اليسار العربيّ: حوار مع جلبير الأشقر
أجراه: وائل عبد الرحيم
مقولة “إنّ اليسار العربيّ في أزمة” لازمةٌ تردّدتْ منذ بدايات ظهور حركات اليسار العربيّة. كما هي ملازمة على الأقلّ للعقود الخمسة الأخيرة التي شهدها العالمُ العربيّ وحفلتْ بتطوّرات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة لم تستطع أن تنتج إلا نماذجَ متأخّرةً من الدول والنظم.
وإذا كان الحديث عن تطوّر اليسار من منظور الماركسيين العرب يرتبط بتحليل الصراع الطبقيّ في المجتمعات العربيّة، فإنّ هذا التحليل قد لا يكفي وحده مبسّطًا لتوصيف الأزمة. ذلك أنه على الرعم من الأثر الإيجابيّ أو التقدميّ لنضال القوى العمّاليّة والاشتراكيّة في المجالات الوطنية والاجتماعية، وأعني ما حقّقتْه في مجال المقاومة ضد الاستعمار والصهيونيّة، أو في العملين النقابيّ والنسويّ، وكل ما يتعلق بالحقوق وحركة التأميمات وغير ذلك، فإنّ ما اصطُلح على تسميته في التحليل الماركسي “البنية الفوقيّة” طغت وربما تكون أجهضتْ مآلاته المحتملة.
خلاصة اتجاه من التحليل في أسئلةٍ طرحتُها على البروفيسور جيلبير أشقر، المفكّر الماركسيّ والأستاذ في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، اجاب عن بعضها بالإشارة إلى أهميّة النضال الإيديولوجيّ الثقافيّ الذي لم يعره اليسارُ العربيّ الأهميّةَ الكافيةَ… من ضمن إضاءات أخرى على جوانب مختلفة لـ “أزمة اليسار.”
و. ع (لندن)
* الحديث عن أزمة اليسار الماركسيّ العربيّ سبق انهيارَ المنظومة الاشتراكيّة بوقتٍ طويل، ويبدو ملازمًا لشتّى مراحل تاريخ هذا اليسار. أليس هذا لافتًا للنظر؟
ـ صحيح أنّ فكرة “أزمة اليسار العربيّ” ليست جديدة؛ فمنذ مرحلة التجذّر التي عشتُها مع جيلي إثر هزيمة 1967 وأنا استذكر مقالاتٍ عن “أزمة اليسار العربيّ،” والمقصودُ بشكلٍ خاصٍّ اليسارُ الماركسيّ العربيّ. والحديث عن الأزمة بدأ منذ أولى مراحل تاريخه: كدوّامة أزمات التيّار الشيوعيّ في مصر وتشتّته إلى مكوِّناتٍ عديدة، وانشقاقِ الحركة الشيوعيّة في فلسطين وسورية. والحال أنّ هذا اليسار عجز طوال تاريخه عن فرض نفسه قوةً مهيمنةً إلاّ في حالاتٍ نادرةٍ ومؤقّتة. وكانت هذه الحالات ذاتُها مولّدةً للأزمات لأنّ اليسار ـ وأحيلكَ هنا على العراق في أواخر الخمسينيّات ـ كلّما أصبح قوةً قادرةً على الهيمنة، لم يبغِ في معظم الحالات أن يسعى إلى الاستيلاء على السلطة، وذلك لأسبابٍ مختلفةٍ تعود في الدرجة الأولى إلى تبعيّته للاتحاد السوفياتيّ الذي كان مؤيّدًا لحكم عبد الكريم قاسم وغيرَ راغبٍ في تسعير المواجهة مع الغرب في تلك المنطقة البالغة الحساسيّة.
* تتحدّث عن الحزب الشيوعيّ العراقيّ…
– بالتأكيد. وقد شكّلتْ تصفيةُ الحزب الشيوعيّ السودانيّ سنة 1971 قضاءً على آخر فصيلٍ شيوعيٍّ كبير تمتّع بالقدرة على الهيمنة في أحد البلدان العربيّة. بعد ذلك حصلتْ موجةُ التجذّر اليساريّ التي طاولتْ أجزاءً من الحركة القوميّة في المنطقة العربيّة ــ من حركة القوميين العرب والبعث وغيرهما ــ عقب هزيمة 1967، وكانت بوادرُها قد برزتْ منذ أوائل الستينيّات لا سيّما داخل حزب البعث. أما الطرف المتمركس الوحيد الذي استطاع أن يصل إلى موقع السلطة فهو فرعُ حركة القوميين العرب في اليمن الجنوبيّ. وهذه التجربة الفريدة مرّت بأزماتٍ متتاليةٍ منذ ولادتها، ما أدّى إلى سقوطها. أما في الساحات الأخرى فقد عرف اليسارُ أزماتٍ وانشقاقاتٍ وخلافات، وتقاعس عن الارتفاع إلى مستوًى يخوّله قيادةَ الحركة الجماهيريّة نحو الاستيلاء على السلطة.
لكنْ علينا أن نميِّز في هذا الصدد بين كلمة “أزمة” عندما تُستعمل في زمننا الراهن، وبين الحديث عن “الأزمة” خلال موجة التجذّر بعد العام 1967 والتي شكّلت الفرصةَ التاريخيّةَ الأهمّ أمام اليسار الماركسيّ العربيّ من حيث وجودُ ظروفٍ مؤاتيةٍ لتطوّره على امتداد المنطقة العربيّة. في تلك الفترة كان تعبيرُ “الأزمة” يحيل على أزمة نموّ، أو أزمة ارتفاع إلى مستوى المسؤوليّة التاريخيّة. أما بعد ذلك بعقدين فقد دخلنا في أزمة أفولٍ بدت بوادرُها قبل ذلك بسنوات. والواقع أنّ المدّ الجذريّ كان قصيرَ الأمد: فقد تلقّى أولَ ضربةٍ عظيمةٍ مع تصفية يسار الحركة الشيوعيّة العراقيّة (القيادة المركزيّة) إثر استيلاء البعثيين على السلطة سنة 1968، وتلقّى ضربةً عظيمةً ثانيةً مع تصفية المقاومة الفلسطينيّة في الأردن بدءًا من العام 1970. ومع أنّ قوًى يساريّةً متجذّرةً تابعتْ نموّها في ساحاتٍ عربيّةٍ أخرى، فإنّ الوضع العامّ في آخر السبعينيّات أصابها بالتأزّم وأدّى الى تراجعها. حصل ذلك في سياقٍ أعمّ: تراجعٌ واضحٌ لموجة التجذّر اليساريّ العالميّة منذ أواخر السبعينيّات، وانطلاقُ الهجمة النيوليبراليّة في الثمانينيّات. وقد وصل اليسارُ في المنطقة العربيّة إلى الحضيض مع انهيار الاتحاد السوفياتيّ، الذي شكّل ضربةً شبهَ قاضية على الحركة الشيوعيّة العربيّة بمجملها؛ والحال أنّ ما نشهده اليومَ من إعادة تأسيسٍ أو إعادة نفخ الروح في الحزب الشيوعيّ في لبنان هو تقريبًا استثناءٌ على الصعيد العربيّ.
* الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ؟
– نعم. تجري منذ سنواتٍ قليلةٍ محاولةٌ لنفخ الروح فيه ، ولا مثيل لها في أيّ بلدٍ عربيًّ آخر، ما عدا السودان ربّما (ولستُ على اطّلاعٍ كافٍ على ما يدور هنالك). فلم يتبقّ من التيّار الشيوعيّ العربيّ الذي ارتبط تاريخيّاً بالاتحاد السوفياتيّ إلاّ الحزبُ الشيوعيّ اللبنانيّ كتنظيم يسعى إلى إعادة بناءٍ جدّيّة، وإنْ لم تكن جذريّةً بما يكفي في رأيي، علمًا أنّ الحزب في لبنان أضعفُ بكثيرٍ ممّا كان عليه في السبعينيّات. لكنّ الاستثناءَ هذا يؤكّد القاعدة، وهي أننا دخلنا منذ سنوات في احتضارٍ للتيّار الشيوعيّ العربيّ رافق احتضارَ الاتحاد السوفياتيّ، بما دلّ على مدى ارتهان ذاك بهذا وتذيّله له. وربّما كان الحزبُ الشيوعيّ اللبنانيّ أقلَّ المتذيّلين بعد أن تولّى جورج حاوي قيادته، ولذلك لا تزال فيه حيويّةٌ مقارنةً بغيره.
* تقول إنّ أحد أهمّ أسباب أزمة اليسار العربيّ كان ارتباطه بالاتحاد السوفياتيّ، وتحدّثتَ عن تجربة اليمن الجنوبيّ مثالاً. لكنّ هذه التجربة بالذات مرّت بمراحل، ولم تكن سوفياتيّةً بالكامل، وكانت فيها اتجاهاتٌ متعدّدة، وكان أحدُ عوامل تفجيرها البنية الاجتماعية للمجتمع اليمنيّ، والصراعاتِ القبليّةَ التي انتقلتْ إلى الحزب الاشتراكيّ اليمنيّ.
ـ الهيمنة السوفياتيّة على اليمن الجنوبيّ لعبتْ دورًا أساسيّاً في الصدام الذي حصل بين عبد الفتّاح إسماعيل وسالم ربيع علي بشكلٍ خاصّ، وبشكلٍ عامّ في بقرطة التجربة وتحويلها من تجربةٍ ثوريّةٍ ذاتِ إشعاعٍ في المنطقة إلى دولةٍ حاولتْ أن تتكيّف مع المحيط الرجعيّ، الأمرُ الذي أدّى إلى القضاء عليها وتآكلها من الداخل وخنقِها. وإذا قارنّا بين الحركة الشيوعيّة الأوروبيّة منذ الخمسينيّات، والحركةِ الشيوعيّة العربيّة، فسنرى الفارق جليّاً في ما يتعلّق بالدور السوفياتيّ: ففي حين تقلّصتْ كثيرًا قدرةُ السوفيات بعد السبعينيّات على التأثير في معظم الأحزاب الأوروبيّة، كانت تبعيّةُ العديد من الأحزاب الشيوعيّة العربيّة للسوفيات كاملةً إذ ارتهنتْ إلى حدٍّ كبيرٍ بدعمهم المادّيّ بعد أن فقدتْ زخمَها الخاصّ بسبب تعرّضها للقمع. وهذا ينطبق على اليمن الجنوبيّ؛ والمقارنةُ مع كوبا مفيدةٌ في هذا الإطار: فقد اضطرّت كوبا، بسبب الحصار الأميركيّ الخانق المستمرّ، إلى الارتهان بالاتحاد السوفياتيّ اقتصاديّاً، بما جعلها تَخضع لسياساتٍ انتقصتْ من دورها الثوريّ؛ لكنّ زخمَ الثورة الكوبيّة وتماسكَ قيادتها في استقلالها عن موسكو لجَما ارتهانَ التجربة بحيث استطاعت كوبا ان تستمرّ في الصمود بالرغم من انتهاء الاتحاد السوفياتيّ، ثم جاء فكُّ عزلتها في أميركا اللاتينيّة مع المدّ اليساريّ الجديد ليصلّب صمودَها. أما في اليمن فقد كان التدخّلُ السوفياتيّ مستندًا إلى تآكلٍ وصراعٍ داخلييْن في إطارٍ عامٍّ من انحسار موجة التجذّر العربيّة في السبعينيّات، فضلاً عن كون اليمن أفقرَ وأكثرَ تخلّفًا بكثير؛ وكلّها عواملُ أساسيّةٌ بكلّ تأكيد.
* قد يحمَّل الاتحادُ السوفياتيّ مسؤوليّةً كبيرةً عن “خصْي” الأحزاب الشيوعيّة. ولكنْ ألا تتحمّل البنيةُ الاقتصاديّة والاجتماعيّة العربيّة مسؤوليّةً أكبر؟
ـ أنا لا أحمِّل الاتحادَ السوفياتيّ “المسؤوليّة.” صحيح أنّ دوره عاملٌ أساسيٌّ من بين عواملَ شتّى تفسِّر الإخفاق، إلاّ أنّ مسؤوليّة الإخفاق ذاتيّةٌ بالتأكيد، تقع على عاتق قيادات الأحزاب الشيوعيّة، وتقع في التجربة اليمنيّة على جناح عبد الفتّاح إسماعيل الذي سيطر في القيادة. فالارتهان بالاتحاد السوفياتيّ أو غيره من الدول المموِّلة لم يُفرضْ على أحد. أما في صدد البنية الاقتصاديّة والاجتماعيّة العربيّة فقد ذكرتُ دورَ الفقر والتخلّف الشديد في اليمن، لكنني أعتقد أنه كان بالإمكان سلوكُ مسلكٍ مختلفٍ لو كانت القيادةُ اليمنيّةُ أكثرَ تماسكًا، ولو فاز الجناحُ الحريصُ على السيادة الوطنيّة والرافضُ للارتهان بموسكو. وأما بالنسبة إلى أحزبٍ شيوعيّةٍ أخرى، كالعراقيّ أو السوريّ أو الأردنيّ، فلا تفسِّر الشروطُ الاجتماعيّةُ والاقتصاديّةُ تحوّلَها إلى مسخ أحزابٍ شيوعيّة (هل كانت هذه الشروط في الصين أو فييتنام أكثرَ تقدّمًا لتنتج حزبيْن تولّيا قيادةَ الأمة؟). إنّ أزمة الحزب الشيوعيّ السوريّ قديمة، والجناح “الرسميّ” أو السوفياتيّ أصبح مومياءَ حزبٍ. أمّا الحزبُ الشيوعيّ العراقيّ فقد حافظ على بعض الزخم بعد السبعينيّات، لكنّ زخمَه تلاشى في المنفى مع الزمن، فانجرف بعد الاجتياح الأميركيّ للعراق إلى سياساتٍ لم تعد تمتّ بصلةٍ لا إلى الماركسيّة فحسب، بل ولا إلى الوطنيّة أو لمعاداة الإمبرياليّة اللتين شكّلتا قاسميْن مشتركيْن بين اليسار والقوميين حتى أواخر الستينيّات. لقد كان حريّاً بالحزب الشيوعيّ العراقيّ أن يغيِّر اسمَه إلى الحزب الديمقراطيّ العراقيّ أو أيّ تسميةٍ أخرى من هذا القبيل على غرار يمين الحركة الشيوعيّة الإيطاليّة.
* عندما تحدّثتَ عن أزمة اليسار العربيّ في مراحل سابقة قصدتَ التيّارات الماركسيّة، “المتجذّرة” أو التقليديّة. اليوم كيف يمكن أن نقرأ مفهومَ “اليسار”؟ أهو تيّارٌ ينطلق من خلفيّةٍ اجتماعيّةٍ واقتصاديّة، أمْ تيّارٌ يمتلك برنامجًا اقتصاديّاً اجتماعيّاً ثوريّاً أو إصلاحيّاً، أمْ ماذا بالتحديد؟
ـ سؤالٌ وجيه: أهناك ما يزال بالإمكان تسميتُه يسارًا عربيّاً؟ نجد في الواقع قوًى يمْكن تصنيفُها باليسار على اختلاف درجات الفقر،جذريّتها، من المحيط إلى الخليج، لكنّ معظمَها محدودُ الحجم والتأثير. وبالتالي فإنّ الحديث اليوم عن “يسارٍ عربيّ” وكأننا ما نزال نتداول المفهومَ الذي كان مستعملاً بين الخمسينيّات والسبعينيّات قد يوحي بشيءٍ خاطئ. اليوم، جلُّ ما يمكن قولُه هو أنّ ثمة مشروعَ يسارٍ عربيٍّ جديد؛ ثمة بقايا من جهة، وأجنّةٌ من الجهة الأخرى. والكلّ محدودٌ جدّاً: البقايا قياسًا بماضيها، والجميعُ قياسًا بمجتمعاتهم. في حديثي عن الماضي، انطلقتُ من التمييز بين أزمة النموّ وأزمة الاحتضار. أما اليوم فهل يمْكن الاستمرارُ في الحديث عن أزمة اليسار العربيّ؟ الحقّ أنّ الأزمة باتت وراءنا: لقد حصل احتضارٌ وموتٌ وفناء، والمطلوب إعادةُ بناء! لم تعد المسألة بالنسبة إلى اليسار العربيّ تفسيرَ “الأزمة” بقدْر ما هي معرفة “ما العمل؟”. وقد طُرح السؤالُ اللينينيُّ الشهيرُ عند الروس في بدايات الحركة في مستهلّ القرن العشرين، في ساحةٍ لم يكن فيها بعدُ يسارٌ جديرٌ بالذكر. وهذا السؤال نفسُه مطروحٌ لدينا في ساحةٍ لم يعد فيها يسارٌ جديرٌ بالذكر ــ وهذا فارقٌ عظيمٌ بالطبع، إذ إنّ وراءنا تاريخًا لا فراغًا. غير أنّ الأهمّ يبقى أنّ أمامنا مشروعَ يسار، بينما نقف في حاضرٍ يتميّز بشبه غيابٍ لليسار.
* لكنْ هل يصحّ حصرُ اليسار بالماركسيين دائمًا؟ ثم إنّ الكثير ممن يسمّون أنفسَهم “يساريين عربًا” لا يعني اليسارُ بالنسبة إليهم أكثرَ من العلمنة.
ـ ما المقصود باليسار؟ المقصود جميعُ الذين يَحملون برنامجَ تغييرٍ اجتماعيّ في اتجاه قيَمٍ تُصنّف بانها قيَمٌ يساريّة، ومنها العلمانيّة طبعًا، لكنْ ليس حصرًا وانفرادًا، بل منها أيضًا وبالضرورة قيَمُ العدالة الاجتماعيّة والمساواة والتحرّر من كافّة أشكال الاضطهاد: الوطنيّ والعرقيّ والجنسيّ والطبقيّ، الخ. وبين الأطراف الموجودة اليوم، أكانت بقايا أمْ أجنّة، تصوّراتٌ مختلفةٌ لقيَم اليسار. أما القواسم المشتركة فأهمُّها معاداةُ الرأسماليّة ومعاداةُ الإمبرياليّة.
* طيّب، إذا انطلقنا من المفهوم الذي طرحتَه لليسار، نأتي إلى موضوع علاقة “البقايا و الأجنّة،” كما سمّيتَها، بالأنظمة القائمة، ولا سيّما التي تصنّف نفسَها وتصنّفها الإمبرياليّةُ في خانة معاداتها. هذه العلاقة تُنتقد، سواءٌ من الفريق الذي يذهب باتجاه التصالح مع المشروع الغربيّ، أو من أصواتٍ قد تكون يساريّةً لكنها مستاءةٌ من خضوع البقايا والأجنّة (أو بعضها) لهيمنة أنظمة الممانعة. إذا استعرضْنا معظمَ البقايا الموجودة، باستثناء الحزب الشيوعيّ العراقيّ الذي صنّفتَه خارج الخطاب الوطنيّ، وإذا تحدّثنا عن القوى التي قد تكون أكثرَ استقلاليّةً في ارتباطاتها، فإننا نجدها تقف في معسكر الممانعة…
ـ أعتقد أنّ تعبير “معسكر الممانعة” مُبالَغٌ فيه عند وصف ما لا يتعدّى تزاوجَ المصالح بين أنظمةٍ وقوًى ذاتِ منطلقاتٍ غير منسجمة. والحال أن بين نظام البعث في سوريّا والنظام الأصوليّ الإيرانيّ هوّةً كبيرةً من الأسس الإيديولوجيّة، على الرغم من تزاوج المصالح بينهما. والأمر ذاتُه ينطبق على العلاقة بين إيران وفنزويلا: فهي علاقة المصلحة بين نظاميْن شديدَي الاختلاف، لكنّ بينهما قاسميْن مشتركيْن في كونهما دولتين نفطيّتيْن ومعاديتيْن للولايات المتحدة؛ وهذه العلاقة هزيلة إذا قورنتْ بعلاقات فنزويلا بشقيقاتها من الأنظمة اليساريّة في أميركا اللاتينيّة. وبالتالي فإنّ إطلاق تعبير “المعسكر” على ذلك التحالف، كما كان يقال “المعسكر الاشتراكيّ” في وجه “المعسكر الغربيّ” عند الحديث عن تحالفاتٍ صلبةٍ تميّزتْ بالثبات التاريخيّ واستندتْ إلى أنظمةٍ متجانسةِ الطبيعة، لهو أمرٌ مضلّلٌ تمامًا.
أما ردّاً على سؤالك، فليست هناك على حدّ علمي قوًى يساريّةٌ عربيّةٌ ذاتُ علاقاتٍ بالنظام الإيرانيّ. فهذا الأخير، إذا سهُل عليه التحالفُ بناءً على مصالحه مع دولٍ يراها يساريّةً، يَصْعب عليه تأييدُ قوًى يساريّة غير حاكمة في صراعها ضدّ أنظمة بلدانها، وبالأخصّ إذا كانت تلك القوى ناشطةً داخل “دار الإسلام” حيث توجد قوًى إسلاميّةٌ أصوليّةٌ تشاطر طهالانة ن الجهة الأخرىرانَ منطلقاتِها الإيديولوجيّة الأساسيّة، وكم بالأحرى إذا كانت القوى اليساريّة ماركسيّةً… أيْ “ملحدةً”! وقد سَحق هذا النظامُ اليسارَ في بلاده، بما فيه فصائلُ كانت مناصرةً للنظام الخمينيّ، الأمرُ الذي لم يمنعْه من نسج علاقات المصلحة مع دولٍ تحْكمها أحزابٌ شيوعيّة كالصين أو الاتحاد السوفياتيّ.
إنّ النظام الايرانيّ يرتكز على إيديولوجيّةٍ دينيّة، إسلاميّةٍ أصوليّةٍ شيعيّة. وهذا المنطلق الإيديولوجيّ هو الذي يحدِّد طبيعةَ القوى التي يتعامل معها داخل “دار الإسلام”: فثمة قوًى يعتبرها شقيقة، إذ تشاطره كلَّ مكوِّنات إيديولوجيّته (مثل حزب الله في لبنان، والمجلس الإسلاميّ، والى حدٍّ ما حزب الدعوة وتيّار مقتدى الصدر، في العراق)؛ أما خارج إطار الأشقّاء ذوي التعريف الطائفيّ الإيديولوجيّ، فنجد سلفيين إسلاميين من أهل السنّة، كحركة الإخوان المسلمين في مصر وحركة حماس في الساحة الفلسطينيّة. وليس النظامُ الإيرانيّ مهتمّاً جدّاً بعقد علاقاتٍ مع قوًى شيوعيّة في العالم الإسلاميّ.
* لم أقصدْ علاقات تعاونٍ تنظيميّة أو ندّيّة، ولكنْ هناك حتى ضمن “يسار البقايا والأجنّة” مَن يروِّج لجبهةٍ طويلةٍ عريضةٍ تمتدّ من كوريا الشمالية إلى فنزويلا وما بينهما.
ـ صحيح أنّ هناك مَن ينظّر لمثل هذا من بين بقايا التيّار القوميّ، أو بين قوًى يساريّةٍ سابقًا تأسلمتْ لاحقًا على غرار ما يمثّله منير شفيق. لكنني أعتقد أنّ المشكلة هنا هي عند اليسار. ففي رأيي أنّ أحدَ أهمّ شروط إعادة بناء اليسار في منطقتنا هو استقلالُه الكاملُ عن الأنظمة العربيّة القائمة، لا بل إدانتُه لطبيعتها وممارساتها القمعيّة. فلا مصداقيّة لأيّ طرفٍ يدّعي اليسارَ ويدّعي تبنّي قيَم اليسار ـ والديمقراطيّةُ من بديهيّاتها ـ ثمّ يَعْقد علاقةً مع نظامٍ غير ديمقراطيّ. ولو أردنا أن نميِّز حالة اليسار الفلسطينيّ في هذا المجال، لكونه صاحبَ مكاتب وتسليحٍ وهلمّجرّاً، فسيحيلنا التمييزُ على تقدير الفارق: بين حالة العلانيّة البيروقراطيّة التي تحتِّم العلاقة بنظام بلد الإقامة، وحالةِ السرّيّة الثوريّة التي سبق أنْ عرفها هذا اليسارُ في البلدان التي يعمل علانيةً فيها اليوم؛ فقد كان نموُّه أقوى، وجاذبيّتُه أعظمَ بكثير، في مرحلته السرّية، ممّا هما عليه الآن.
* بالعودة الى التاريخ قليلاً، كان الشيوعيون في العراق يُذبحون، وكانت أحزابٌ عربيّةٌ شقيقة في الحركة الوطنيّة اللبنانيّة وفي منظّمة التحرير الفلسطينيّة تقيم علاقاتٍ على مستوى القيادة مع حزب البعث العراقيّ.
ـ كلامك صحيح. والأحزاب اليساريّة التي تنسج علاقة اليوم مع النظم القمعيّة تفعل ذلك على حساب صدقيّة مواقفها وعلى حساب هويّتها. هي في النهاية تبيع روحها. ومن أجل ماذا؟ لا شيء تقريبًا، سوى حفنةٍ من الدولارات وترخيصٍ بفتح مكاتب تحت رقابةٍ مخابراتيّة شديدة.
