يا مال الشام
وسيم ابراهيم
»خيـر»؟ وفـي كـل عـام؟ والآلاف منه أيضاً؟!
حبذا لو يعرّف أحد معنى «الخير» الذي يستجم فيه السوريون، ذاك الخير الذي يتمنونه لبعضهم بناء على صفاته المجهولة، ويبادر الآخرون بتمنيه لهم، كي يدوم ويُعاد عليهم في العام المقبل. وفضّل أن يكون المبادر إلى تعريف هذه الأحجية مسؤولاً في هذه الدولة، فيعرّف قبل أن يطل، من وزارته أو مؤسسته، على جموع المواطنين بالـ «كل عام وأنتم بخير»، مع إمكانية زيادة عيار الخير ليصبح «ألف خير»، وقد يكثّفه إلى درجة ألف ألف…
لا يمكن أن يُطلب من مواطن سوري تعجنه يوميات عيشه تعريف «الخير» الذي يقولون له إنه يعمه، وهو يتمناه بدوره. هذا المواطن، ومن دون أي مبالغة، لا «يعرف» أي شيء عن حاله الغارق فيها، ولا عما يحدث في بلده، ابتداء من سؤال بسيط عن تكاثر حوادث الطرق، وصولاً إلى دوافع تغيير وزراء لا يعرفهم إلا عندما يقرأ خبر إقالتهم.
ما الذي يعرفه السوري؟ قالوا له إن أسعار الوقود سترتفع، وسمع المبررات وأغلق الفم وراح يطارد «صهاريج» المازوت في الشوارع. ارتفعت الأسعار في شكل يفوق التوقع، صار وضعه المعيشي السيئ أكثر سوءاً، ولم يعرف لذلك داعياً.
يقرأ المواطن السوري، أو يسمع، خبر تغيير وزيرين في حكومته (إقالة). يأتيه الخبر «حاف» من دون أي توضيحات، أو مقدمات. في اليوم التالي، تطالعه انتقادات حادة لأداء أحد الوزيرين، حطّت على جناح السرعة في عدة مواقع إلكترونية تقع «على الواجهة» الإعلامية. وهذه الانتقادات ليس بالعموميات، هناك تفاصيل موصوفة عن قضايا فساد وسوء إدارة وفضائح مالية. أين كانت هذه المعلومات قبل إقالة الوزير؟ ولمّا كانت على هذه الدرجة من الأهمية والخطورة، كما ذكرت الأخبار، ألم يكن الأجدى كشفها مسبقاً وتباعاً، بدلاً من «ادّخارها» إلى «ساعة الغفلة»؟
وفجأة، أيضاً، يسمع هذا المواطن عن «حملة اعتقالات» طالت «عشرات المنضوين ضمن تجمع إعلان دمشق للتغيير الديموقراطي». ويسمع بعدها عن إطلاق سراح «معظم» الذين أوقفوا، وعن آخرين تم استبقاؤهم في الاعتقال. يمر بعض الوقت فيسمع أن حملة أخرى من الاعتقالات تمت، وطالت «أعضاء في الأمانة العامة لإعلان دمشق» بمن فيهم أمينته فداء الحوراني. تمر أيام، فيعلم أن هناك عريضة نسوية (وقعتها أربعون امرأة) تطالب بإطلاق سراح حوراني. لماذا اعتقلوا؟ ولماذا تم إطلاق سراح «المعظم»؟ ولماذا استبقي «البعض»؟ ولماذا الاعتقال الثاني؟ هناك خيط واحد تشترك فيه الأخبار، وعلى المواطن أن يكون تحرّياً ليتابعه! المعلومة الوحيدة المتاحة هي أن الأمانة العامة اجتمعت قبل الاعتقال.
ثم تصادفك الآفة الحقيقية بينما تتصفح تعليقات معظم قراء الانترنت وهم يسبّون ويشتمون ويقررون أن «لا رحمة لمن يضع يده بيد بوش»، أو يحللون: «أين كان هؤلاء عندما كان (النائب السابق للرئيس السوري عبد الحليم) خدّام هنا؟ لم نسمع بهم إلا عندما صار في الخارج»، أو يقررون أن للمعتقلين اتصالات بأسماء على «اللائحة السوداء» للمعارضة في الخارج. ويجزم بعض المعلقين بأن من حظ المعتقلين أنهم وقعوا في يد السلطة… وليس «بين يدي الشعب».
من يعرف؟ قد يكون ما حصل هو «الخير» بعينه!
تعجب من أمر المعلّقين! وعلى الرغم من الاحترام المكنون لـ«حريتهم في التعبير»، لا بد ستأخذك الريبة: لكي يُلقي أي مواطن عاقل ـ إلا إذا كان «في الجهالة ينعمُ» ـ هذه التهم كمطلقات لا بد أنه على «الهوت لاين» مع جمعية استخبارات خيرية، حتى يتسنى له المعلومات التي تخوّله بناء أحكامه والإشهار بها في الاعلام، وحتى يذيّل تعليقه باسمه الصريح جداً: فلان الفلاني المدعو أبو فلان من فلانية.
وحال المعلومات المتاحة عن المستوى الدولي ليست بأفضل. فمن باب الأخذ بالعلم، يعلم المواطن السوري أن بلده لن يشارك في مؤتمر «أنابوليس». تتكرر هذه الأسطوانة على مسامعه مع مقبلاتها، وهو بدوره يتخم من تكريرها. لكن، فجأة، يذهب وفد سوري إلى المؤتمر. كيف؟ لماذا؟ الله أعلم! تبدأ غيوم التهديدات بالانقشاع جزئياً، الأوروبيون يوفدون، ويتصلون، والمواطن لا يملك إلا الدعاء: «اللهم اجعله خيراً». وفي فجأة أخرى، تعود التهديدات بوقع أعلى، ولا حول ولا قوة ولا إطلاع تمكّن هذا المواطن من أن يكمن مسبقاً للـ«فجأة» ولو لمرة واحدة… ويفاجئها. يقبض عليها ويطرحها أرضاً، يدوسها ويوسعها ضرباً، يمرغها ويشحطها ويمرمرها… هي التي جدّلت العُقَد في جبينه من كثر ما فاجأته!
هذا المواطن القابع في بئر لا قرار له من «الخير». حتى الساحة العامة، يستمر إصلاحها منذ سنوات، وهو لا يعرف متى تنتهي ولا ماذا يفعلون فيها! وحدث مرة أن تناول برنامج إذاعي أمرها، و«صدف» أن سأل المذيع المسؤولين عنها. ما قاله المذيع صار موشحاً لا يمكن أن يمر سائق في تلك الساحة إلا ويردده: «شو؟ ما حلّهم يخلصوا هالساحة المعجزة؟». لكن قبل أن يفعلها المذيع لم يكن أي منهم يتلفظ بكلمة، أو يشعر بأن في الأمر خطأ. فقط، عندما يقول الإعلام الرسمي أن هذا الأمر زاد عن حدّه، يصير الناس لا يطيقونه. فيبقى كل شيء، مهما عظم، في حدوده الطبيعية، ويصير المتضايق منه متشائمــاً وصاحــب نظـرة سوداوية، ولا يرى من الكأس إلا نصفه الفارغ، ولا يفعل إلا نقداً هدّاماً للدولة والمجتمع، وبطبيعة الحال، لا يجلب «الخير».
إذا كان «الخير» هو في كل هذا التعتيم، فليمر هذا العام، ويبقى للمتفائلين أن يتمنوا للمواطن السوري عاماً سعيداً يأتيه. لكن، لا قدّر الله، والعوذ بمشيئته، أن يكون كل عام مرتعاً لـ«الخير» إيّاه.