نازيون في سوريا ولبنان الثلاثينات
حازم صاغية
نادرة هي الكتب التي تناولت علاقة العرب بالنازيّة أو ضعفها. فقد تركّز معظم الاهتمام على علاقات الزعيمين الفلسطينيّ والعراقيّ، الحاج أمين الحسينيّ ورشيد عالي الكيلاني، مع ألمانيا الهتلريّة وإيطاليا موسوليني. ووُجد، لاسيّما في الدوائر الصهيونيّة، من يزعم أن الزعيمين المذكورين كانا “نازيّين” لمجرّد تعاونهما (المؤكّد والخاطئ) مع برلين وروما.
مؤخّراً، صدر للباحث الألماني غروتز نوردبروخ كتاب أشمل وأدقّ مما سبقه في المضمار هذا، متناولاً الأفكار والحياة الحزبيّة والإعلاميّة في سوريّا ولبنان من الزاوية هذه، ومسلّطاً الضوء على جوانب من تاريخي البلدين لا يزال يلفّها عتم كثير.
الكتاب الذي يحمل عنوان “النازيّة في سوريّا ولبنان” (دار راوتليدج) يبدأ بتسجيل تزامن النضال الاستقلاليّ في البلدين والحرب العالميّة الثانية وإفضائها الى هزيمة النازيّة واستسلام ألمانيا. لكنْ منذ البدايات الأولى كانت المطالبة السوريّة واللبنانيّة بالسيادة الوطنيّة وحقّ تقرير المصير تثير مسائل مهمّة تتّصل بالنظام الاجتماعيّ والمدنيّ. وفي هذا السياق إيّاه، اندرج الاحتكاك بالفكر النازيّ. ذاك أنه منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى وفي ضوء التحوّلات العميقة التي فجّرها انهيار السلطنة العثمانيّة، كان على المجتمعين السوريّ واللبنانيّ أن يواجها خيارات حاسمة. فحركة التحديث الاقتصاديّ والاجتماعيّ كانت، على بطئها، تشقّ طريقها وتحدث اندماجاً متنامياً بالقوّة والمصالح الغربيّة. وفي الوقت نفسه كانت التناقضات الداخليّة والأهليّة في المجتمعين تطرح على المحكّ علاقات القوى المحليّة في ما بينها. وبنتيجة تفاعل هذين التيّارين وصراعهما تحوّلت حقبة ما بين الحربين العالميّتين مساحة مفتوحة لمناقشة مسائل مثل تعريف الجماعة الوطنيّة والقوميّة ودور الفرد وموقع الدين في المجتمع. وغنيّ عن القول إن السياسة والإيديولوجيا كانتا كامنتين على الدوام في قلب السجال هذا.
وقد جاء استلهام الأفكار من مصادر عدّة. فأهميّة التقاليد المحليّة، الثقافيّ منها والدينيّ، بوصفها مرتكزات سياسيّة وفكريّة، حاضرة وبادية في الاهتمام الموسّع بالمفكّرين المسلمين والعرب الأوائل، وهو ما يظهر جليّاً في صحف تلك الحقبة ومجلاّتها. لكن المصادر الأخرى للوعي لم تكن أقلّ أهميّة مع أنها ليست محليّة بالضرورة. والحال أن أحد الآثار القويّة الحضور للسجالات الفكريّة في الثلاثينيات يتبدّى في نقل ما يجري في العالم الخارجيّ والتفاعل معه. وكان من الموضوعات التي حظيت بالعناية نظريّات تشارلز داروين التطوّريّة ودور النساء في المجتمع السوفييتيّ وإصلاحات مصطفى كمال (أتاتورك) في تركيا.
