صفحات الناس

الحرية والعنف والشجاعة

null
د. محمد علي فخرو
مأساة الشابة السودانية لبنى الحسينى ليست مأساة شخصية بقدر ماهي مأساة مجتمع يعاني من غياب مرجعية فكرية قيمية وقانونية واضحة ومتفق عليها تحكم نبض الحياة في ذلك المجتمع. وبعيداً عن المماحكات السياسية والصٍّراعات الفئوية التي تنهك يومياً كل الأرض العربية فان ما حدث لهذه الشابة من توقيف من قبل الشرطة ومحاكمة انتهت بالحكم بالسجن المذل يفتح ثلاثة ملفًّات هي في غاية الأهميــة.
فأولاً: هناك قضية الحرية الإنسانية التي مع المساواة والعدالة تكوٍّن الأساس الذي تقوم عليه الفلسفة السياسية كما يعرفها العالم اليوم، والتي هي ايضاً مبدأ عام أقرًّته الشريعة الإسلامية في كافة مجالات الحياة، ووصل إلى قمًّة الوضوح والتجلٍّي في قول الخليفة عمر بن الخطاب الشهير: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟ والناس هنا تشمل الذكر والأنثى. وكفرع من ذلك الحق الربًّاني والطبيعي في الحرية انبثقت الحريات المدنية بأشكالها المختلفة، ومنها الحرية الشخصية التي تعطي الحق في اختيار نوع ولون اللباس الذي يختاره الرجل أو تفضٍّله المرأة طالما أنه لباس محتشم ولا يخدش حياء الآخرين. وعندما تتدخًّل الدولة في فرض نمط من ممارسة الحريات الشخصية، والتي لايكون في ممارستها اعتداء على حريًّات الآخرين ولا خدش للحياء المجتمعي العام، فانها تنقلب إلى دولة سلطات استبدادية تحرم الناس من حٍّقهم في الحريات الطبيعية التي نصًّت عليها مواثيق حقوق الإنسان العالمية من جهة وكذلك من حقُّهم في الحريات المدنية الشخصية التي من المفروض أن تنصًّ عليها الدساتير والقوانين لحماية الفرد من التعسٌّف ومن إرغامه على النمطيًّة في أمور من مثل الأكل والملبس.
نحن نعلم أن الحرية هي دائماً حرية داخل مجتمع، وبالتالي ليست مطلقة ولا خارج الواقع، وهي موضوع مختلف على محدٍّداته وحدوده، ولكن المجتمع العاقل يجب أن يعرف بأن يتعامل مع هذا الموضوع الشائك دون أن يكون هذا التعامل قط على حساب الكرامة الشخصية وقمع الحرية الشخصية المسؤولة.
ثانياً : هناك موضوع العنف. إن الفلسفات السياسية بكل أنواعها تجمع على حق الدولة في استعمال العنف لحماية المواطنين من بعضهم البعض ولاستقرار النظام العام المتفق عليه. لكن العنف الذي لا يرتبط بقيمة العدالة والإنصاف والقانون الصادر عن سلطة شرعية ينقلب إلى عنف مريض سادي يتلذًّد بايذاء الآخرين وينقلب إلى مبدأ نازي جسًّدته مقولة شهيرة ‘لهتلر’ من ان اول ضرورة للنجاح هي الممارسة المستمرة المنتظمة للعنف’، أي تمجيد العنف لذاته. من هنا، هل معاقبة المرأة العربية التي ترتدي سروالاً فضفاضاً بعقوبة الجلد القاسية المهينة تراعي مبدأ العدالة التي هي روح الإسلام، دين الحق والميزان والقسطاس؟ أليست كفًّة الظلم في ميزان تلك العقوبة ترجح بكثير كثير على كفًّة العدالة والتسامح ومبدأ ‘وجادلهم بالتي هي أحسن’ ؟ بل إن الإنسان ليشمُّ في مثل هذه العقوبة الجائرة غير المبرًّرة ميل السلطة العربية، وحتى المجتمع العربي، لممارسة العنف ضدً المرأة، فقط لأنها تعتبر في ثقافتنا إنسانة ناقصة وشريرة، تستأهل الحطًّ من كرامتها والتعامل معها كعبيد السٌّخرة. وثالثاً، وهي النقطة المضيئة المبهرة، هناك موضوع الشًّجاعة، وهي الفضيلة التي مارستها هذه الشابة أمام معاناتها وجراحها. فأن ترفض أولاً الإنصياع لممارسة العقوبة المحطًّة لكرامتها، ثم ثانياً تذهب للمحكمة أمام الملأ، ثم ثالثاً ترفض دفع الغرامة البسيطة المهينة وتختار دخول السٍّّّجن، فانُّها تجسٍّد أحد أبرز الفضائل، فضيلة الشجاعة. وهي شجاعة، في هذه الحالة، تكسر حاجز خوف القرون العربية الطويلة من قبل المرأة المهمُّشة. وهي ليست شجاعة القبضاي الخشن وإنما شجاعة البطل الرقيق، صاحب القوة الأخلاقية. وهي شجاعة معنوية وذهنية وجسدية في سلسلة مواقف لشابة ليس لديها إلاُ السند المعنوي من قبل المتعاطفين مع محنتها. ومن هنا فانها فاقت بكثير من يمارسون شجاعة الثرثرة في المقاهي والشجاعة المتخيًّلة وهم نيام في أسًّرتهم. وممُّا يبهر أن هذه الفتاة تمارس شجاعة لا تحمل معها إلاُ قليلاً من الأمل في تحقيق أي نصر. بل إنُّها في كل الظروف المحيطة بها تكاد أن تكون شجاعة اليأس. وإذا كان الفيلسوف أرسطو قد قال بأن الرجال الشجعان يتصرفون باسم الشًّرف والنبل فان الأمر ينطبق على تصرٌّف هذه الشابة باسم قضية تؤمن بها .
للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه قول : تسألني ما معنى أن تكون طيباً ؟ أن تكون شجاعاً هو الطٍّيبة’. نحن أمام فتاة شجاعة طيبة، مهما اتفقنا أو اختلفنا معها ومع من حاكموها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى