاعَ الرئيسُ بوش كسْرَ ما يُسمى بـ “لعنةِ الرجلِ الأبيض” والبقاءِ حيّاً حتى نهايةِ ولايتهِ الثانيّة. ومع ذلك، يؤكد البعض أنه ليسَ بمقدورِهِ أن يقْهَرَ قاعِدةَ “قَيْدِّ الوُلايتَيّنِ” والتي نبعتْ من العُرفِ الدُستوريِّ الذي وضعَهُ جورج واشنطن، أول رئيس لأمريكا، حينَ رفضَ البقاءَ لفترةٍ ثالثةٍ، بالرُغمِّ من أنَّ “قيْدَ الوُلايتيّنِ” لم يكُن آنذاكَ قاعدةً قانونيّةً منصوصٌ عليها في الدُستورِ الأمريكيّ.
لكن بمرور الوقت تحوّلَ هذا العُرف إلى قاعِدةٍ ثابتةٍ لم يَخْرِقهَا سُوى رئيسٍ أمريكيٍّ واحد، هو روزفلت، الذي بَقِيَ في الحُكمِ لأربعِ وُلاياتٍ متتالية. ومع أنَّ فترةَ حُكْمِهِ الإجماليةَ، كما لاحظ البعض، لم تَزِدْ على اثنتيْ عشرةً سنةً، وعلى الرُغمِ من أنَّها هي التي صنَعتْ أمريكا كقوَةٍ عُظمى بعد تحررهَا من الكسادِ العظيم وفوزها في الحربِ العالميةِ الثانية، لمْ يترددِّ الأمريكيونُ في وضعِ التعديل رقم 22 من الدُستور عامَ 1951 والذي نصَ رسمياً على “قيْدِ الوُلايتين” مُحدِدَاً مجموعهمَا بثماني سنوات.
ولمْ تكَدْ تَمْضِ أربعونَ سنةً على هذا التاريخ، فيما يؤكد د. محمّد السيَّد سعيد، حتى صارَ هذا القَيْدُ أمراً أساسيّاً بالنسبةِ للغالبيةِ العُظمى من الدساتيرِ الديمقراطية التي تأخُذُ بالنظام الرئاسي. وفي أوروبا، لا يقْتَصِرُ هذا القيدُ على الدول القليلةِ التي تأخُذُ بالنظامِ الرئاسي، مثل روسيا ورومانيا، وإنما يمْتَدُ كذلكَ إلى الدُولِ التي تأخُذُ بالنظامِ البرلمانيّ كالنمسا، وإيطاليا، وألمانيا…إلخ.
أما فرنسا، فتبْقَي بمثابةِ الاستثناءِ الكبير والمُهم حيث لم يأخُذْ دُستورُها بقيدِ الولايتين، وإنْ أصبحَ فيما بعْدُ يُجَسِّدُ نوعاً من “العُرْفِ الدُستوري” خاصةً بعد أن التزمَ بهِ الرئيسُ الفرنسيُ الوحيد الذي أكْمَلَ وُلايةً ثانيةً مُتصّلَةً منذ عام 1945، وهو الرئيسُ ميتران.
وحقيقةُ القولِ إنَّ لهذا المبدأ علاقةٌ وطيدةٌ بإمكانيّةِ التحُول الديمقراطي من عدمه. فإذا مسحنا تجاربَ التحُول الديمقراطي خلالَ العِشرينَ عاماً الماضية لوجدْنَا أنَّ الدُول التي حققت انتقالاً ديمقراطيّاً قويّاً قد التزمتْ بهذا القيد، أو على الأقل تركتِ النظامَ الرئاسيَ كليّةً إلى النظامِ البرلمَانيّ.
أما الدُولُ التي لم تحقق انتقالاً ديمقراطيا، كبلادنا العربية، فقد استمر فيها الحُكمُ الرئاسيُ الأبدي حيْثُ يجثُمُ على صُدور الشُعوب العربيَّة حكامٌ جاوزتْ فتراتُ حُكمِهم رُبعَ قرْنٍ منَ الزمان (كصدام، والقذافي، ومبارك، وآخرون). وهو ما يذكرنا بدول آسيا الوسطى التي تولى رؤساؤُها السُلطةَ أثناءَ الحُقْبةِ السوفياتيّة، ولم يترُكْ أحدٌ منهم الحُكم إلا بسببِ الوفاة!!. ونتيجةً لذلك، لمْ تشْهَد أيُّ دولةٍ من الدول الستِ انتقالاً ديمقراطيا نتيجةَ عدمِ التزامِ دُستورِ الاستقلالِ بهذا القيد.
أما في دُول شرق آسيا، فكانَ الوضعُ مُختلِفاً تماماً حيثُ أسْرَعَ المُجتمعُ بوضعِ “قيد الولايتين” بعد أنْ حقّقَ النضالُ الديمقراطي أولَ انتصارٍ لهُ، وتُجسِّدُ كوريا الجنوبيةُ هذهِ الحقيقة بوضوحٍ تام.
ومع إقرارنا بأنَّ الديمقراطيةَ لا تعْني فقط مَحْضَ التداوُّلِ على السُلطة، إلا أنَّ فتحَ البابِ على مصراعيهِ أمامَ توّلي السُلطة الرئاسية دونَ قيدٍ زمنيٍ يؤدي ضرورةً إلى زيادةِ رُقْعَةِ الاستبداد حيث يتمكنُ الزعماءُ الأبديونَ من جمعِ السُلطاتِ الكُبرى ومَرْكَزتِهَا بأيديهم للدَّرجةِ التي يُصْبِحُ فيها من الاستحالةِ بمكانٍ استعادّةُ سيادةِ الشعب، أو تحقيقُ أدنى درجَةٍ من التوازُن المطلوب بين السلطات، أو حتى مُجردَ الدِّفاعِ، إذا ما اقتضتِ الحاجَةُ، عن الحُريّاتِ العامّة.
هَذا بالطبعِ فَضْلاً عن تحويلِ البلاد إلى ضَيْعَاتٍ شخْصيَّةِ لأسر الحُكام، وانعدام تحْقيقِ الحدِّ الأدْنى لقيم العدَّالةِ والحُريَّةِ والمُسَاوَّاة. إضافةً إلى إضْعَافِ قُدرَةِ الهيئاتِ النيابيّةِ، بَلْ والمجتمعِ المدنيِّ والسياسيِّ بأكمَلِهِ، والعجزِ عن مُوازَنةِ سُلُطَاتِ الرئيس التنفيذية الفعلية ممّا يؤدي إلى تَعَطُّلِ آلياتِ الديمقراطية واعتبارِ القفز عليها أمْرَاً مستساغا وشَائِعاً لدّرجةِ أنْ تزداد الشُعوبُ المغلوبةُ على أمْرهَا قنَاعَةً، يوْمَاً بعْدَ يوْمٍ ،بأنَّهُ مَا مِنْ أمَل أو حتى فَائِدةٍ في التغيير، وأنَّهُ لَيْسَ في الإمّكَانِ أفْضَلُ ممَّا كان!!.
هذا المقال هو منشور بالتعاون مع مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org
* د. مُحمّد حِلمي عبد الوَّهاب باحث و كاتب مصري.