في هذه الحدود احتلّت النازية رقعتها، وتتناول أوائل التقارير السوريّة واللبنانيّة صعود الحركة القوميّة الاجتماعيّة (النازيّة) أواسط العشرينيات، ثم تولّى أدولف هتلر مستشاريّة الرايخ في يناير 1933، حيث تحوّلت النازيّة إلى موضوع شبه يوميّ في الصحافة المحليّة. وفي معظم الحالات كانت مصادر المعلومات والتعليقات تستند إلى قرارات إداريّة محددة تُتّخذ في برلين أو تحرّكات ومواقف سياسيّة للنظام الهتلريّ. وقد ظهر انسحار بهتلر في لبنان وسوريّا كما بتعبئته لـ”الأمّة الألمانيّة” ضدّ أعداء فعليّين أو مُتوهّمين في الداخل والخارج. وبالاستناد الى مصادر أوروبيّة أساساً، تابعت الصحف المحليّة عن قرب التطوّرات الألمانيّة والردود القارّيّة عليها، لاسيّما من جيران ألمانيا. ولم يخلُ من فهم جديّ بعض تعليقات المعلّقين في صحف كـ”النهار” البيروتيّة و”القبس” الدمشقيّة.
على أن الإشارة إلى النازيّة في أواسط الثلاثينيات بدأت تتجاوز حدود التعليقات الصحافيّة المقتصرة على الأحداث الألمانيّة والأوروبيّة الكبرى. فالصحافة راحت تناقش بإسهاب وتوسّع جوانب من الإيديولوجيا القوميّة الاجتماعيّة. وعلى مدى بعض السنوات اللاحقة، تمّ تناول جوانب محدّدة من النازيّة، كالتشكيلات الشبابيّة الميليشيويّة ودور الزعيم (الفوهرر) بوصفه التمثيل الراسخ لإرادة الشعب ومفاهيم العرق والأمة. ومن ناحيتها قدّمت النازيّة موقفاً متماسكاً يجمع إلى الحكم السلطويّ والتوتاليتاريّ مفهوم اللاساميّة وتراتُب الأعراق والشعوب وغير ذلك. ولكنْ في هذا المعنى لم يكن التبنّي الكامل للموقف النازيّ حالة معمّمة في سوريّا ولبنان، إذ عمل المتابعون على تفكيك ذاك التماسك والاقتصار على تأييد هذا الجانب منه أو ذاك.
بيد أن هذه بدت بدورها مهمّة مفكّكة وسطحية، إذ إن مثقّفين مثل إدمون ربّاط وميشيل عفلق وانطون سعادة (خاصة) ترافقت إدانتهم للعرقيّة مع أخذهم بتصوّر بالغ العضويّة والجوهريّة لدور الجغرافيا أو اللغة.
واللافت للنظر، في رأي الكاتب، ما يعتبره تعادليّة الكثيرين من أولئك المثقّفين بالنسبة إلى مراجعهم غير المحليّة. فمع أنّهم يكشفون بعض تلك المصادر الأوروبيّة، إلاّ أنهم يبالغون في التشديد على أنها “أصيلة”، وأنها ليست إلا عربيّة (عفلق) أو سوريّة (سعادة).
وهذه النقاشات، بين النُخب كما في الصحافة وصولاً إلى جمهور أعرض، ركّزت الضوء على الموقف والموقع من ألمانيا وحيالها. فالاتّصالات بمسؤولين ألمان والتعاون معهم غالباً ما قُدّما كمجرّد تحالفات استراتيجيّة ناجمة عن توازنات القوى آنذاك. وفي هذا الإطار جرى تأكيد أن ألمانيا هي الحليف الأوحد المتوافر في مواجهة الانتدابين البريطانيّ والفرنسيّ. بيد أن علاقات جدّيّة نُسجت في هذه الغضون. ففضلاً عن صلات شخصيّة مع القنصل العام، ظهر أفراد من تيّارات سياسيّة مختلفة يطلبون من الألمان الدعم والتعاون، وهذا ما تجاوز وعبَر القوى الدينيّة والطائفيّة ليشمل، بهذه النسبة أو تلك، الجميع: من المطران المارونيّ مبارك إلى أعضاء في الكتلة الوطنيّة السوريّة. لكن إذا كان القوميّون السوريّون أبعد من ذهب في التأثّر بالأفكار النازيّة، فإن “الحزب القوميّ العربيّ” الذي رعاه قسطنطين زريق في الجامعة الأميركيّة ببيروت كان أبعد من ذهب في العلاقة، علماً بأنها لم تثمر الشيء الكثير.
وهذا التقييم للصلات القائمة مع النظام النازيّ يجد استكماله في ملاحظتين إضافيّتين: فعالميّاً، لم تكن العلاقات بألمانيا تخضع لتحريم مسبق وتلقائيّ. والحال أن بلداناً ديمقراطيّة عريقة كبريطانيا وفرنسا والولايات المتّحدة، وعلى رغم كثرة احتجاجاتها عليه، لم تقطع إلاّ بعد سنوات علاقتها بالحكم النازيّ. وهذا ما كان ملحوظاً في سوريّا ولبنان.
والملاحظة الثانية أن التشبّه الشكليّ لبعض الأحزاب الشبابيّة في البلدين بالتنظيمات الفاشيّة والنازيّة فُسّر إعجاباً بهذا النوع من الأنظمة، علماً أن أحزاباً كالكتائب اللبنانيّة والقمصان الحديديّة السوريّة التابعة لـ”الكتلة الوطنيّة” لم تكن تعتمد النازيّة والفاشيّة، مراجع فكريّة وسياسيّة لها. لا بل حتى في الجانبين الشكليّ والتنظيميّ وُجد تأثّر لا يخفى بالتنظيمات الشبابيّة الشيوعيّة والكماليّة في تركيا.
غير أن أحد المحاور والمشاغل تمثّل في لاساميّة النازيّة، وذلك في موازاة تعاظم الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين والصراع العربيّ- اليهوديّ فيها وعليها. وكان لهذا أن استجرّ تصاعداً في التوتّر بين الأكثريّات السكانية في البلدين وبين الأقليّتين اليهوديّتين فيهما. لكن هذا لم يحل دون ظهور أصوات كصوت البطريرك المارونيّ عريضة، صيف 1933، الذي عبّر عن تعاطفه مع اليهود الألمان، وهو ما أثار انتقادات حادّة له من أوساط القوميّين العرب المحذّرين من “مخاطر” الأقليّات على “الأمّة”.
وكان للممارسات النازّية أن عزّزت عند القوميّين العرب نظريّة تقول: ما دامت ألمانيا القويّة تخاف اليهود فأحرى بنا أن نخافهم أيضاً. وفي هذا السياق، حصلت تعدّيات عليهم في دمشق بينما ارتفعت نبرة الحزب القوميّ السوريّ التي لا تميّز مطلقاً بين اليهوديّ والصهيونيّ.
والراهن أنه حتى بدايات الحرب الثانية في 1939، لم تكن الدعاية الألمانيّة في المنطقة تركّز على اللاساميّة. فمع أن القنصليّة الألمانيّة في بيروت دغدغها التعاطف الواسع مع سياسات برلين حيال اليهود، فإنها كانت ترغب في تجنّب المسؤوليّة المباشرة عن تصاعد الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين. لكن أوساط الشيوعيّين وأصدقائهم وجدوا ما ينتقدونه في تلك السياسات، مشكّلين لهذا الغرض “عصبة مكافحة الفاشيّة” أواسط الثلاثينيات. وحين حصل تحرير سوريّا ولبنان في 1941، كرّس هؤلاء بعض الجهد لمحاصرة الجماعات المحليّة المتأثّرة بالفاشيّة والنازيّة.
على أن الاحتكاك بالنازيّة لم يتوقف في 1945، خصوصاً لجهة المناقشات حول مدى العلاقة التي بلغها الحاج أمين وهتلر، أو تأثير الصلات بألمانيا على مصائر ومواقع بعض المتورّطين. وهذا مع العلم أن المخاوف في هذا الصدد لم تكن في محلها لا في شأن صحافيين ولا في شأن سياسيين لم يتعرّضوا جميعاً لأيّ ضرر. وأهمّ من ذلك كلّه أن المرحلة اللاحقة، أي الخمسينيات، شرعت تشهد موجة قوميّة مختلفة باتت الناصريّة عنوانها الأبرز، ومصادرها أكثر تعقيداً وتداخلاً مما كانت الحال في الثلاثينيات والأربعينيات.
جريدة الاتحاد