* أليس الأمر أنّ مَن ادّعوْا تجذيرَ الحركة الشيوعيّة بعد سنة 1967، وانتقدوا موقفَ الأحزاب الشيوعيّة من القضيّة القوميّة، غَلّبوا القوميّةَ على قضايا الناس وعلى موضوع التغيير الاجتماعيّ، فتحالفوا مع الأنظمة البورجوازيّة القوميّة؟
ـ كانت لدى معظم أحزاب اليسار بعد سنة 1967علاقاتٌ بهذه الأنظمة. خُذ النظامَ البعثيّ العراقيّ على سبيل المثال: لقد كان نظامَ بطشٍ وسفحٍ رهيبيْن، وجاء إلى الحكم عن طريق الانقلاب سنة 1968 (وبالتنسيق مع وكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة) لإنقاذ الدولة البرجوازيّة في العراق من الإطاحة. وقد تمّ ذلك بسحق الخطر الشيوعيّ الذي تَهدَّد تلك الدولةَ، وتمثّل في جناح “القيادة المركزيّة” في الحزب الشيوعيّ العراقيّ وبؤرة الكفاح المسلح بقيادة خالد أحمد زكي. وما لبث أنْ سُحق جناحُ الحزب الآخر، اليمينيّ والسوفياتيّ، بعد مرحلة من التعاون القذر مع السلطة البعثيّة. صحيح أنّ النظام حاول أن يَفرضَ نفسَه على الساحة العربيّة ببعض المزايدة القومجيّة اللفظيّة، لكنّ هذه لم تمنعْه على سبيل المثال من دعم النظام الأردنيّ في تصفية المقاومة الفلسطينيّة في أيلول 1970، وذلك بمنع نظام 23 شباط السوريّ من مدّ يد العون إليها. ثم شنّ حربًا على الأكراد أفضت به إلى عقد اتفاقٍ مشينٍ مع شاه إيران، وما لبث أن شنّ حربًا كارثيّةً على الجمهوريّة الإسلاميّة (بعد انتصار الثورة الإيرانيّة) وبتشجيعٍ أمريكيّ.
ترى إذًا أنّ دخولَ بعض فصائل اليسار، الفلسطينيّ خاصّةً، في علاقةٍ بنظام بغداد لم يدلّ في الواقع على تغليب الوجهة القوميّة كما ذكرتَ، بل كان نفيًا كاملاً للبعد القوميّ. فالتنظيمات المعنيّة لم تنْظرْ إلى غير مصلحتها القُطْريّة الضيّقة، فرأت أنها تستطيع أن تستفيدَ من علاقتها بنظامٍ قمعيٍّ في بلدٍ آخر. ولو كان فعلاً لدى تلك الأحزاب منظورٌ قوميّ، بمعنى إدراك تلازم النضالات في كافّة الساحات القُطْريّة العربيّة، لا بمعنى الإيديولوجيا القوميّةِ طبعًا، وبمعنى رفع الوعي إلى مستوى مهمّة التوحيد القوميّ العربيّ التي ينبغي أن تكون مهمّةً رئيسيّةً في برنامج أيّ حركةٍ جذريّةٍ في العالم العربيّ، لما قامت ببناء علاقةٍ بنظامٍ على شاكلة حكم بغداد. العلّة إذًا ليست في المنظور القوميّ، بل في المنظور القُطْريّ. خُذ الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين بوصفها فصيلاً رئيسيّاً من فصائل “اليسار الجديد” في آخر الستينيّات، وهي فصيلٌ نتج من تجذّرٍ و”تمركسٍ” في حركةٍ قوميّةٍ برجوازيّةٍ صغيرة، لكنه فصيلٌ حَسِبَ أنّ تمركسَه يقضي بالغاء هويّته القوميّة الأوّلية، والتركيزِِ على الساحة الفلسطينيّة بشكلٍ مطلق (طبعًا تحوّلتْ بعضُ فصائل “حركة القوميين العرب” إلى منظّماتٍ حملت اسمَ “حزب العمل الاشتراكيّ العربيّ” في ساحاتٍ عربيّةٍ شتّى، لكنها بقيتْ هزيلةً). هذا المنطق لخّصه جورج حبش بشعار “الحركة في خدمة الجبهة، وليست الجبهة في خدمة الحركة” ــ وهذا منطقٌ قُطْريٌّ خالص، يؤدّي إلى تحويل “الحركة” إلى ذيلٍ للجبهة، مثلما تحوّلت الحركةُ الشيوعيّة من أمميّةِ أحزابٍ متساويةٍ في تصدّيها لمهامّ ثوريّة، كلٍّ في بلده، إلى أذنابٍ للاتحاد السوفياتيّ. فالمنطق القُطْريّ هو الغالب عندما يَعتبر اليسارُ الفلسطينيُّ أنّ مصلحته الضيّقة في التعامل مع الأنظمة أوْلى من واجبه الثوريّ في التعاون مع القوى الوطنيّة الديموقراطيّة الجذريّة.
* ولكنْ هنالك اختلاف. فالقول بأنّ الأحزاب الشيوعيّة، بنموذجها السوفياتيّ، نادت بالدفاع غير المشروط عن الاتحاد السوفياتيّ، شيء، والحديثُ عن فصيلٍ معيّنٍ ومقاتلٍ وعلى تماسٍّ مباشرٍ مع المؤسّسة العسكريّة والاستيطانيّة والكولونياليّة الإسرائيليّة شيءٌ آخر؛ فهذا قد يُفهم تجسيدًا عمليّاً لشعار “تحرير فلسطين.”
ـ هذا ليس اختلافًا في واقع الأمر. فقد كان يُنظر إلى الاتحاد السوفياتيّ أيضًا على أنه فصيلٌ مقاتلٌ من أجل إزالة الرأسماليّة العالمية؛ فألغى مفهومَ “الثورة العالميّة” واستبدله بشعار “الاشتراكيّة في بلدٍ واحد،” وحَوّل أداةَ الثورة العالميّة في نظره ـ أي الأمميّة الشيوعيّة ـ إلى حركة تضامنٍ لامشروطٍ مع دولته، فكيّفت الأحزابُ الشيوعيّةُ في مختلف البلدان سياساتِها وفقاً لعلاقات الدولة السوفياتيّة بحكومات بلدانها. كلُّ ذلك يجعل التشبيهَ الذي أتيتُ على ذكره مشروعًا، مع أخذ الفروق الأكيدة في عين الاعتبار. أقصدُ أنّ الفصيل الفلسطينيّ المقاتل للصهيونيّة غلّب مصالحَه القُطْريّة على مفهوم “الثورة العربيّة،” وذَوّب الثورةَ العربيّة في الثورة الفلسطينيّة، مثلما ذُوّبت الثورةُ العالميّة في دعم “الاشتراكيّة” (أي الستالينيّة) في الاتحاد السوفياتيّ. والنتيجة أنّ المنطقَ القُطْريّ، الذي يقضي بتغليب المصلحة الآنيّة الضيّقة للفصيل الفلسطينيّ على أيّ اعتبارٍ آخر، يتيح له أن يتلقّى الدعمَ المادّيّ من بعض الأنظمة، ويساهم لقاءَ هذا الدعم في سعي هذه الأخيرة إلى أن تضفي على نفسها (زورًا) شرعيّةً وطنيّةً وقوميّة. أما إذا كان الفصيلُ يَعتبر أنّ نضاله يندرج في مهمّة بناء الحركة الثوريّة على صعيد المنطقة العربيّة بأسرها، ويَعتبر أنّ ثمة تشابكًا بين مصالح العمل الثوريّ في كلّ قطر، فإنّ الأمور تصبح عظيمة الاختلاف: فعندها، سيُخضع الفصيلُ موقفَه من كلّ ساحةٍ من الساحات الأخرى لموقف المناضلين الثوريين داخل تلك الساحة.
* لن ندخل الآن في موضوع منظمة التحرير وفصائلها وموضوع الهويّة الوطنيّة الفلسطينيّة، أو موضوعِ الجبهة الشعبيّة التي كان لها موقفٌ ومشاركةٌ في الأردن عام 1970 وفي الحرب اللبنانيّة. لكنني أريد التوقف عند ما ذكرتَه من أنّ أحد أبرز أسباب تعثّر اليسار العربيّ هو تغليبُه المصلحةَ القطْريّة على القوميّة.
ـ يُبنى اليسار ارتكازًا على الأدوات التي تكون صالحةً في خدمة إستراتيجيّته. والسؤال إذًا هو: كيف تكون الإستراتيجيّة اليساريّة في المنطقة العربيّة؟ إذا نظرنا إلى جميع الأنظمة العربيّة القائمة في السبعينيّات (باستثناء اليمن الجنوبيّ)، نراها جميعًا متناقضةً على حدٍّ سواء مع قيام حركةٍ جماهيريّةٍ ثوريّة. ولا يجوز بالتالي أن يراهن أيُّ فصيلٍ ثوريّ على الأنظمة العربيّة، بل ينبغي أن يكون رهانُه حصرًا على الحركة اليساريّة الثوريّة في كلّ بلدٍ عربيّ.
أضفْ الى ذلك بندًا أساسيّاً آخرَ من بنود أيّة إستراتيجيّةٍ ثوريّة، ألا وهو تشخيصُ الجبهة المعادية. فنحن نجد أنّ التوحيد العربيّ مهمّةٌ أساسيّةٌ من مهامّ الثورة العربية. الثورة، بأعمق معاني الكلمة، ليست فشّةَ خلق، بل منعطفٌ تاريخيٌّ يؤدّي إلى تحرير القوى المنتجة من البنى الاجتماعيّة والسياسيّة التي تعوِّق تطوّرها. والحال أنّ تطوّر القوى المنتِجة العربيّة لا يصطدم بالطبيعة الطبقيّة لكلّ دولةٍ عربيّةٍ فقط، ولا بالهيمنة الإمبرياليّة على السوق العالميّة وحسب، بل يصطدم أيضًا وبالدرجة الأولى بتفتيت المنطقة العربيّة إلى أقطارٍ منفصلة، يرتبط كلٌّ منها بالاقتصاد الإمبرياليّ أكثرَ بكثيرٍ من ارتباطها بعضِها ببعض. نحن في عصر تشكُّل الوحدات الاقتصاديّة الكبيرةّ. وأتذكّر قبل بضع سنوات سائقَ سيّارة نقل عموميّ على طريق بيروت ـ دمشق، كان يعاني (مع سائر الركّاب) التعقيداتِ البيروقراطيّةَ التي تطيل مدّة اجتياز الحدود بين البلدين: لقد كان يشتكي من كون الأوروبيين الذين يتحدّثون لغاتٍ عديدة قد توحّدوا، أما نحن العرب الذين نتداول جميعًا لغةً واحدةً فلا زالت الحواجزُ قائمةً بين دولنا.
إنّ الموجة القوميّة العارمة التي عرفتْها الخمسينيّاتُ والستينيّاتُ لا تزال كامنةً، وإنّ إعادة إحيائها ممكنة تمامًا في حال وجود أطرافٍ قادرةٍ على تجسيدها في نظر الجماهير. المعلوم أنّ مفهوم “الأمميّة” عند ماركس ليس مفهومًا أخلاقيّاً بل مبنيٌّ على تحليلٍ لطبيعة النظام الرأسماليّ كنمط إنتاجٍ عالميّ في جوهره، وللتضامن المحتوم بين الطبقات الرأسماليّة العالميّة في وجه الحركة العمّاليّة العالميّة، ومن ثم لوحدة مصالح هذه الحركة. وتؤدّي كلُّ هذه المعطيات الى أن يتنافى مفهومُ “الأمميّة” مع قيام أيّ فصيلٍ عمّاليّ بعلاقة مع الحكومة البرجوازيّة في بلدٍ آخر (طبعًا، يختلف الأمر في حال تسلّمِ فصيلٍ عمّاليّ زمامَ السلطة في بلدٍ ما، فلا بدّ عندها من التمييز بين العلاقات الدبلوماسيّة التي تقيمها الدولةُ الثوريّة والعلاقاتِ النضاليّة التي يقيمها الحزبُ الثوريّ)؛ فكم بالأحرى أن تصحّ القاعدة على الصعيد العربيّ الذي هو أكثرُ تداخلاً من الصعيد الأمميّ! والمصالحُ التي ينبغي أن يُبنى اليسارُ على أساسها هي مصالحُ الكادحين في كافّة الدول العربيّة، والعلاقةُ التي يجب أن تُبنى هي العلاقةُ الأفقيّة بين فصائل الحركة الثوريّة العاملة في صفوف الطبقات الكادحة على نطاق المنطقة العربيّة بأسْرها، لا العلاقة بين فصائلَ تدّعي تمثيلَ مصالح الكادحين وبين حكومةٍ تُشْرف على استغلالهم وقمعهم.
* في السابق تمّ تمريرُ (أو تبريرُ) مثل هذه العلاقات بشعار “التحالف الجبهويّ العريض” الذي يضمّ، إلى ممثّلي الطبقة العاملة، القوى البرجوازيّةَ الصغيرةَ “الثوريّة.” هذا الشعار ربّما خنق الحركةَ الشيوعيّة بالأمس، وجعلها تابعةً وذيليّة. أفلا يهدِّد مثلُه اليوم بخنق الأجنّة والمشروع، ولا سيّما حينما يتمّ الحديثُ مجدّدًا عن مقولةٍ مثل “التناقض الرئيسيّ والتناقض الثانويّ” وتغليبِ الأول على الثاني؟ فمثلاً، إذا وُجد فصيلٌ كحزب الله يقاتل إسرائيل ولكنه يتناقض مع أهداف اليسار الأخرى، فهل نغلّب “التناقضَ الرئيسيّ” على “التناقض الثانويّ” هنا أيضًا؟
ـ هذا المنطقالعاجة الأولى سطحيٌّ وخاطئ. لا يوجد تناقضٌ “رئيسيّ” وآخر “ثانويّ” بحيث يتحوّل الثاني إلى علاقة صداقة! والحقّ أنّ حالات المراهنة على “التناقض الثانويّ” في وجه “الرئيسيّ” غالبًا ما انتهت بقيام النقيض “الثانويّ” بطعن الحليف في الظهر لدى عقده صفقةَ مع النقيض “الرئيسيّ”؛ ومسارُ حرب لبنان في مرحلتها الأولى خيرُ شاهدٍ على ما أقول. كما إنّ وحدة مصالح الكادحين على امتداد المنطقة العربيّة ليست مسألة تحالفٍ جبهويّ، بل وحدةٌ عضويّة، ويجب أن تتجسّد بارتباطاتٍ عضويّةٍ للحركة الثوريّة على الصعيد العربيّ. وينبغي أن تقوم هذه الارتباطاتُ على أساس العلاقة المتساوية بين أطرافٍ تنظّم الكفاحَ الطبقيَّ والمجهودَ الثوريَّ في بلدانها، لا على أساس ارتباط كلّ فصيلٍ بالحكومات المنافسة لحكومة بلده! أمّا القول بأنّ “الأنظمة القوميّة تمثّل البرجوازيّة الصغيرة” فيتغاضى عن نقطةٍ أساسيّةٍ، وهي أنها لم تكن قطّ حكوماتٍ تعبّر حقّاً عن مصالح البرجوازيّة الصغيرة أو الطبقات الوسطى، بل تغْلب فيها مصلحةُ الجهاز “الأمنيّ” على أيّة مصلحةٍ أخرى.
* لكنّ هنالك أيضًا حركاتٍ شعبيّةً مثل حماس وحزب الله، وهذه تقاتل إسرائيل!
ـ نعم، وهاتان الحركتان من طبيعةٍ برجوازيّةٍ صغيرةٍ حقّاً، وتختلفان عن حالة الأنظمة التي تحدّثتُ عنها. إنهما حركتان تجسّدان الصراعَ ضدّ الدولة الصهيونيّة، لكنْ بأفقٍ اجتماعيّ وإيديولوجيّ سلفيّ يشكّل بذاته أفصحَ تعبيرٍ عن الارتداد العميق الذي أصاب الساحةَ العربيّة خلال العقود الثلاثة الأخيرة. طبعًا، لا حماس ولا حزبُ الله يدّعيان اليسار، ولا عاقلَ يصنّفهما في خانة اليسار، بل هما قوّتان حاملتان لإيديولوجيّةٍ دينيّةٍ مناقضةٍ لكلّ ما يمثّله اليسارُ في المجال الاجتماعيّ والثقافيّ، وإنْ كانتا أيضًا وبالتأكيد قوّتان وطنيّتان بمعنى معاداتهما للصهيونيّة ومعارضتهما للمشروع الإمبرياليّ. وفي ما يتعلّق بـ “حماس” تحديدًا، فإنّ للتصنيف الأخير حدودًا جليّة، لأنّها ذاتُ علاقة أيضًا بالمملكة السعوديّة، المحميّةِ الإمبرياليّةِ الأساسيّةِ في العالم العربيّ بعد الدولة الصهيونيّة، بل قبلها؛ وينطبق على “حماس” بالتالي ما انطبق على حركة “فتح” في الماضي للسبب ذاته. وعلى الرغم من أنّ ارتهان “فتح” بالمملكة كان أكبرَ من ارتهان “حماسملكة كانتك المصنععمل في المؤسسة المنافسة لمؤسستهم،” إلاّ أنّ إيديولوجيّتها كانت أقلَّ رجعيّةً بكثيرٍ من إيديولوجيّة الأخيرة.
