صفحات من مدونات سورية

حكومتنا وتضخّم الأسعار

شهدت سورية خلال السنوات الأخيرة تدخّلا حكوميا شديدا أدّى إلى تضخّم جزئي مذهل في الأسعار تجاوز ال 100%، ويكفي للإحساس بهذا التضخّم التوجّه إلى السوق لشراء بعض الثياب..
بدأ هذا التدخل برفع سلسلة الرواتب والأجور للعاملين في الدولة، والتي أعتقد أنها خطوة موفّقة ومطلوبة، خصوصا لجهة مساواة هذه السلسلة بالوسطي العالمي، ممّا سيدفع حتما للتخفيف من هجرة العقول وتشكيل بيئة قادرة على استقطاب العقول السورية في العالم، كما أنّها ستساعد على تخفيض القيمة النسبية لمنتجات مستوردة كالسيّارات والإلكترونيات أو لمنتجات تعتمد على مواد أوّلية مستوردة كالكتاب مثلا وتتيح اقتنائها من قبل الجميع، وفي النهاية تسهيل حركة السوريين إلى الخارج، الأمر الذي لايزال حتى اللحظة شبه مستحيل لأولئك الذين تشكّل رواتبهم المصدر الوحيد لدخلهم..
هذه الخطوة إذا مهمّة وموفّقة لكن هل تتصرّف الحكومة بهذا الخصوص بالحكمة اللازمة؟ وهل هي تتدخّل في تعديلها لسلسلة الرواتب والأجور بطريقة مناسبة ومتجانسة؟ أعتقد أنّ إجابتي ستكون لا فالحكومة تتخبّط في هذا المجال كما في غيره من المجالات التي قررت العمل عليها في خطتها الخمسية الأخيرة، وأعتقد أنّ الحكومة التي أمطرتنا بوابل من كلمات كبيرة، كاقتصاد السوق الاجتماعي وحماية الطبقة الوسطى والوقاية من آثار الإصلاح الاقتصادي، دون أن تفعل الشيء الكثير بهذا الخصوص، سأعطي فيما يلي بعض الأمثلة على ذلك.
منذ سنوات طويلة ومزارعو البندورة يعانون، ففي الشتاء تتضافر أحيانا الحكومة مع الشتاء القاسي وتفتح باب الإستيراد أمام بندورة غور الأردن، فتتوقف أسعار البندورة عند وسطي لايتجاوز 25 ليرة للكيلو الواحد، رغم المخاطر العالية لمثل هذه المشاريع، ورغم هامش الربح المزري.. هذه الشريحة من المزارعين توجد حاليا وحيدة وسط تضخّم أسعار مخيف من دون أي دعم حكومي أو حماية بمواجهة أيّة مخاطر بل ودون تحديد حد أدنى للأسعار ممّايضمن لأولئك الحدّ الأدنى لحياة كريمة!
المثال الآخر هو عن مزارعي الحبوب (والقطن أيضا) في المناطق التي تخضع للزراعة المخططة، فأولئك بنفس الطريقة يعيشون على مردود متغيّر بشدّة وضئيل (إذا ما قيس بالجهد المبذول)، والأنكى هنا أنّ الحكومة، وليست معادلة السوق، هي من تحدّد سعر الكيلوغرام الواحد ورغم قيامها بزيادة سلسلة الرواتب والأجور لم تزد أسعار المحاصيل “الاستراتيجية” بذات النسبة!
مثالي الأخير هو عن مربّيي الدواجن، فكل من لديه بعض المعلومات عن هذا القطاع يعرف كم أنّ مخاطر هذا النوع من المشاريع عالية وتتداخل فيه عوامل الطبيعة مع عوامل تقنية تتعلّق بمدى جاهزية المربّي والتقنيات التي يستخدمها، وفي حديث لي مؤخّرا مع أحد أولئك شرح لي كيف أنّ الأعلاف التي يستخدمونها شهدت ارتفاعا حادا وكذلك هي الأدوية المستخدمة وبقي سعر الكيلوغرام الواحد من الفروج كماهو.. المربّي ذاته شرح لي الدورة التي يمرّ بها الإنتاج وكم أنّ هذا القطاع مهمّ للحياة الإقتصادية السورية وتاليا كم ستكون خسارة الاقتصاد الوطني كبيرة جرّاء إضعاف هذا القطاع..
ثلاثة أمثلة ربّما تعطي فكرة واضحة عن تخبّط الحكومة في هذا المجال، فهناك تضخّم في الأجور والرواتب للعاملين في القطاعين العام والخاص لا يقابلها تضخّم مماثل في دخول الفلاحين، ممّا يجعل من أولئك الحلقة الأضعف ويهدّد الاقتصاد الوطني!
الحكومة السورية التي كانت ذات يوم تدافع عن الفلاحين بتطرّف دفعها إلى قرار متسرّع كالتأميم، نجدها اليوم تسحق وبتطرّف أولئك، فالحكومة تجتهد في إنعاش ودفع القطاع الصناعي والقطاع الثالث وتهمّش بشكل مخيف القطاع الزراعي، وماأودّ الإشارة إليه هو مدى الخطأ الذي ترتكبه بهذا الخصوص، فالقطاع الصناعي السوري متخلّف تقنيا ومساهمته في الاقتصاد الوطني محدودة ومضحكة (نسبة مساهمة الصناعة التحويلية في الاقتصاد السوري تتراوح بين 3 و6% ولا توجد صناعات ثقيلة في سورية أمّا الصناعة الاستخراجية فتساهم بحوالي 15% (المصدر: مركز الخدمات المالية السوري))، والقطاع الثالث محكوم بحدود معيّنة لايستطيع تجاوزها وتتعلّق بالبنى التحتية الضعيفة أصلا وبغياب الثقافة والجو العام اللازمين لإنطلاقة واعدة لهذا القطاع؛ وهكذا يبقى القطاع الزراعي (نسبة المساهمة في الاقتصاد الوطني هي بحدود 23% (نفس المصدر السابق)) وحده قابلا للتطوير خصوصا مع وجود بنى تحتية جيّدة نسبيا، ومايمكن للحكومة أن تفعله في هذا الإطار لكبير مقارنة بماتفعله على أرض الواقع، وأقلّه هو ضبط معادلة السوق نحو أسعار أكثر إنصافا لأولئك، وتشجيع قيام اتحادات تستطيع أن تضبط معادلة السوق بطريقة قانونية، وسن قوانين مناسبة لقيام شركات زراعية صغيرة ومتوسطة تعمل على مكننة الزراعة والإنتاج الحيواني وتستطيع عبر ذلك تخفيض التكلفة والحد من الخسارة وزيادة هامش الربح..
لا أنتمي أنا أو أي من أهلي لأي من الأمثلة التي ذكرت، بل وسأكون خاسرا على المدى القصير من إرتفاع أسعار المحصولات الزراعية أو المشتقّات الحيوانية، لكنّ خسارتي ستكون أكبر إذا ما أفلس أولئك المزارعون، وأصيب القطاع الزراعي جرّاء ذلك بالشلل فننتقل عندها إلى الإعتماد على الإستيراد وعندئذ سيعضّ كل منّا على أصابعه ندما، وسنطلب من الحكومة دعم أولئك بشتّى الطرق مع تكلفة ستصل إلى أضعاف التكلفة التي تلزم حاليا لإصلاح ودعم هذا القطاع.
اعتذار: بالغ أسفي من الجميع على الانقطاع الكلي السابق، وذلك بسبب سوء الشبكة في سورية من جهة، وعدم استقراري حتى اللحظة ممّا يعيق ادارة المدوّنة ويمنعني من التحديث الدوري..

http://outofspacetime.wordpress.com/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى