كفانا مصالحات شكلية
عبد الباري عطوان
ترتفع حرارة الاتصالات، السرية والعلنية، بين عواصم المثلث المصري – السوري – السعودي، تحت عنوان ترتيب عقد قمة مصالحة، لتوفير الحد الأدنى من المناخات الملائمة لانجاح قمة الدوحة العادية المقرر انعقادها مع نهاية شهر آذار (مارس) الجاري.
العبارة الأكثر تردداً هذه الأيام على ألسنة المسؤولين في الدول الثلاث، وأجهزة اعلامها، التأكيد على عدم الرغبة في مصالحة ‘تبويس اللحى’، وانما ضرورة اجراء بحث متعمق للقضايا الخلافية الاستراتيجية، التي أدت إلى تفاقم الخلافات وتطورها إلى الحالة المؤسفة التي تبلورت في أبشع صورها أثناء ‘حرب القمم’ العربية الأخيرة.
العودة إلى جذور الخلافات أمر جميل ومحمود، ولكن ما يمكن الخوف منه هو معايير هذه العودة والمناهج المتبعة في هذا الصدد. فلا بد من التسليم ببعض البديهيات أولاً، والقول بأن هذه الخلافات نشأت بسبب قرار بعض العرب، خوفاً أو قناعةً، بالوقوف في خندق ادارة أمريكية تعاملت مع شعوب المنطقة وقادتها كأنهم قطيع من الغنم تسوقهم بالعصا لخدمة مصالحها وحروبها. ولهذا أيد هؤلاء احتلالها للعراق، وتواطأوا مع حربي حليفتها اسرائيل في جنوب لبنان أولاً وغزة أخيراً، وتقدموا بمبادرة سلام وفق المواصفات الاسرائيلية وبإملاءات أمريكية، وذهبوا إلى مؤتمر أنابوليس بعد اسقاط جميع شروطهم، وتبنوا سلطة فلسطينية ومفاوضاتها العقيمة على حساب تهشيم مقاومة ديمقراطية مشروعة.
البعض الآخر، وهو أقلية، اختار التمرد في حدوده الدنيا، وفضل عدم الانجرار خلف مشاريع أمريكية مدمرة، علاوة على تعاظم الشكوك حول نجاحها، ودعم خياري المقاومة في لبنان وفلسطين، وجزئياً في العراق، والرهان في الوقت نفسه على أمرين: كظم الغيظ وعنصر الزمن، انتظاراً لحدوث تغيير في المعادلات الدولية والاقليمية.
بتحليل مواقف المعسكرين ورهاناتهما السياسية، وبالنظر إلى تطورات الأمور المتسارعة على الأرض، يمكن القول إن معسكر الاعتدال مُنيَ بالخسارة الأكبر، بينما بدأ معسكر الممانعة يجني بعض ثمار صبره وتمسكه بالثوابت، وهذه هي براهيننا:
أولاً: الادارة الأمريكية الجديدة لا تكن الكثير من الود لدول محور الاعتدال، والسعودية منها على وجه الخصوص، وتريد كسر احتكارها النفطي، وتقليص الاعتماد الأمريكي عليها (أمريكا تستورد مليوني برميل يومياً من النفط السعودي) ولهذا رصدت 15 مليار دولار سنوياً ولمدة عشرة أعوام لايجاد بدائل عن النفط. وانتقد أوباما أكثر من مرة الديكتاتوريات الشرق أوسطية، في اشارة إلى مصر والمملكة السعودية على وجه الخصوص.
ثانيا: تغيير السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط بدأ بوتيرة متسارعة، أبرزها فتح حوار مع ‘محور الشر’ وأطرافه الرسمية، فها هي الادارة الجديدة ترسل مبعوثين إلى سورية، وتدعو ايران إلى المشاركة في مؤتمر يعقد الشهر المقبل في أوروبا لبحث مستقبل افغانستان. وشاهدنا السيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية تطلب من تركيا استئناف وساطتها بين سورية واسرائيل. أي ان زمن عزل هذا المحور انهار ومن الدولة التي فرضته، أي أمريكا.
ثالثاً: حتى الموقف من حركات المقاومة بدأ يتغير، فها هي الحكومة البريطانية ترفع ‘الفيتو’ الذي كانت تفرضه في وجه أي حوار مع فصائلها، وتعلن عن بدء حوار رسمي مع ‘حزب الله’ وتستعد لاجراء اتصالات مباشرة وعلنية مع حركة ‘حماس’.
رابعاً: الأرضية المالية والاقتصادية الضخمة التي كانت تستند إليها دول محور الاعتدال وتغري بها الآخرين، بدأت تهتز بشكل مرعب بسبب انخفاض أسعار النفط (40 دولاراً للبرميل بعد ان كانت 148 دولاراً قبل ستة أشهر) والانهيار المالي العالمي. فهناك من يقدر خسائر الصناديق السيادية الخليجية بأكثر من 600 مليار دولار، أما الخسائر الاقتصادية فحوالى ثلاثة تريليونات دولار (البورصة السعودية انخفضت من 20 ألف نقطة إلى أربعة آلاف نقطة)، أما أسهم دبي فانخفضت بنسبة سبعين في المئة على الأقل.
من المفارقة ان أطراف محور الاعتدال لم تتضرر مطلقاً، ليس لحكمة اقتصادية، وانما لتخلف وجهل وفقر في آن، فحزب الله لا يملك صناديق استثمارية سيادية، وشيوخ حماس لا يعرفون شيئاً اسمه الأسهم، هذا اذا ملكوا أموالاً، أما سورية فليست لديها أسواق مالية، وبنوكها متواضعة جداً وتنتمي إلى الحرب الباردة!