* لكنّ سؤالي هو: هل يجوز لليسار أن يبقى ملتحقًا بمثل هذين الطرفين (حزب الله وحماس)؟
ـ هناك فرقٌ أساسيٌّ بين علاقة اليسار بالأنظمة القمعيّة، وعلاقتِه بالقوى المقاتلة: فهذه تجتذب الجماهير تأطيرًا لنضالها، أما تلك فتلجمها منعًا لنضالها. أرى، على سبيل المثال، أنه من المشروع لفصيلٍ يساريٍّ في لبنان أن يكون على علاقةٍ بحزب الله، لكنني لا أرى أنه من المشروع لليسار في لبنان أن تكون له علاقة بالنظام الإيرانيّ. النظام الإيرانيّ نظامٌ رأسماليّ وديكتاتوريّةٌ دينيّة، يعمل بوحيٍ من مصالحه الطبقيّة والفئويّة. أما حزبُ الله، فبالرغم من ارتباطه بالدولة الإيرانيّة، إلاّ أنه يمثّل بالدرجة الأولى زخمًا شعبيّاً في لبنان، وبات درعَ طائفةٍ هي أحدُ المكوّنات الأساسيّة للمجتمع اللبنانيّ، وبالتالي فهو حامٍ للوطن أجمع. المسألة هنا ليست مشروعيّة العلاقة في ذاتها (وأنا أراها مشروعةً تمامًا) بل مسألة شروطها وكيفيّتها: كيف تكون العلاقةُ بأطرٍ دينيّةٍ مشاركةٍ في كفاحٍ وطنيّ؟ الشرط الرئيسيّ هنا هو أن تكون العلاقةُ من موقع الاستقلال التامّ، مع ممارسة الصراع الإيديولوجيّ ضدّ الطرف المعنيّ وإنْ كان حليفًا في الكفاح الوطنيّ. وبالطبع يرتبط ذلك بضرورة قيام اليسار بواجبه الثوريّ (المقاوِم بشتّى الوسائل) من دون تقصير، كي يَظهر في نظر الجماهير بمظهر الطرف الأكثر تعارضًا مع الوضع القائمِ المطلوب تغييرُه.
فلنتحدّثْ عن نموذجٍ فعليّ. اليسار الفلسطينيّ مثلاً لم يقم بواجبه في التصدّي الإيديولوجيّ لتيّار “حماس” بصورةٍ ثابتةٍ وصارمة. وإذا عدنا إلى الانتفاضة الاولى في العام 1988، فقد كان زخمُ اليسار أقوى بدرجاتٍ من زخم “حماس” التي كانت في بداية نشوئها. وقد لعبت الفصائلُ اليساريّة، كالجبهة الشعبيّة وغيرها، دورًا أساسيّاً في تنظيم الانتفاضة. لكنّ أمرين أدّيا إلى اضمحلال اليسار في الساحة الفلسطينيّة. أوّلُهما عدمُ تصدّيه الصارم للقيادة اليمينيّة لمنظمة التحرير، وقبولُه بقيام هذه القيادة باحتواء الانتفاضة، ولاسيّما من خلال مصادرة قرار قيادات الداخل وبثّ البيانات من تونس، فتخلّى اليسارُ بذلك عن موقع القوّة الذي تمكّن من أن يبنيَه في الأراضي المحتلّة سنة 1967. وثانيهما هو عندما بدأ التصادمُ مجدّدًا مع اليمين الفلسطينيّ بعد اختياره المراهنةَ على واشنطن، فتحالف اليسارُ الفلسطينيّ مع “حماس” تحت رعايةٍ سوريّةٍ، متخلّيًا عن الصراع الإيديولوجيّ. فعلى سبيل المثال، صَدرتْ في دمشق بياناتٌ مشتركةٌ عن الفصائل العشرة للمعارضة الفلسطينيّة كانت تبدأ بالبسملة، مع أنها حَملتْ تواقيعَ فصائل تَعتبر نفسَها ماركسيّة (طبعًا هذا مجرّدُ عارضٍ رمزيٍّ من عوارض التقصير في واجب الصراع الإيديولوجيّ). وهكذا تُركت للتيّار الدينيّ مهمّةُ النقد الصارم للقيادة الفلسطينيّة ولسطوتها على المؤسّسات الوطنيّة، ففَرضتْ “حماس” نفسَها بديلاً جذريّاً للقيادة العرفاتيّة، في حين ظهر موقفُ اليسار متذبذبًا متراوحًا بين التعبير عن الامتعاض الشديد من اليمين العرفاتيّ والالتحاقِ به باسم “الوحدة الوطنيّة.” هذا الأمر قضى على الزخم الذي كان يمكن أن يوظّفه اليسارُ في تحوّله إلى قيادةٍ بديلةٍ للكفاح الفلسطينيّ، وسمح لحركة حماس بأن تستقطبَ بنفسها النقمةَ الجماهيريّةَ على قيادة منظّمة التحرير.
* إذا انتقلنا إلى سياقٍ آخر، وهو موقفُ قوى اليسار العربيّ الحاليّة من موضوعة “بناء الدولة،” ألا ترى أنّ هذه الموضوعة لم تكن أولويّة بالنسبة إلى اليسار، وليست كذلك الآن؟
ـ مهمّة اليسار الحقيقي ليست المساهمةَ في بناء دول الطغيان الطبقيّ والفئويّ القائمة في الساحة العربيّة، بل بناءُ دولٍ جديدةٍ قائمةٍ على إرادة الشعوب والجماهير الكادحة. قُل لي أيّ دولة في العالم العربيّ يمْكن يسارًا يستحقّ هذه التسمية أن يسْهم في بنائها؟! كان ذلك ممكنًا في حالة الدولة اليمنيّة الجنوبيّة في أوائل السبعينيات. وما عدا ذلك، فأين؟
* وهل يجب هدمُ البنيان كلِّه، أمْ إصلاحُه؟
ـ قُل لي أين يمْكن إصلاحُه؟ ليس من دولةٍ في المنطقة العربيّة يمْكن إصلاحُها! طبعًا أنا أتحدّث هنا عن الأفق الإستراتيجيّ. والمسألة أبسطُ وأكثرُ أوّليّةً من موضوع تحطيم الدولة البرجوازيّة في المنظور الماركسيّ المعروف. فدولُ أوروبا دولٌ رأسماليّة، لكنّها تَصْلح على الأقلّ إطارًا للنضال من أجل تغييرها سلميّاً من خلال المؤسّسات الديمقراطيّةً. أما في منطقتنا العربيّة، فالحالتان العربيّتان الوحيدتان اللتان نجد فيهما اليوم مجالاً ما من الديمقراطيّة الانتخابيّة هما تركيبتان طائفيّتان: لبنان والعراق. هذا هو الواقع المُزري القائم. طبعًا، يتحتّم على اليسار أن يسعى، حيث أمكن، إلى توسيع المجال الذي تستطيع الحركةُ الجماهيريّةُ أن تسير من خلاله، أيْ توسيع مجال الحريّات والنضال من أجل المطالب الآنيّة، سواء أكانت ديمقراطيّة أم اجتماعيّة متعلّقة بمستوى المعيشة الكارثيّ على الصعيد العربيّ؛ هذا ناهيك بمجالاتٍ أخرى أساسيّةٍ مثل المجال النسائيّ (إذ لدينا من بين جميع مناطق العالم أسوأُ مستوى من الاضطهاد الجنسيّ بشكل عامّ، والنسائيّ بشكل خاصّ). كلّ هذه النضالات نضالاتٌ يوميّة، وأيُّ فصيلٍ يساريّ يقوم بواجبه النضاليّ سيصطدم بالضرورة بالأطراف الأخرى، الدينيّةِ وغيرِ الدينيّة.
* ألم يكن ممكنًا تحقيقُ اختراقٍ ما في لبنان لو نجحتْ قوى اليسار وقوًى مدنيّةٌ في فرض قانونٍ انتخابيّ متوازنٍ ونسبيّ؟
ـ أنت تشير إلى حالةٍ استثنائيّةٍ لبلدٍ عربيّ يوجد فيه مجالٌ للنضال الديمقراطيّ. ولكنّ هذا المجال ضيّقٌ أو معدومٌ في كافة البلدان العربيّة الأخرى، بحيث يكتسب مطلبُ الديمقراطيّة فيها طابعًا ثوريّاً، ويحتاج تحقيقُه إلى خضّ النظام على أقلّ تقدير. لبنان أمرٌ آخر؛ فالدولة فيه ضعيفة نسبيّاً، وقد تحوّلتْ جزئيّاً إلى فدراليّة طوائف، فيمْكن النضالُ من أجل تغيير القانون الانتخابيّ. غير أنه من الوهم في رأيي أن يتصوّر المرءُ إمكانَ تغيير النظام السياسيّ اللبنانيّ في اتجاهٍ ديمقراطيٍّ لاطائفيّ عن طريق الضغط الإصلاحيّ بواسطة مؤسّسات النظام عينها. لماذا؟ لأنه نظامٌ مقفل. فما دام تعديلُ القوانين يتطلّب المرورَ بأكثريّةٍ من ضمن التركيبة الطائفيّة الحاليّة، فلن تلغي التركيبةُ نفسَها بنفسِها. وإذا توخّينا التغييرَ وجب أن نسعى إلى بناء حركةٍ جماهيريّةٍ ديمقراطيّةٍ لاطائفيّةٍ في الشارع. والأساس الوحيد القادر على جمع مثل هذه الحركة، بما تحتاج إليه من زخمٍ وقوّة، هو أساسُ المصالح الطبقيّة. وإذا قامت مثلُ تلك الحركة، فلن تغيّرَ القانونَ الانتخابيَّ وحسب، بل ستغيّر أكثرَ منه بكثير أيضًا، وستُدخل البلادَ بالتالي في ديناميّةٍ ثوريّة. أقول هذا لا لأنفي أهميّة النضال من أجل تغيير القانون الانتخابيّ، بل للتحذير من التوهّم بأنّ التغيير سيتمّ من ضمن التركيبة الحاليّة. ومع ذلك، فأنا مع طرح هذا المطلب لغايةٍ تربويّةٍ تثقيفيّة، بوصفه من المطالبي للنظام السياسيلبلدين، التي تُرفع سعيًا وراء بناء حركةٍ تمثّلُ مصالحَ الجماهير الكادحة، ولا بدّ أن تكون عَلمانيّة ونسويّة وبيئيّة،…
* ما الذي يجب أن يغيّرَه اليسارُ العربيّ في المطالب التي كان يحْملها من قبل؟
ـ أعتقد أنّ علاقة اليسار العربيّ بالمطالب المذكورة كانت ركيكةً جدّاً في الأصل.
* كانت موجودة في أدبيّاته على الأقلّ.
ـ في أدبيّاته نعم، أما في النضال الفعليّ فبشكلٍ راح يتضاءل مع مرور الزمن، ناهيك تحديدًا بالموضوعين النسويّ والعلمانيّ، اللذين أدّت طبيعتُهما الحسّاسةُ إلى استسلامٍ كاملٍ من قِبل معظم اليسار في شأنهما.
* بحجة عدم استفزاز المجتمع…
– نعم. أمّا إذا تناولنا المسألتين الديمقراطيّة والاجتماعيّة حصرًا، فسنجد تنظيماتٍ ضمن اليسار الجديد في السبعينيّات قامت بسعيٍ جدّيّ في هذا المضمار. وعلى صعيد المشرق العربيّ، فإنه يمْكن أن نشير إلى تجربة منظمة العمل الشيوعيّ في لبنان، التي سرعان ما غرقتْ في مستنقع “الحركة الوطنيّة اللبنانيّة” الواقعة بين القيادة الجنبلاطيّة والوصاية العرفاتيّة. هذا وبقيت التنظيماتُ في الثمانينيات.خيرة الجذريّةُ الأخرى جنينيّة. أما الفصائل الكبرى المؤلّفة من الحركة الشيوعيّة التقليديّة واليسار الفلسطينيّ المنحدر من أصلٍ قوميّ، فإنّ علاقتها بالقيَم اليساريّة كانت هشّةً على العموم، وقد غلب عليها منطقُ التذيّل للفئات البرجوازيّة التي اعتبرتْها “وطنيّة.” ويكفي النظر في حالتَي اليسار اللبنانيّ (ممثلاً بالحزب الشيوعيّ ومنظمة العمل الشيوعيّ) واليسار الفلسطينيّ؛ ففي الحالتين تذيّلٌ لقياداتٍ برجوازيّة: بعض اليسار الفلسطينيّ تذيّلَ للقيادة العرفاتيّة، والبعضُ الآخر بدا عاجزًا عن التصدّي الجذري لها؛ واليسار اللبنانيّ تذيّلَ للقيادة الجنبلاطيّة (وهي قيادة برجوازيّة طائفيّة فوق ذلك).
* كان اليسار العربيّ في حضن يسارٍ عالميّ. وإذا أردنا الحديثَ عن يسارٍ عالميّ اليوم، فإنّ حركة مناهضة العولمة حاضرةٌ ربّما على حساب الحركة العمّاليّة التي تراجعتْ كثيرًا؛ ونرى حركة في أميركا الجنوبيّة وقد أصبحتْ حركة أنظمة. هل يمكن أن ينمو يسارٌ عربيّ بدون حاضنةٍ واضحةٍ متمثلة في يسارٍ أكبرَ وأشمل؟
– اليسار العربيّ في أزمةٍ هي من العمق بحيث يحتاج فعلاً إلى مثالٍ خارجيٍّ يشير إليه كي يعيد بعضَ الصدقيّة إلى المشروع الاشتراكيّ. اليوم، في أميركا اللاتينيّة، تتطوّر تجاربُ يساريّةٌ بالمعنى الفعليّ للكلمة، وليست مسوخًا كما شهدنا في منطقتنا العربيّة. إنها حركاتٌ قائمةٌ على تعبئةٍ شعبيّةٍ واسعة، وحركاتٌ ملتزمةٌ بالأطر الديمقراطيّة، تحاول دفعَ المجتمع إلى الأمام عبر التغييرات الاجتماعيّة وغيرها. وهي تذكّرنا، إلى حدٍّ ما، بالتجذّر القوميّ الذي ساد في منطقتنا العربيّة في الخمسينيّات والستينيّات، لكنْ بصيغةٍ مبنيّةٍ على المشاركة الشعبيّة التي كانت مفقودةً تمامًاً عندنا في زمن الناصريّة، حيث كانت الأنظمةُ القوميّةُ مخابراتيّة (أما فلولُها اليوم فمخابراتيّةٌ صرف، بلا أيّ زخمٍ قوميّ أو شعبيّ).
لكنّ أميركا الجنوبيّة بعيدة عنّا جغرافيّاً وثقافيّاً. والحقّ أننا أكثر تأثّرًا بما يحصل في تركيا وإيران، ناهيك بتأثّر كلّ بلدٍ من بلداننا بما يجري في البلدان العربيّة الأخرى. بل إننا أكثر تأثّرًا بأوروبا من تأثّرنا بأميركا اللاتينيّة، بسبب القُرب الجغرافيّ والارتباطات المتعدّدة الناجمة عن الإرث الاستعماريّ. لكننا لم نشهدْ عالميّاً، ولن نشهدَ عمّا قريبٍ على الأرجح، ثوراتٍ مرادفةً للثورتين الروسيّة والصينيّة من حيث الأهميّة العالميّة، بل نشهد نموَّ حركةٍ عالميّةٍ جديدة ـ أسماها البعضُ “أمميّةً جديدة” ـ مكانَ اليسار القديم الذي احتضر في آخر القرن المنصرم. ففي بداية قرننا الحادي والعشرين، بدأ ظهورُ الحركة المناهضة للعولمة النيوليبراليّة، وتمحورتْ حول المنتديات الاجتماعيّة العالميّة الدوريّة. وبالفعل حصلت ارتباطاتٌ عربيّةٌ بتلك الحركة. في البدء كان تمثيلُ المنطقة العربيّة داخلها شبهَ غائب، وفي الفترة الأخيرة أصبح هنالك تمثيلٌ لكنّه محدود، والجزءُ الأكبر منه مكوَّنٌ من منظماتٍ غير حكوميّة لا ارتباطَ لها بحركاتٍ سياسيّةٍ مناضلة. وهذا يشير في رأيي إلى استمرار العقليّة القديمة لدى بقايا اليسار، فيما الأجنّةُ الموجودةُ صغيرةُ الحجم تحاول أن تشاركَ بقدراتها المحدودة عندما يتاح لها الأمر.
لكنّ المسألة الرئيسيّة إزاء البناء المستقبلي لليسار العربيّ هي طبعًا مواقفُه وممارستُه في ساحته. والظاهرة الأساسيّة التي رافقتْ أفولَ اليسار منذ أواخر السبعينيّات هي احتلالُ التيّارات السلفيّة الدينيّة ساحتَي الكفاح الوطنيّ والمعارضة الشعبيّة للأنظمة. هذه هي المعضلة الرئيسيّة التي تواجه اليسارَ العربيّ. فالمشروع اليساريّ في المنطقة العربيّة يصطدم بهذا الجدار على أرض النضال الشعبيّ قبل أن يصطدمَ بالأنظمة. لذلك أقول إنّ على اليسار أولاً، إذا أراد أن يتمكّنَ من بناء ذاته، أن يكون يسارًا كاملَ الهوية. فأيُّ يسارٍ ينتقص من هويّته ويسْتر بعضَ قيَمه بغية التعاون أو التحالف مع قوًى أخرى، دينيّةٍ أو غير دينيّة، فإنّ هذه القوى ستبتلعه. وعلى اليسار أن يكون وفيّاً لكافة القيَم التحرريّة بحيث يؤكّد تمايزَه عن الأطراف المنافسة له في كسب العطف الجماهيريّ. غير أنّ ذلك لا يتنافى مع عقد العلاقة مع الأطراف الأخرى، وإنْ كانت دينيّة، في النضال ضدّ الصهيونيّة والإمبرياليّة، أو في مواجهة قمع الأنظمة، للأسباب التي سبق أن شرحتُها، ومع الالتزام بشروط التحالف كما وصفتُها. في لبنان مثلاً يلتقي اليسارُ مع حزب الله في التصدّي للعدوان الإسرائيليّ وللهيمنة الإمبرياليّة؛ وهذا أمرٌ طبيعيّ. لكنّ اليسار اللبنانيّ لن يتمكّن من إعادة بناء قوّته والمضيِّ إلى الأمام في “حرب المواقع” على صعيد المجتمع عن طريق المزايدة على حزب الله في المجال الوطنيّ، وبشكلٍ خاصّ في مجال الكفاح المسلّح (لا سيّما أنه لن يحصلَ على المساعدات أو التمويل التي حصل عليها الشيوعيون حين كان الاتحادُ السوفياتيّ ما يزال قائمًا). إنّ هيمنة حزب الله على ساحة المقاومة المسلّحة تجعل جلَّ ما يمْكن اليسار أن يفعله هو القيام بواجبه الوطنيّ، لكنه لن يستطيع إطلاقًا أن يزيحَ تلك الهيمنة في المستقبل المنظور. غير أنّ هناك مجالاتٍ أخرى عديدةً يستطيع اليسارُ أن يتميّز فيها عن كافّة القوى الأخرى، وأوّلُها الصراعُ الطبقيّ. هذه ساحةٌ أساسيّة، وهي أقدرُ على كسر الجدار الطائفيّ. وطبعًا هناك الديمقراطيّة بمفهومها العميق الذي يشمل العلمانيّة (لا “إلغاءَ الطائفيّة السياسيّة” وحسب)، ناهيك بساحات التحرّر الاجتماعيّ، والساحةُ النسائيّة في صدارتها كما سبق الذكر. كلُّ الساحات التي أوردتُها ليس لليسار منافسٌ فيها، ومن الحكمة الإستراتيجيّة البديهيّة بالتالي أن يسعى اليسارُ إلى بناء نفسه بالتركيز عليها.
* ما حظوظ هذه المهمّة من النجاح؟
ـ المهمّة صعبة بالتأكيد، وقد كنتُ شديدَ التشاؤم طوال ربع القرن الأخير، بعد أن توصّلتُ إلى إدراك انسداد الأفق أمام اليسار العربيّ منذ أوائل الثمانينيّات. فقد أدركتُ أنّ صعودَ التيّار السلفيّ ناتجٌ من الإخفاق التاريخيّ لليسار القديم، ومن عجز اليسار الجديد عن فرض نفسه بعد العام 1967، علمًا أنّ هناك عواملَ أخرى انضافت إلى ذلك، ومنها استعمالُ الأنظمة للتيّارات الدينيّة في ضرب اليسار الجديد. وقد ترك إخفاقُ اليسار الجديد مجالاً مفتوحًا أمام التيّار الدينيّ بوصفه الحركة الوحيدة التي لم تُجرَّبْ حتى ذلك الوقت: فقد أظهرت القوى الليبراليّة العربيّة تقاعسَها في وجه الإمبرياليّة والصهيونيّة منذ الأربعينيّات، وجُرّب القوميون من بعدها وفقدوا الصدقيّة، وتأكّد العجزُ التاريخيّ لليسار الشيوعيّ التابع للاتحاد السوفياتيّ، وأخفق اليسارُ الجديدُ الذي ظهر بعد العام 1967. وكان تقييمي منذ أول الثمانينيّات أنّ الموجة السلفيّة ليست بموجةٍ آنيّةٍ ستزول بعد ثلاث سنواتٍ أو أربع، بل ستبقى مهيمنة حتى حصول أحد أمرين: ظهور بديلٍ لها ذي مصداقيّة، أو إخفاقها من خلال أزماتها الداخليّة. والحال أنه لم يحصلْ أيٌّ من الأمرين منذ الثمانينيّات. أما اليوم فأرى بوادرَ تحقيق الشرطين بالتزامن: أولاً، ظهرتْ بوادرُ تأزّم التيّار الدينيّ في تجربة غزّة والإمارة الحماسيّة وتناقضاتها الداخليّة. والأهمّ منها، طبعًا، الأزمةُ في إيران، وهي لاتزال في بداياتها، ولا ندري كيف ستتطوّر، لكنّ تعمّقها ليس بالمستبعَد. ومثلما أدّت الثورةُ الإيرانيّة سنة 1979 إلى إعطاء قوة دفعٍ هائلةٍ للتيّارات السلفيّة الإسلاميّة على اختلاف أشكالها، فإنّ تأزّم التجربة الإيرانيّة (إذا تأكّد) سيسهم في تأزيم المشروع السلفيّ برمّته وإفقاده الصدقيّة. ثانيًا، نشهد بدايةً جديدةً لصعود قوةٍ بديلةٍ في الساحة الجماهيريّة، تتجلّى في تصاعد الصراع الطبقيّ والنضالات العمّاليّة في عددٍ من البلدان العربيّة من المغرب الأقصى إلى الأردن والعراق، مع وجود مصر في الصدارة حيث تتطوّر منذ ثلاث سنوات أعظمُ موجةٍ للنضالات العمّاليّة منذ أكثر من نصف قرن. وقد أدّى هذا التحرّكُ الطبقيّ في مصر، للمرة الأولى منذ العهد الناصريّ، إلى قيام نقابةٍ مستقلّةٍ هي “نقابة موظّفي الضرائب العقاريّة،” وهناك محاولاتٌ لتكرار التجربة في قطاعاتٍ أخرى. أما التيّار الدينيّ فشبهُ غائبٍ عن هذه الساحة، والناشطون فيها يساريون بالمعنى الواسع لليسار الذي يَجْمع الناصريين الجذريين إلى الماركسيين.
*أهذه إشاراتُ تفاؤل؟
ـ إنها بوادرُ لا أكثر، في الوقت الراهن. لكنها كافية لتجعلني أشعر ببعض التفاؤل للمرّة الأولى منذ أكثر من ربع قرن، وإنْ بشكلٍ محدودٍ وحذر. أشعر أننا على عتبة منعطفٍ تاريخيّ، وأمام بداية النهاية للحقبة التاريخيّة التي تلت اندثارَ الحركة القوميّة، وربّما بوادر موجةٍ جديدة. وإذا استمرّت وتعمّقت الظاهرتان اللتان تحدّثتُ عنهما ـ أزمةُ التيّارات الدينيّة وصعودُ الموجة الطبقيّة ـ فعندها يمكن أن تنضج ظروفٌ مؤاتيةٌ لبناء الحركة اليساريّة من جديد. لقد ضاعت الفرصةُ الأولى بعد هزيمة 1967، وعلى اليسار العربيّ أن لا يضيّع الفرصة المقبلة.
لندن
*جلبير الأشقر: أستاذ في معهد الدراسات الشرقيّة والأفريقيّة في جامعة لندن. له كتب عديدة، آخرها: العرب والمحرقة النازيّة: حربُ المرويّات العربيةُ ـ الإسرائيليّة (القاهرة وبيروت، 2010).
مجلة الآداب » ٤-٥/ ٢٠١٠ »