عدالة لدارفور ولا عزاء للسودان
عبد الوهاب بدرخان
ربما كان النظام الدولي أكثر إقناعاً -بأنه يلتزم العدالة ويحترمها- لو أن الولايات المتحدة كانت في طليعة الموقعين على اتفاق إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، ولو أن روسيا والصين كانت لديهما تحفظات أقل على عملها والتعامل معها، ولو أن إسرائيل استشعرت في هذه المحكمة ما يمكن أن يردعها عن جعل جرائم الحرب والإبادة والجرائم ضد الإنسانية تمريناً يومياً لجنودها من دون أن تخشى أي لوم أو إدانة.
زمان طويل مضى على النظام الدولي من دون أن تكون العدالة محوراً لسياساته وقراراته وصفقاته. زمان طويل مرّ وأصبح فيه ذكر كلمة “العدالة” مثاراً لسخرية خبراء السياسة في الدول الكبرى، فيقول الأميركيون مثلاً: “لا أحد يشير إلى العدالة عندما يتحدثون عن الشرق الأوسط في واشنطن”، أو يقول البريطانيون “إنها مجرد وجهة نظر”، أو يقول الروس “إنها لعبة الدول الصغيرة”… هذه من أهم القيم التي ميزت تطور البشرية، لكنها انزلقت سريعاً إلى الانقراض، كأن بعضها اندثر تحت ركامات الحرب العالمية الثانية، أما بعضها الآخر، فاحتكر لمحاكمة من يمكن التقاطه من مجرمي الحرب النازيين بتهمة المشاركة في “الهولوكوست”، ومذّاك لم يبق منها شيء للتعامل مع أي “هولوكوست” مستجد على أيدي الإسرائيليين أو سواهم.
أبناء دارفور، السودانيون المسلمون، يطلبون العدالة. لم لا، هذا حقهم، ومن تعوزه عدالة دولته وجيشه وشعبه، لابد أن يبحث عنها حيث توجد. قبلهم افتقد البوسنيون المسلمون هذه العدالة، وحصلوا عليها. وقبلهم احتاج إليها الروانديون أشد الحاجة، وحصلوا عليها. قبلهم أيضاً طالب بها الكمبوديون، ومع الدارفوريين، يطالب بها الفلسطينيون، ولديهم الحق، وفيما تبدي الولايات المتحدة كل الحماس والاندفاع لمعاقبة الرئيس السوداني، إلا أننا سنشهد من جانبها كل الحماس والاندفاع لإحباط أي محاولة لجرجرة إسرائيل إلى المحكمة، فالمهم في عدالة الأميركيين والإسرائيليين هو الأدلة وليس جثث الضحايا، أو آثار الجرائم في أجساد الأحياء المصابين والمعوّقين.
إذا كان للعدالة الدولية أن تبدأ من أرض السودان، فليكن. أما أن تنطلق هذه العدالة بتمييز صارخ واستثناءاتها مفروضة فهذا يجردها طبعاً من أي مصداقية، ولا تعود عدالة أصلاً. إذ لا يعني ذلك سوى أن “الجنجويد” الأميركيين الذين عربدوا في شوارع بغداد وحارات بعقوبة مختلفون عن “الجنجويد “السودانيين، الذين أجازوا ويجيزون لأنفسهم كل أنواع الانتهاكات ضد مواطنيهم الدارفوريين. فهؤلاء يصلحون وقوداً للمحاكمات، وأولئك يتأهلون لحمل الأوسمة. بل يعني ذلك أيضاً أن إيهود باراك وتسيبي ليفني وغابي اشكينازي مجازون طبعاً للقيام بأي وحشية تخطر في بالهم، أما عمر البشير وأحمد هارون وعلي قشيب فمدعوون الى عدم الإفلات من العقاب.
هي ليست بداية سودانية للعدالة الدولية فحسب، وإنما بداية لسابقة لإصدار مذكرة باعتقال رئيس لا يزال في منصبه، بل أيضاً بداية لعدالة معّلبة لا تأبه بضحايا المشتبه بإجرامه وإنما تهتم أكثر بوضعه جزءاً من نفط السودان في رعاية الصينيين، وبشرائه أسلحة من مصادر غير أميركية، وبتعاونه الواسع مع الإيرانيين، وباحتمال تصرفه بيورانيوم دارفور لمصلحة دول مصنفة غربياً إما بأنها إرهابية أو مارقة… “ذنوب” كثيرة ارتكبها البشير طوال عشرين عاماً باسم “ثورة الإنقاذ”، التي كان يفترض أن تعني إنقاذ السودان، وإذا بها تؤول إلى رمي السودان في براثن المجهول. فهناك الآن وضعية إقليمية، مسندة دولياً، تفتح البلد على كل احتمالات التحارب الداخلي المعمم، وبالتالي التقسيم والتفتيت.
الأكثر عدالة لدارفور، وللسودان، أن تتبلور الآن إرادة دولية وإقليمية لوقف القتال ووضع حد للمأساة، إذا كان المجتمع الدولي يريد أن تبقى دولة في السودان وحكم في الخرطوم. فمذكرة الاعتقال أعطبت صورة المتهم وهيبة حكمه، لكنها فتحت لتوّها الباب لمزيد من الويلات الإنسانية. صحيح أن للعدالة ثمنا – كما للجريمة- لكن تحديد الأولويات ينطوي على حكمة لابد من احترامها، وعلى المجتمع الدولي أن يقرر إذا كان يهمه أكثر أن يتلذذ برؤية البشير وراء القضبان أم برؤية مليون ونصف مليون إنسان يهيمون على وجوههم، باحثين عن ماء وغذاء وملاذ من دون أن تكون هناك نهاية قريبة لمحنتهم.
العقيد معمر القذافي يعرف عما يتكلم، فهو أحد “اللاعبين” في دارفور، وقد تساءل قبل أيام لماذا يلاحق البشير وحده طالما أن هناك أطرافا كثيرة متورطة في النزاع. لكن مشكلة هذه الأطراف الكثيرة أنها لا تتدخل في دارفور من أجل أهله، أو من أجل العدالة الدولية، وإنما لأنها تشعر بأن ثمة كعكة سيصار إلى اقتسامها يوماً. وفي انتظار هذا اليوم ستبقى الأطراف هذه متفقة على أمر واحد: استمرار القتال والتشريد والإذلال والتجويع، خصوصاً أن المذنب بات الآن مشهوراً، بدليل مذكرة الاعتقال.
الاتحاد