المرأة والعملية التربوية
د. طيب تيزيني
يحتفي قسم كبير من العالم بيوم المرأة-الإنسان على مدى أيام مديدة أو ضئيلة، ويكون ذلك بمثابة تقديم حساب بما أُنجز، وبما لم يُنجز على هذا الصعيد. وبنظرة أولية لهذه المسألة، يتضح أنها لا تمس المرأة وحدها، وإنما هي تنسحب على كل المجتمع البشري. فالمرأة موجودة في هذا الأخير بكيفية مباشرة عبر شخصها، وبأخرى غير مباشرة، عبر امتداداتها وتعبيراتها الرمزية، خصوصاً. وإذا قاربنا المرأة وفق مقولة التكوين التاريخي الذاتي، فإننا سنجد أنفسنا على حدود موقف مختلف عن التصور الراهن المهيمن والأكثر حضوراً، في قطاعات مجتمعية كثيرة. وكي نحدد المعْلم الأساس لـ(المرأة) في سياق المقولة المذكورة، يصح القول هنا بأنه يقوم على كون المرأة حالة غير ثابتة منذ ولادتها وحتى وفاتها. إنها حقاً حالة مطردة في التكوُّن والتصيُّر والنماء، وفي هذا يكمن الأساس التربوي التاريخي للمرأة.
في ذلك الأساس تكمن مصداقية القول التالي، الذي أطلقته سيمون دوبوفوار في كتابها “الجنس الآخر”: (إننا لا نولد نساء، وإنما نصبحه). ها هنا، نجد فكرة اشتغل عليها ويشتغل علم التربية، مؤسِّساً عليها إحدى النتائج الكبرى، التي ربما تقف في تعارض عميق مع الاستراتيجية التنموية في الحقل النِّسوي السائدة في بلدان كثيرة عربية وغير عربية، نعني استراتيجية النظر إلى المرأة، كما أرادتها مجتمعات ذكورية تنطلق من أن المرأة هي حصيلة “ما تفعله”، البنية الذكورية لهذه الأخيرة. فبدءاً بالسماح للصبيان باللعب في الشارع وبمنع البنات عن ذلك، وانتهاءً باشتراط سفر المرأة بموافقة زوجها أو من ينوب عنه دون أن يكون ذلك من شروط سفر الرجل حِيال امرأته، نلاحظ خطاً بيانياً متصاعداً يُفضي إلى القول بأن الرجل والمرأة خطان متوازيان لا يلتقيان. ومع التجربة الجديدة، التي راحت المرأة تعيشها حين وجدت نفسها مسوقة باتجاه العمل المجتمعي خارج المنزل، برز سيف التمييز بين الطرفين من جديد، إذ ها هنا تغيب المساواة في الكسب المادي، حتى حين تنجز المرأة ما ينجزه الرجل، أو كذلك حتى يكون إنجازها أفضل من إنجازه، نوعاً وكماً.
وإذا بحثنا في الأسباب التي يعود إليها من يسوّغون ذلك التمايز وجدناها، حسب رأي هؤلاء، ماثلة في النصوص الدينية أو في بعض التقاليد المستحكمة في المجتمع…إلخ. وتكفي الإشارة هنا إلى أن التقاليد المذكورة إنما هي صيغة من صيغ التبدلات المجتمعية، التي تنتهي إلى حالة تبدو ثابتة، ويراد لها أن تبقى كذلك. وبتعبير آخر، إن التقاليد المعنية بقدر ما هي أنماط من الوجود المجتمعي التي تنشأ في ظروف تاريخية ما، فإن تجاوزها هو كذلك حالة من حالات التغير المجتمعي المفتوح. أما القول بالنصوص الدينية سبباً مؤسِّساً للتمايز الاجتماعي والسياسي والقضائي والمهني…إلخ بين المرأة والرجل لصالح هذا الأخير، وإنما هو قول فيه وجوه، منها ما يسوِّغ ذلك التمايز ومنها ما يستبدله بالقول بالمساواة بين الفريقين. فبغضِّ النظر عن القاعدة الشرعية القائلة بأن اختلاف الأئمة رحمة أو -في قول آخر- بأن اختلاف الأمة رحمة، فإن واقع الحال المجتمعي المشخص يطرح استحقاقاته الملحة على المعْنيين، الذين إنْ لم يستجيبوا لها في اللحظة التاريخية المناسبة، فإنهم يرتكبون خطأ لا يتصل بهم هم بوصفهم أفراداً فقط، وإنما يتصل بالأمة كلها. وتجاوز هذا المحذور إنما هو واحد من أهم مقاصد الشريعة والقانون الاجتماعي. من هنا جاء الحديث النبوي الشهير بـ”حديث الرُّوْيبضة”، الذي يمكن فهمه -ضمن قواعد الاجتهاد والتأويل- على أنه تحفيز على الإجابة عن أسئلة الواقع الملحة في اللحظة ذاتها، وبعد تأمل عقلاني عميق في النصوص المناسبة المعْنية. أما النص المذكور للحديث فقد جاء في (الإعتصام للشاطبي) بصيغة أن النبي الكريم قال: ستأتي سنون “يكذب فيهن الصادق، ويخون فيهن الأمين، ويؤتمن الخائن، وينطق فيها الرويبضة، قالوا: هو الرجل التافه الحقير في أمور العامة”.
عصر التحولات العظمى الراهن يمكن أن ينتج مخاطر تجتاح العالم كله، مِمّا يدعو إلى التفكُّر في كيفية التعامل مع ذلك على نحوٍ منافٍ لما يراه “الرويبضة”، أي بكيفية تجتمع فيها طاقات البشر جميعاً، بمن فيهم المرأة. لكن هذه لن تكون قادرة على إنجاز ذلك، إلا إذا اقترن بعمق بمشروع تحررها الإنساني المتوازن، جنباً إلى جنب مع تحرر الرجال، الذين تكوّن النساءُ “شقائق لهم”. وإذا ما تمكّن البشر من ذلك، فإن قضية حاسمة تطرح نفسها من موقع مفهوم “التربية” كيف يمكن للمرأة أن تجعل مَنْ تربيهم قادرين على مواكبة التحولات المعيشة بروح الحرية والمساواة والكرامة والشرف، إنْ لم تدخل هي نفسها وفي السياق ذاته، حلبة الفعل التاريخي الفسيح!
الاتحاد