التسامح كلمة منبوذة
موفق نيربية
كان أول ما لفت انتباهي في هذا الموضوع هو مفارقة أن يكون اليوم العالمي للتسامح في السادس عشر من نوفمبر في كل عام، وهو يوم تحتفل فيه الحكومة في سورية، لأنه ذكرى «الحركة التصحيحية» التي قادها الرئيس الراحل حافظ الأسد في إطار حزب البعث الحاكم آنذاك، وتأسس بعدها نظام الحكم الحالي تحت قيادة وتسمية الحزب نفسه.
لكن الأكثر أهميةً خلوّ الخطاب العربي- أو يكاد- من كلمة «التسامح»، فيما يشبه التجنب أو التحاشي أو التطيّر فالتغاضي، ولعلّ هذه الكلمة- بمفهومها وحروفها- تتناقض مع الذكورة والفحولة والعنفوان، وهي جميعها من أدوات تحقيق الهوية الضائعة، عند نخبة في أمة، لا تني تندب هويتها ومجدها، فتركّز على ما هو موجود منها دون تمحيص ومراجعة، وتنبذ ما هو غريب ومشبوه ويساعد على الركون إلى السلم أو الفكر أو تراخي الهمة، بما هو أقرب إلى المعنى الفيزيائي المباشر، قتالاً أو صوتاً أو ألواناً صارخة ووجوهاً عابسة يؤلمها الابتسام.
من ذلك أيضاً، أنني بصعوبة وجدت ترجمة عربية «لجامعة أميركية» غير شائعة لإعلان اليونسكو الدولي حول التسامح، واحتفاءً من أقليات هنا وهناك. غير أن هنالك سبباً آخر يمكن أن يكون قد لعب دوراً في ذلك، فبعد تمرير وفود الدول لأعضاء في اليونسكو- ونحن منها- لنصّ الإعلان وتوقيعها عليه، ربّما أرادت إخفاء كلمتين منه وردتا في «حيثياته» الطويلة. جاءت تلكما الكلمتان في فقرة تتحدث عن أن من أسباب صوغ هذا الإعلان تنبّه الدول الموقعة إلى « فعل التيار المتنامي في الأعمال المتعلقة بعدم التسامح والعنف والإرهاب ورُهاب الأجانب والنزعة القومية العدوانية والعنصرية ومعاداة السامية والإقصاء والتهميش والتمييز الموجّه ضدّ الأقليات القومية والعرقية والدينية واللغوية، واللاجئين والعمال المهاجرين، والجماعات النازحة والضعيفة ضمن المجتمعات… وبالمقدار نفسه أفعال العنف والاضطهاد المرتكبة بحق الأفراد الذين يمارسون حريّتهم في الرأي والتعبير. كل ذلك يهدّد تعزيز السلم والديمقراطية، على المستويين الوطني والدولي، ويضع العقبات أمام التنمية». والكلمتان المعنيتان هنا هما «معاداة السامية»، التي تخشى نخبنا الحاكمة وجزء محترم الحجم من تلك غير الحاكمة، أن تعني الوقوف ضد محرقة اليهود أو التعاطف معهم أو أشياء من هذا القبيل.
تتحدث المادة الأولى في الإعلان عن «معنى التسامح»، وتنقسم إلى أربعة أقسام. يفسّر أولها المفهوم ويعرّفه من الناحية الإيجابية، فيقول إن «التسامح هو احترام وقبول وتقدير التنوّع الغني في ثقافات عالمنا، وفي أشكال التعبير ووسائل تحقيق إنسانيتنا. إنه يتغذّى على المعرفة والانفتاح والتواصل وحرية الفكر والضمير والاعتقاد. التسامح هو الائتلاف في الاختلاف. وهو ليس واجباً أخلاقياً وحسب، بل أيضاً التزام سياسي وحقوقي. التسامح من حيث هو فضيلة يجعل السلام ممكناً، ويسهم في استبدال ثقافة الحرب بثقافة السلام».
في القسم الثاني ينفي عنه ما ليس منه، ليقول إن «التسامح ليس التنازل والتعطّف والتغاضي. التسامح قبل أيّ شيء موقف فعّال يحفزه الاعتراف بحقوق الإنسان الكونية والحريات الأساسية للآخرين. ولا يمكن تحت أيّ ظرف أن يُستخدم لإضفاء الشرعية على التعديات على هذه القيم الأساسية. ممارسة التسامح واجبة على الأفراد والجماعات والدول».
ويرفض في سياق القسم الثالث كونه مجرد مفهوم وفاكهة فكرية وأخلاقية، ليقول إن للتسامح عائلته من القيم والأهداف، وإنه «المسؤولية التي تعضد حقوق الإنسان والتعددية (بما فيها التعددية الثقافية) والديمقراطية وحكم القانون. إنه يتضمن رفض الدوغماتية والإطلاقية، وتأكيد المعايير التي تم تحديدها في مواثيق حقوق الإنسان الدولية».
وخشيةَ سوء الفهم، وتعبيراً عن أن التسامح بذاته قد يكون أساساً للنضال، يعرّج الإعلان على أن ممارسته بتوافقها مع حقوق الإنسان، لا تعني «إباحةَ الظلم الاجتماعي أو هجر الإنسان لقناعاته أو إضعافها. إنها تعني أن المرء حر في الالتزام بقناعاته الخاصة، وأنه يقبل التزام الآخرين بقناعاتهم. إنها تعني قبول واقع أن البشر المختلفين بطبيعتهم في المظهر والحالة والخطاب والسلوك والقيم، يملكون الحق في الحياة بسلام، وفي أن يكونوا كما هم عليه. إنها تعني كذلك أن وجهات نظر المرء يجب ألاّ تُفرَض على الآخرين».
فهو عندنا، حين يسمع الكثيرون جَرسَه، يعني إدارة الخدّ أو تصعيرَه، والابتسام أمام الظلم والمهانة وضياع الحقوق، أو ضياع الفحولة عند أهلها الذين يرونها حيث ينبغي ألاّ يروها، في حين من الحريّ بنا إيلاؤه الأهميةَ الكبرى، ونحن نهوي إلى المزيد من التشتّت والتفرق بفعل العوامل المذكورة في الإعلان أعلاه… قبل مفاعيل الاستعمار والصهيونية والماسونية وبروتوكولات حكماء صهيون… أو ما يطرأ كل يوم!
* كاتب سوري