خامساً: ايران حليفة دول الممانعة، اطلقت قمراً صناعياً في الفضاء بقدراتها الذاتية، وطورت صواريخ بعيدة المدى، واعترف الأدميرال مولن رئيس هيئة أركان الجيوش الأمريكية بأنها تمتلك حالياً 1200 كيلوغرام من اليورانيوم منخفض التخصيب يمكن ان تنتج 35 كيلوغراماً من اليورانيوم عالي التخصيب وبما يسمح ببناء قنبلة نووية. فماذا انتجب دول محور الاعتدال غير الفساد والخسائر والخدمات المتردية في معظمها؟
سادساً: فاجأت حكومة موريتانيا الفقيرة الواقعة في أقصى أطراف العالم العربي غرباً الجميع عندما أغلقت السفارة الاسرائيلية وطردت جميع دبلوماسييها، احتجاجاً على مجازر غزة وانتصاراً لضحاياها، وبذلك ينتهي أي وجود اسرائيلي في دول محور الممانعة، بينما السفارات والسفراء على حالها في الكثير من عواصم دول محور الاعتدال، في مخالفة صريحة واستفزازية لمشاعر الرأي العام الوطني فيها.
سابعاً: النظام المصري، أحد أبرز قادة المحور نفسه، يبدو الأكثر تأزما بين أقرانه، واعتقد ان عقد قمم في شرم الشيخ (آخرها قمة إعمار غزة بحضور زعامات أوروبية) يمكن ان يستعيد له دوره المفقود، ولكن الأزمة أعمق من ان تحل بهذا الاسلوب، واعمق من تصديقه لأكذوبة اطلقها إعلامه في هذا الصدد. أبرز مظاهر الضعف اطلاق المعارض أيمن نور دون شرط، في خطوة استباقية لتجنب مواجهة مع الادارة الأمريكية الجديدة، وتسهيل مهمة جمال مبارك في واشنطن للتمهيد لزيارة والده وانقاذ ما يمكن انقاذه. السخط الداخلي في مصر يتسع بسبب تفاقم الفساد، واستفحال البطالة والأزمة الاقتصادية، ونزول المعدمين إلى الشوارع في اضرابات قد تكون مقدمة لعصيان مدني شامل.
أطراف أي مصالحة عربية يجب ان تضع كل هذه الحقائق في حسابها، قبل الجلوس الى مائدة المصارحة، سواء في قمة ثلاثية أو رباعية. فما كان يصلح قبل ثلاثين عاماً أيام الحرب الباردة لم يعد يصلح اليوم. فالرأي العام العربي تغير، وأدوات الاتصال تغيرت أيضاً، وباتت عملية الوصول إلى المعلومات أسهل بكثير وبمجرد ضغطة زر.
عودة المثلث المصري – السوري – السعودي الذي حكم المنطقة ثلاثين عاماً، وشكّل محور ارتكاز للمشاريع الأمريكية، غير ممكنة بالصورة القديمة على الأقل. لان سورية تغيرت، والمنطقة تغيرت أيضاً. وقد حمدنا الله كثيراً على ان سورية خرجت من هذا المثلث وارتهاناته، لان هذا الخروج أعاد المنطقة إلى مسارها الصحيح، أي وجود تيارات واجتهادات مختلفة، حكومة ومعارضة، اعتدال وممانعة، والخلاف بين العرب رحمة على أية حال.
التضامن العربي بصيغته السعودية القديمة، أي تسكين المشاكل، واللجوء إلى ‘خيار الصفر’ أي عدم الحركة لتجنب الخطأ، انتهى، ويجب ان لا يعود أيضاً إلاّ في حالة واحدة، أي التضامن على أرضية مساندة المقاومة، والتصدي لمشاريع الهيمنة الغربية، والتأسيس لمشروع نهضوي عربي، في مواجهة اسرائيل وبالتوازي مع مشاريع تركية – وايرانية.
المصالحة حتى تتم يجب ان تتحقق لها عدة شروط، أولها تواضع دول محور الاعتدال، والاعتراف بفشل سياساتها السابقة، وحدوث تغييرات جذرية في المنطقة والعالم تحتم سحب مبادرتها السلمية المهينة والمهانة، والاستعداد لتبني بدائل أكثر فاعلية، والتخلي عن القول بانعدام هذه البدائل.
في المقابل يجب ان تدرك أطراف محور الممانعة انها بحاجة إلى الآخرين باعتبارهم عمقاً استراتيجياً، وعدم اسقاط العوامل القومية والمذهبية من حساباتها الاقليمية، وتجنب آفة الغرور المتسربة إلى صفوفها بعد انتصارات غزة وجنوب لبنان، والانفتاح الأمريكي الأوروبي الأخير عليها.
الجهود العربية الحالية يجب ان لا يكون انجاح قمة الدوحة المقبلة هو سقفها الأعلى، وانما التأسيس لوفاق عربي استراتيجي حقيقي يمتد إلى ما بعدها. ونعترف اننا لسنا متفائلين كثيراً في هذا الصدد. فنحن أمام عقليات مختلفة، بل وأجيال مختلفة، ولكن أكثر صراحة، ونقول كيف يمكن التفاهم بين رئيس سوري في الاربعين ورئيس مصري في الثمانين، وملك سعودي في الخامسة والثمانين على استراتيجيات للمستقبل، والتخطيط لخمسين أو حتى عشرين عاماً؟
جيادنا هرمة، أنهكها الحكم، ناهيك عن المرض أو الشيخوخة، أو الاثنين معاً، ولهذا تبدو الصورة أمامنا قاتمة، والتغيير صعب، ان لم يكن مستحيلاً، حتى لو حَسُنت النوايا.
القدس العربي