صفحات مختارة

المـرأة العربيـة زمـن الـردّة

فواز طرابلسي
«المرأة مستقبل الرجل».
هكذا كان يقال في ماض ليس بالبعيد تحية للثامن من آذار.
واليوم يبدو كأن مستقبل المرأة العربية هو وراء. وبدلا من أن تكون هي التي تشد الرجل الى مستقبل، اذا الردة الذكورية تشدها الى الماضي.
في لبنان الذكوري البطريركي ـ والذكورية والبطريركية أبرز آليات النظام الطائفي ـ لا يحق للمرأة أن تمنح جنسيتها لمولودها. ذلك أن خرق هذا المنع يهدد بتصدع كل عمارة قانون الأحوال الشخصية القائم على ان الأب الذكر، القوّام على المرأة، هو الذي يعيّن دين الأولاد والطائفة. فإذا كان بإمكان الأم تعيين جنسية الأطفال فكيف لهم أن يتبعوا دين الأب وطائفته في الأحوال الشخصية؟
ولا تزال جرائم الشرف تحظى بالأسباب التخفيفية. والسياسة شأن ذكوري اللهم إلا عندما تقتضي مفاجآت الوراثة أو السجن تنويب (نسبة الى نيابة) أو توزير الارملة أو الزوجة أو الشقيقة أو الابنة. وفي مجتمع الرق الحديث الذي يعيش على مئات الالوف من العمالة الأجنبية، وعشرات الالوف من العاملات الاجنبيات، تنتحر أو تقتل خادمة أجنبية بمعدل مرة في الشهر.
عربيا وإسلاميا، لا تزال علمانوية عوراء تتضافر مع إسلاموية خرقاء على اختزال مكانة المرأة ودورها في المجتمع والحياة العامة بما ترتديه من غطاء للرأس. وحقيقة الأمر أن تحريم الحجاب بمثل تحريم السفور. كلاهما تحريمي أي انه قيد على حرية الاختيار. والنساء يقاومن كيفما استطعن الى ذلك سبيلا. بتخريب منطق التقشف والتقوى الذي يفترضه غطاء الرأس، تلوينا وتزيينا وأسلوبا في اللف وتدلية للغرة وما شابه. وقد يحجب غطاء الرأس الكثير لكنه ليس يحجب الفوارق الاجتماعية. لدى كثرة من النساء، يشكل الثوب الإسلامي كسوة وحيدة لا يسمح وضعهن الاجتماعي بأكثر أو أغلى منها. أما عند الأقلية الثرية فمجرد الغلاف الخارجي لأفخر أنواع الازياء، وارد كبريات دور الازياء الغربية، وأغلى الحلي وأثمن أكلاف التبرج. وهل نعجب، في عالم الهدر النفطي، ان تكون النسوة في دول الجزيرة والخليج يستهلكن لا أقل من ملياري دولار سنويا على مستحضرات التجميل!
العنف ضد المرأة مقزز ومدان بذاته مهما كانت درجته (تبين دراسة اخيرة ان 68% من نساء لبنان يتعرضن للعنف الجسدي). ولكننا شهود منذ سنوات على أعلى درجاته: الاغتصاب الجماعي. من يحاكم الذين مارسوا وما زالوا يمارسون هذا الجريمة بحق عشرات الألوف من نساء دارفور (مترافقة مع الخطف والسبي والقتل)؟ وعندما تكون السلطة هي الراعية لتلك الأعمال أو الممتنعة عن المحاسبة أقلا، فمن يحاسب الذين حرّضوا وموّلوا وغطّوا تلك الجرائم، مهما كان الموقف من مثول أو عدم مثول اللواء عمر البشير أمام المحكمة الجنائية الدولية؟
ولا يقولن لنا أحد إن ما يجري من حَجر وقمع وتمييز هي عادات عريقة أو ممارسات يفرضها الدين أو «الثقافة». ان هي إلا مستحضرات ومستحدثات زمن الردة السياسية والاجتماعية والقيمية الشاملة التي أطبقت على المنطقة منذ لا أكثر من ثلاثة عقود من الزمن.
منذ أسابيع، حلّت بيننا المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد للتضامن مع الجنوب المقاوم. مرت علينا، سافرة، مثل نسمة باردة هبّت من زمن آخر، عندما الكفاح المسلح ـ بما فيه زرع النساء للقنابل في البارات التي يرتادها المستعمرون الفرنسيون ـ كان يرى اليه على انه عمل بطولي، وينبري كبار المثقفين، أمثال جان بول سارتر وسيمون دُ بوفوار، للدفاع عن إطلاق سراح المناضلات الجزائريات المتهمات بـ»الارهاب». ليست جميلة بوحيرد مجرد أيقونة نضالية. هي أحد رموز مشاركة المرأة في حركات التحرر الوطني جنبا إلى جنب مع الرجل، عندما كان التحرر الوطني يعني التحرر الاجتماعي والإنساني الشامل لكليهما. كان هذا قبل ان تطبق الردة ما بعد الاستقلال، اذ طولبت المرأة بالعودة الى البيت. ثم فرض عليها التزام «بيت الطاعة» قبل أن تخضع للمنع من الدراسة والعمل وللسبي والاغتصاب والقتل زمن «أمراء الجماعات» المسلحين.
منذ لا أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، كان آية الله الطالقاني، أحد أبطال الثــورة الايرانية، يعلن أن حصانة المرأة تكمن في مناعتها الشخصية والنفسية لا في رقعة قماش تغطي منها الرأس أو الوجه. وكانت قوانين للعائلة في تونس واليمن الديموقراطية الشعبية تمنع تعدد الزيجات وتحدد المهر بقيمة مالية رمزية وتبيح الطلاق للمرأة. وغني عن القول إن الأنظمة الاستبدادية العربية، سلالية أكانت أم عسكرية شعبوية، تكاد أن تتساوى في استعدادها لتقديم التنازلات للحركات الاسلامية تحديدا في كل ما يتعلق بالنزر اليسير من الحريات والحقوق العامة التي تتمتع بها النساء في الأنظمة الحديثة.
احتلت مسألة المرأة العربية زمن العولمة ركنا أساسيا في المشاريع «الشرق أوسطية» و»تقارير التنمية البشرية» التي تصدرها وكالات الأمم المتحدة. والعنوان الرئيسي هنا هو التمكين. التمكين لا التمكّن. والتمكين، إضافة الى دعوته الى محو الأمية والتعليم ومكافحة أشكال التمييز والعنف ضد المرأة، يتبدى أكثر ما يتبدى في الدعوة الى إشراكها المتزايد في القرار السياسي.
تشكو هذه الوصفة ـ ومنها فكرة «الكوتا» النسائية ـ من كونها تدعو الى تحقيق إنجازات دون إرساء بناها التحتية ومراحلها الانتقالية. جاء التمكن السياسي للمرأة في الغرب ليتوج تمكنها الاقتصادي، بانخراطها شبه المتساوي في العمل، وتحقيق ما يقارب الأجر المتساوي للعمل المتساوي، ونجاح الحركات النسوية في تحقيق خطوات كبيرة في مجال المساواة بين النساء والرجال في الحقوق السياسية والقانونية، ومنها حقوق الأمومة والمساواة في الأحوال الشخصية، ناهيك عن ولادة علاقات جديدة كل الجدة داخل الأسرة النواتية ذاتها.
أما عندنا فيراد لنا القفز الى التمكين السياسي والإداري بغض النظر عن مقدماته الاقتصادية والاجتماعية والقانونية والسياسية. فليس غريبا أن تتلقف الأنظمة من تلك المشاريع ما يناسبها وما لا يضع موضع تساؤل أو بحث أو تغيير أي من العلاقات بين الجنسين. عنيت أن تختصر مسألة «التمكين» بتعيين نساء أفراد في مراكز سياسية أو إدارية من رئاسية أو وزارية أو تشريعية شبه فخرية، وآخرها تعيين العربية السعودية حيث حتى قيادة السيارة ممنوعة على المرأة، امرأة بدرجة نائبة وزير.
خلاصات ثلاث:
أولا، المرأة العربية هي كبش محرقة الهزائم العربية ـ وهي في المقام الأول هزائم الذكور والذكورية.
ثانيا، الردة التي تطال المرأة أشد من غيرها، حدث زمني وليست وليدة عادات أو تقاليد أو ديانة أو ثقافة، وان كانت تتذرع بهذه جميعها وتستدعيها استدعاء، ثالثا، التحذير من فصل قضية حقوق المرأة وتحررها عن سائر قطاعات المجتمع، على غرار ما هو سائد في مقولات المؤسسات الدولية، والدعوة الى إعادة ربطها بحقوق المجتمع ككل ومسار تحرره المتكامل.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى