المحكمة الجنائية الدولية والتوظيف السياسي
توفيق المديني
أثارت مذكرة التوقيف التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية يوم الأربعاء 4 مارس الجاري بحق الرئيس السوداني عمر حسن البشير بسبعة اتهامات تتعلق ب«جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية» في إقليم دارفور، وأسقطت عنه تهمة الإبادة الجماعية لعدم كفاية الأدلة، جدلاً ساخناً في أوساط النخب الفكرية والسياسية العربية، حول صلاحية المحكمة الجنائية الدولية.
ولاسيما أن المجتمع الدولي الذي تهيمن عليه القوى العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، يعيش مرحلة من التراجع لجهة تطبيق أسس القانون الدولي، الأمر الذي يعطي للمشككين بنزاهة المحكمة والعدالة الدولية مبرراً كافياً باتهام هذه الأخيرة باستخدام المعايير المزدوجة.
بداية لابد من التأكيد أن المحكمة الجنائية الدولية أنشئت بموجب معاهدة دولية ملزمة للدول التي صدقت على الانضمام إليها دون غيرها، وقد سميت هذه المعاهدة باسم نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية، الذي تم اعتماده في روما في 17 حزيران 1998.
ويذكر الخبير في القانون الدولي الدكتور محمد سليم العوا، أن الدول التي صدقت على هذه المعاهدة بلغ عددها حتى 1/6/2008، 106 دول، منها 30 دولة افريقية، و13 دولة آسيوية، و16 دولة أوروبية شرقية، و22 دولة من أميركا اللاتينية ودول البحر الكاريبي، و25 دولة من أوروبا الغربية وغيرها، ويدخل تحت تعبير (وغيرها) الوارد في البيان الرسمي للدول الأعضاء في نظام روما، دولتان عربيتان، هما: الأردن وجيبوتي، ولم تصدق أي دولة عربية سوى هاتين الدولتين على نظام المحكمة.
وإذا كان قرار المحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس السوداني «نزيها»، فهل يمكن انطلاقاً من هذه السابقة، محاكمة المسئولين عن الحرب الخارجة عن القانون الدولي ضد العراق،التي خلفت دولة مدمرة وملايين من الضحايا بين قتلى وجرحى ونازحين، من دون أن يحرك القضاء الدولي أي ساكن ضد المسئولين الأميركيين والبريطانيين؟ وهل يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تنظر جرائم الحرب المرتكبة في الأراضي الفلسطينية على امتداد عقود من الزمن؟
بكل تأكيد، ولا واحدة على الأرجح، لأن الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وإسرائيل وضمن حدود مختلفة هي من الدول المسيطرة، ولم توقع على المعاهدة التي بموجبها تشكلت المحكمة الجنائية الدولية. لكن عدم التصديق على المحكمة الجنائية الدولية، لا يعني أن الحكام أصبحوا يتمتعون بالحصانة المطلقة من العقاب، أو جزاء التاريخ.
المحكمة الجنائية الدولية لا يمكنها التدخل مثلاً إلا إذا كانت الدولة التي وقعت فيها الجريمة والتي ينتمي إليها المتهم قد صدقت على هذه المحكمة، كما أنه يمكن لمجلس الأمن تعليق التحقيقات التي يجريها المدعي العام. كما أن المحكمة الجنائية الدولية ليست لها صلاحيات، إلا إذا كانت الدول لا تمتلك الإرادة أو الوسائل لملاحقة مرتكبي الجرائم.
غير أن الإشكالية تبرز في العالم الثالث عامة، والعالم العربي خاصة، حيث طبيعة الدولة هي من النمط التسلطي والشمولي، فضلاً عن غياب مبدأ العدالة والمساواة، وانتشار الفساد داخل الأطر السلطوية بلا استثناء، كل ذلك يجعل من اضطلاع المحاكم الوطنية بإقرار العدالة مسألة مستحيلة، وهذا ما يدفع بالأفراد والمنظمات غير الحكومية ولجان حقوق الإنسان إلى تنسيق جهودهم للتعبير بقوة عن مطالبهم، دعماً لتحقيق العدالة في بلدانهم، التي كانت دولهم قد اعتمدتها شكلياً في دساتيرها فقط قبل أن تدفنها خلال العقود الأربعة الماضية من عمر الدولة التسلطية العربية.
لا يزال القانون الدولي مبنياً على مبدأ سيادة الدول، ولا تزال الدول والحكام يحتفظون بوسائل حماية فعالة.
غير أن هذه الحصانة التي يتمتع بها رؤساء الدول والدبلوماسيون ليست حصانة مطلقة، ولا تشمل فئة خاصة من الجرائم هي على جانب من الأهمية، مثل جرائم ضد الإنسانية أو الجرائم الجماعية، التي لا حصانة لها، لأنها من الجرائم التي لها وضعها الخاص في القانون الدولي.
وهناك قواعد في القانون الدولي لا يجوز التنصل منها، وتشمل هذه القواعد السامية منع الجرائم ضد الإنسانية وللدول كافة الصلاحية في محاكمة المتهمين بمثل هذه الجرائم عملاً بمبدأ الصلاحية الشاملة.