لماذا أخفقت إيران في تصدير الثورة الإسلامية ؟
توفيق المديني
كانت إيران المواجهة للجزيرة العربية عبر مياه الخليج العربي، في عهد الشاه، قاعدة عسكرية وسياسية استراتيجية أميركية متقدمة في منطقة الشرق الأوسط، تعتمد عليها الولايات المتحدة لدعم نفوذها السياسي والعسكري ومصالحها الاقتصادية في المنطقة، وقاعدة أساسية في مواجهة الاتحاد السوفياتي السابق بحكم موقعها الجغرافي على محورشمالي جنوبي بين الحدود الجنوبية للجمهوريات السوفياتية الإسلامية، ومشارف المياه الدافئة في الخليج العربي والمحيط الهندي وحقول النفط، وفي محاصرته استراتيجيا والتجسس عليه.
في ظل تراجعات الحركة القومية العربية عامة، في العديد من الميادين، ولا سيما في المواجهة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وعلى صعيد الدعوة للتغيير السياسي والاجتماعي الراديكالي، استطاعت الثورة الجماهيرية في إيران أن تسقط معقلاً من معاقل النظم الاستبدادية والاقطاعية الموالية للغرب، وكل عهد تزوير إيران وشخصيتها الإسلامية، كما يرى رمز تلك الثورة نائب الإمام روح الله الموسوي الخميني.
الثورة الإسلامية في إيران تحمل مضموناً دينيا لا يمكن إخفاء لونه بحال من الأحوال، إذ أنها انفجرت في ظل رعاية المذهب الشيعي الإثني عشري، وفي ظل قيادة شيعية تؤمن بنظرية ولاية الفقيه، من دون أن يعني ذلك إهمال دور الأحزاب والحركات السياسية الإيرانية الوطنية والديموقراطية في هذه الثورة.
وعلى الرغم من أن سقوط الشاه شكل أهم التغيرات التي أثرت على استراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة في المراحل الأولى من الثورة الإسلامية الإيرانية، فإن طبيعة السلطة الدينية التي صادرت ثورة الشعوب الإيرانية، جعلتها تناصب العداء بشكل مطلق لحقوق الأقليات القومية في الحكم الذاتي، وحل معضلة الديموقراطية، وتحقيق الحرية السياسية للشعوب الإيرانية، ولتعميق الصراع ضدسياسة السيطرة الأميركية. وبذلك أجهضت سلطة آيات الله الثورة منذ البداية، وكرست سلطة مطلقة استبدادية ومعادية للتطلعات الديموقراطية.
الثورة الإيرانية كفعل تاريخي كبير دخلت على المساحة العربية،وهي مساحة مهتزة، بسبب غياب المشروع العربي النهضوي، وتراجع العمل الرسمي والشعبي، وإذا كان الوضع العربي شكل عنصراً سلبياً، أمام الفعل الإيراني الكبير، فإنه من غير المشكوك فيه، أن انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية قد جسد نجاحاً تشجيعياً محققاً للشيعة اللبنانيين الذين رحبوا بها ترحيباً كبيراً على غرار الأقليات الشيعية الأخرى المنتشرة في دول الخليج العربي، والكتلة الشيعية الكبيرة في العراق، لجهة قيام دولة حامية متمثلة بإيران الخميني، تحضن الشيعة العرب، وتقدم لهم جميع ألوان المساندة والتعزيزات المالية والسياسية لكي يكونوا عنصر تحريك وضغط داخل الوضع العربي عامة، والوضع اللبناني خاصة، حيث أن للروابط التي تربط شيعة جبل عامل وشيعة إيران تاريخ طويل ومتميز.
يعتقد المحللون الغربيون والعرب العلمانيون أن إخفاق تصدير الثورة الإسلامية خارج حدود إيران، يجد منبعه في الأسباب التالية:
أولاً: إن الثورة الإسلامية الإيرانية لم تستطع أن تتجاوز التناقض التاريخي بين الفقه الشيعي للإمامة والفقه السني للخلافة، والحال هذه ظلت ثورة شيعية. ووجود نظريتين في الفكر الإسلامي بصدد نظام الحكم في الإسلام، هما نظرية الإمامة عند الشيعة، ونظرية الخلافة عند السنة، اللتان تختلفان في الخطوط، وفي الأسماء، يحول دون اللقاء بينهما على خط واحد.
ثانيا: إن الثورة الإسلامية الإيرانية أعطت بعداً كونياً وراديكالياً للإمامة المؤسسة التي تعتبر مركزية في المذهب الشيعي الإثني عشري، والتي تشكل الجهاز الوسيط الذي تتجلى بواسطته الإرادة الإلهية على الأرض في الإمام في كل لحظة. وتعتبرالإمامة المعصومة أمراً واجباً، عند المذهب الشيعي.
في مقابل ذلك أقر المذهب السني بمرجعية الأمة، في مقابل مرجعية النص للمذهب الشيعي، واعتبر أن الإمامة فرع من فروع الدين وليست أصلا من أصوله.
ثالثا: إذا كان الشيعة الإمامية في عصر غيبة الإمام المعصوم، لا يطرحون قيام دولة إسلامية، نظراً الى عدم مشروعيتها لأسباب حددها الفقه الشيعي، فإن الإمام الخميني ينطلق من مبدأ الولاية المطلقة للفقيه لتأسيس دولة دينية شيعية، باعتباره الحاكم الأعلى بـ”مفهوم” أن الفقيه هو من أحاط بالعلوم الشرعية وجميع الأحكام الإسلامية. وهكذا، فإن ولاية الفقيه الخمينية لا تلتزم بأي دور للأمة، انطلاقا من التماهي ما بين نظرية ولاية الفقيه والإمامة المعصومة. وهو ما يقود إلى أن يتمتع الولي الفقيه – بمقتضى ذلك – بجميع سلطات الإمام المعصوم مع الفارق أن “ولاية الإمام المعصوم تكوينية إلهية في حين أن ولاية الفقيه اعتبارية”.
وعلى نقيض ولاية الفقيه التي شكلت الأساس الإيديولوجي الذي يقوم عليه نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، طور العلامة الراحل محمد مهدي شمس الدين نظرية ولاية الأمة على نفسها، إذ تعتمد الدولة على خط الشورى في المسألة السياسية والتنظيمية المتعلقة بالمجتمع السياسي. وهي دولة زمنية لا يجوز للفقهاء أي رجال الدين أن يتولوا السلطة فيها، أو أن يكون جميع جسمها ولا سيما جميع مفاصلها وقيادتها مكونة من رجال الدين، بل إن هذه الدولة تدار بحكمة عالية، ويتولى قيادتهارجال سياسة مختصون.
رابعا: إذا كان الغطاء المعلن للحرب العراقية – الإيرانية هو “تصدير الثورة الإسلامية” من جانب إيران، فإن المخططين الاستراتيجيين في الدوائر الأميركية اعتبروا أن بناء دولة دينية إسلامية معادية للإيديولوجيا الشيوعية، والقومية، والديمقراطية، ومناهضة العلمانية، باسم الإسلام وعالمية الدين الإسلامي وشموليته، يجعلان إيران تشكل سداً منيعا في وجه التطلعات السوفياتية في اتجاه الخليج والمحيط الهندي في ذلك الوقت بحسب نظرية زبيغينو بريجينسكي، فضلا عن العداء العقائدي الإسلامي المطلق للشيوعية والديموقرطية.
الجمهورية الإسلامية الإيرانية قامت على مبدأ الاستقلال الوطني منذ أن واجهت نظام الشاه التابع للولايات المتحدة. ومنذ ذلك الحين نما الشعور القومي على معاداة اميركا بدءاً من حرب إيران والعراق (1980-1988) التي دعمها الأميركيون والغربيون ضد طهران.وكان موقف إيران الثابت يقوم على محاولة استغلال تظلمات الطوائف الشيعية والكردية في العراق، لأغراضهاالخاصة من أجل توطيد هيمنتها على منطقة الخليج وتسوية مسألة شط العرب، أو كذلك من أجل تصدير الثورة الإسلامية. لقد زادت الحرب من تعميق الانفساخ بين القوميتين العربية والفارسية، وبين الشيعة والسنة، وكشفت عن بعدها في النزاع العرقي، وعن أرجحية الهوية العرقية على الهوية الدينية، ليس في الإطار العراقي فحسب، وإنما كذلك في إيران.
(أجزاء من مقالة أطول)
– دمشق
(كاتب مغاربي)