من أجل حملة وطنية سورية لالغاء حالة الطوارئ: الواقع والمتطلبات
المحامي محمد أحمد بكور
د يتعرض الافراد والمجتمعات الى حالات وظروف استثنائية غير عادية اما مفاجئة كالبراكين والزلازل والاعاصير او متوقعة كالحروب والاضطرابات والمجاعة أو الاستعداد للتغيرات المناخية وحوادث السدود ومعالجتها تتطلب إجراءات خاصة وغير مألوفة أو محرّمة وتطبيق قوانين لا تطبق في الأحوال العادية لمواجهتها تمليها الضرورة للسيطرة عليها والحماية من آثارها السلبية أو احتوائها وعبورها بأقل الخسائر والأضرار، وتجميد أخرى.
ومن هذا المنطلق ورفعاً للحرج أباح الإسلام بعض المحرّمات وقت الضرورة كما في الآيات الآتية: ((إنمّا حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه إنّ الله غفور رحيم)) البقرة 173، وكذلك الأنعام 145 والنحل 115.
إن ما أحلته الآيات السابقة من محرّمات كان على سبيل المثال لا الحصر، ومنها اشتق الفقهاء القاعدة الفقهية الشهيرة، الضرورات تبيح المحظورات، ووضعوا لها في كتب الفقه شروطاً وحدوداً وقيودا، وهي الضوابط التي حددتها الآيات المذكورة في متنها أولاً وجود ضرورة وثانياً عدم التجاوز وتقدّر بقدرها وثالثاً إن حالة الإباحة ظرفية ومؤقتة وليست مطلقة أي لحالة معينة وزمن محدد، وقد طبقها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في عام الرمادة – المجاعة – عندما أوقف حد السرقة لمن اقدم عليها لتأمين معيشته وحفاظاً على حياته كقيمة عليا للانسان الذي كرمه الله ليتمكن من اداء واجباته الانسانية فضلاً عن اتخاذه اجراءات اخرى تتعلق بالزكاة.
ان حصيلة التطور المركب والتفاعل بين الحضارة العربية الاسلامية والغربية والتطورات للمسيرة القانونية أصبحت حالة الطوارئ نظرية في العصر الحديث لها مبرراتها وقواعدها وقيودها وحدودها زماناً ومكاناً، وأكثر من اهتم بها الفقهاء الفرنسيون، ولا زالت تتطور لتواكب حركة الواقع وتلبي حاجات المجتمعات.
اذن حالة الطوارئ هي استثناء من القاعدة، تبيح للدولة فرضها اذا دعت الضرورة لظروف غير عادية أو تحسباً لها ولمواجهتها وتخولها اتخاذ إجراءات استثنائية للحماية منها وتفادياً لإخطارها الواقعة أو المحتملة وتجنيب المجتمع الفوضى، كما أنها تشكل عاملاً مهماً من عوامل استرتيجية الأمن الوطني للدول.
وضماناً للسرعة تعطى دستورياً الى رئيس السلطة التنفيذية للدولةً صلاحية إعلانها إذا اقتضتها الضرورة لاتخاذ ما يلزم من إجراءات فورية لحماية الشعب والوطن والسيادة، وهذه صلاحيات خاصة قد تتضمن تجميد بعض القوانين حتى يتم تجاوز الحالة التي أوجبتها لأن واجب الدولة وضع خطط لكافة الاحتمالات، حتى لا تكون عرضة للمفاجآت وتوفير القدرات للتعامل مع أي طارئ وبسرعة قصوى لكي لا تكون عاجزة وتقف متفرجة على ما يحدث، فالولايات المتحدة فرضت حالة الطوارئ مؤقتاً عند تعرضها لكارثة طبيعية سببها إعصار كاترينا المفاجئ.
ان استمرارحالة الطوارئ في بعض الدول وتعطيلها للقوانين العادية يؤدي الى الاستبداد والطغيان وامتهان كرامة الإنسان لاستخدامها القوة وأساليب العنف والإكراه اعتماداً على المؤسسات العسكرية والأمنية للاستمرار بالسلطة والحفاظ عليها وإلغاء سلطة الشعب نتيجة ثقافة متخلفة أو منحرفة تقود الى الديكتاتورية وتقديس الحاكم وتتحول مع الزمن الى عقيدة تستقطب الانتهازيين والموتورين والحاقدين.
وتجنباً لهذه المحاذير فإن الدول الديمقراطية تضع ضوابط وضمانات تحمي حقوق المواطن من الانتهاك، وتضمن حقه في اللجوء الى القضاء عند مخالفتها أو التجاوز عليها، حتى لا تتخذ ذريعة تحرمه من حقوقه، كما أنها تتضمن المساءلة القضائية لمنتهكها مهما كان موقعه وصفته الوظيفية وللحماية من الجنوح الى الإستبداد والظلم وتحقيقاً للعدل.
بعد هذه التوطئة نستعرض حالة الطوارئ في الجمهورية العربية السورية:
صبيحة انقلاب 8 آذار 1963 أعلن الانقلابيون باسم المجلس الوطني لقيادة الثورة حالة الطوارئ بالبلاغ رقم 2، ليكون غطاء لتعطيل الدستور وتمهيداً لإقامة حكم عسكري وتوطيد سلطته باتخاذ إجراءات رادعة ضد الرافضين والمعارضين وإشاعة جو من التخويف والترهيب بإحالتهم الى المحاكم العسكرية أو الخاصة بأوامر من الحاكم العرفي.
ومع عدم قانونية وشرعية الجهة التي أصدرتها، يفترض أن تكون مؤقتة ولكن الاستثناء تحول الى قاعدة فهي مستمرة منذ 46 عاماً وحتى الآن والشعب يئن تحت وطأتها لمصادرة حقوقه وحرياته وقد ارتكب باسمها أبشع المجازر والإبادات الجماعية وانتهكت حرمات وهدمت مساجد وكنائس واقيمت المحاكم الميدانية ويومياً تنتهك الحقوق بالاعتقالات والاعتداءات من قبل أزلام السلطة.
لقد تحولت الحالة المؤقتة الى دائمة ما شكل سابقة شاذة لا مثيل لها في العالم المتمدن دون مبرر لاستمرارها، ولزوال الأسباب التي أدت لإعلانها. فانقلاب 8 آذار 1963 وما انتجه ذاتياً من انقلابي 23 شباط 1966 و16 تشرين الثاني 1970 قد استقر والمعارضة حجمت ودجنت وتشكلت معارضات شكلية ولاؤها للسلطة الحاكمة.
أما التذرع بحالة الحرب مع الكيان الصهيوني فقد أصبحت نكتة لأن الحرب عدت منتهية عملياً ورسمياً من اللحظة التي تمّ فيها الموافقة على الحلول السياسية وتبني ما يسمونه خيار السلام الاستراتيجي والأرض مقابل السلام.
لقد حدد المرسوم رقم 109 الصادر في 7 آب 1968 في فقرته “أ” زمن الحرب كما حددت الفقرة “ب” منه ماهية العمليات العسكرية وهذا غير موجود عملياً.
كما ان تذرع السلطة بالأوضاع الإقليمية والتعرض للضغوط بعد احتلال العراق واغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري وانصياعها لسحب قواتها من لبنان حفاظاً على وجودها؛ فالادعاء بهذه الضغوط زال معظمها نتيجة صفقات أنجز بعضها والآخر في سوق المساومات، وقد أسفرت عن انفتاح فرنسي وأوروبي تتوالى فيه زيارات مسؤوليه ورضى أمريكي. فمنذ ولاية بوش وعلى لسان كوندوليزا رايس وزيرة خارجيته؛ أعلن أن أمريكا لا تريد تغيير النظام بل تغيير سلوكه. وبعد فوز أوباما بالانتخابات بدأ فوراً بتنفيذ وعوده بالحوار مع النظام السوري، وزيارة رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي جون كيري وأعضاء من الكونجرس تدخل في هذا الإطار. فالنظام خفّ قلقه على مصيره ويعيش حالة مريحة لأنه قد خرج من عنق الزجاجة كما يعتقد.
وعلى الصعيد الداخلي يدّعي أنه يمتلك تنظيماً يضم الملايين وأن الشعب ملتف حوله ويؤيد سياساته ويحاول البرهنة عليها بالتدليس عن طريق مُسّيراته في المحافظات والتي تُفرض وتسيّر بأوامر الأجهزة الأمنية تحت طائلة المسؤولية والعقاب لمن يتخلف أو يتهرب منها عبر الرقابة الصارمة.
وبما أن دستور 1973 قد نصّ في ما إذا اقتضت الضرورة واستدعت ظروف طارئة تتطلب التحرك السريع والمعالجة الفورية؛ يمنح الرئيس حق إعلان حالة الطوارئ في المادة 101 وكذلك المادة 113 اعطته إتخاذ الإجراءات السريعة لمواجهة الخطر، فهل ثمّة مبرر إذاً لاستمرارها وتحويلها الى القانون الوحيد الذي تحكم سورية بموجبه بل أصبحت أقوى من الدستور بمدلول المادة 153 التي نصت على بقاء التشريعات الصادرة قبل إعلانه سارية المفعول، وبما أنّ حالة الطوارئ هي قبل إعلانه فعطلته وبقيت القانون النافذ فما قيمة الدستور ونصوصه مهما كانت مثالية وقيمه عليا إذا كان معلقاً ومعطلاً؟
وهكذا تحولت الى حالة شاذة لا مثيل لها في العالم وخارج إطار العصر وانكشفت أساليب الخداع والتضليل والإدعاءات الباطلة واللعب على عامل الزمن للحفاظ على السلطة والتهرب من الاستحقاقات الوطنية.
إن الإبقاء على هذه الحالة الشاذة لها آثارها السلبية على كافة الأصعدة ونواحي الحياة. فعلى الصعيد السياسي إن إلغاءها يعد المدخل والشرط الذي لا بدّ منه للإصلاح والتغيير لأنه يتطلب إطلاق الحريات ورفع القيود عنها والعودة للحياة الاعتيادية وسيادة القانون واستقلال وتفعيل السلطة القضائية، لا سيما أن البلاد تمر بمفصل تاريخي مهم يوجب تعبئة طاقات وقدرات المجتمع وإعادة اللحمة للوحدة التي مزقتها السياسات العمياء، ولكن جمود النظام وتحجره وتمسكه بنهجه وبأساليب العنف والقهر والاعتقالات اليومية والقتل، كما حدث مؤخراً في سجن صيدنايا الذي أعاد للذاكرة المآسي والفواجع والإبادة البشرية ولا سيما مذبحة سجن تدمر، يزيد في الاحتقان والتعصب واحتمالات ردود أفعال عنيفة لا يمكن التنبؤ بها نتيجة الإحباط واليأس ويزيد من أزماته عمقاً واتساعاً.
والإصلاح الإداري والقضاء على الفساد لا يتوافر إلا في جو من الحرية والديمقراطية والرقابة الشعبية والسياسية والإعلامية.
وعلى الصعيد الإقتصادي، فإن القضاء على البطالة وتوفير فرص عمل لجيش العاطلين عن العمل وتردي الحالة الاقتصادية ومواجهة تدني دخل الغالبية العظمى واحتمالات ازدياد معاناتهم بسبب الأزمة الإقتصادية والمالية العالمية؛ لا يمكن إلا بالتنمية والاستثمار الواسع، وحالة الطوارئ تشكل خوفاً لكثير من الشركات والأفراد وممولين في الداخل والأجانب لعدم وجود ضمانات قانونية حقيقية، وهذا يقف عائقاً دون إقدامهم على نقل رؤوس أموالهم وتوظيفها.
لقد أنتج احتلال العراق في 9 نيسان 2003 حراكاً سياسياً واسعاً للمعارضة السورية في الداخل والخارج، ووفرّ لها فرصة ذهبية للمراجعة وإعاد النظر لمنهجها ومسارها نحو التغيير، فيما لو تمكنت من تحديد الأولويات والتي في مقدمتها النضال لإلغاء حالة الطوارئ وإطلاق الحريات ليقوم الشعب بدوره في التغيير المنشود. ولكن تطلع البعض الى السلطة وضعف الأداء ولّد عجزاً، لأسباب موضوعية وذاتية، عن الوصول الى صيغة فعّالة لإدارة عملية التغيير، والاتفاق على برنامج يتضمن حلولاً للمشاكل التي يعاني منها المجتمع، وتجاوز ممارسات النظام ويلبي تطلعاته وحاجاته.
وعندما نتكلم بصراحة لا نقصد النيل من فرد أو تنظيم، فكل منا يتحمل مسؤولية حسب موقعه وإمكانياته، ولكن واجبنا الوطني والإخلاص للحقيقة يدفعنا إلى أن نذكر الحقائق كما هي وان لا نجامل فيها او نتجاهلها ونخاف منها.
ان المعارضة السورية الحالية ازدادت شرذمة بفعل المستجدات في الساحة المحلية والعربية والدولية، واصبحت تجري وراء الاحداث وعلى مسافة بعيدة منها، وسوف تزداد تمزقاً وضعفاً اذا لم تغير واقعها مع ادراكنا للعقبات التي تعترضها في توحيد جهودها ورؤاها المتعددة والمختلفة سياسياً واجتماعياً وللصعوبات التي تقف عثرة في طريقها، وزادها بلبلة خلط الاوراق نتيجة تصرفات بعض افرادها بشكل غير مسؤول وولوجهم في دهاليز مظلمة ومتاهات واطلاق تصريحات شوهت سمعتها واستهلكت جزءاً كبيراً من رصيدها ومكانتها لدى الرأي العام السوري.
وعلى الرغم من كل ما ذكر، نعتقد اننا جميعاً لا نختلف حول خطورة استمرار حالة الطوارئ، ونتفق على ضرورة إلغائها والعودة الى الحياة الدستورية وسيادة القانون، لهذا فاننا ندعو الجميع ولا سيما من تساعده ظروفه ويملك حرية الحركة للقيام بعمل تحت شعار الحملة الوطنية السورية لالغاء حالة الطوارئ ووضع آلية للتحرك داخلياً وخارجياً وتحويلها الى مطلب وبرنامج عمل شعبي حتى يتم الغاؤها، وليس الاكتفاء بمقالات موسمية على مواقع الانترنت فقط، ترافقها حملة سياسية تدعو المؤسسات ذات الاختصاص ومجلس حقوق الانسان في الامم المتحدة وكافة المنظمات الدولية والعربية فضلاً عن توجيه رسائل الى البرلمانات الديمقراطية للضغط على النظام لانهاء هذه الحالة الشاذة المهينة للانسان.
ولا نبالغ اذا استطعنا الاداء بكفاءة وتوصلنا لالغائها فاننا نكون قد قطعنا على طرق التغيير اكثر من نصف مسافته، لما يوفره من حرية في التعبير والرأي وكفالة حق الاجتماع والتظاهر السلمي، ويتيح للشعب ومنظماته المدنية الاسهام في الحياة السياسية والثقافية وزوال حالة الخوف، ومنع الاعتقال الا وفقاً للقانون، مع قاعدة براءة المتهم حتى يدان. وفي هذه الحالة فإن كل شخص يعتقل يجب ان يبلغ بالاسباب والمادة القانونية التي تم توقيفه بموجبها خلال 24 ساعة ووجوب احالته الى القضاء خلال 48 ساعة أو 72 ساعة على الاكثر حسبما يحددها القانون، وعلى القاضي النظر بامر التوقيف حالاً فاذا كان غير شرعي اخلي سبيل المعتقل، وهذا ينطبق على الاف المعتقلين والملاحقين، او يحاكم وفقاً لاحكام القانونـ وقد يخلى بكفالة، وهذا يشجع الشعب على الحركة والاحتجاج.
اذن مفتاح الحل هو في انهاء حالة الطوارئ ليتمكن المواطن من ممارسة حرياته العامة وهي طريق الاصلاح وانهاء الديكتاتورية والانتقال الى الديمقراطية.
كاتب سوري
خاص – صفحات سورية –