إيران.. بين التوتر العربي والتهدئة الأميركية
سركيس أبو زيد
بدا واضحاً من أولى الحملات الانتخابية للرئيس الأميركي باراك أوباما أن أسلوبه في التعاطي مع إيران سيكون مختلفاً عن سلفه، من دون أن يعني ذلك بالضرورة أن سياسة الولايات المتحدة ستتحسن إزاء إيران. فما يعرضه أوباما ليس صفقة، بل هو مجرد محاولة لاحتوائها، إذ أن الولايات المتحدة لن تتنازل عن خطوطها العريضة، مقابل بضع ترضيات تقدم لإيران على الساحات التي تعتبر استراتيجية بالنسبة لها.
وكانت ثمانينات وتسعينات القرن الماضي شهدت أكثر من محاولة للحوار بين إيران والولايات المتحدة بدءاً من أيام رفسنجاني وخاتمي وخلال فترة ولاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون حتى العام 2000، ولكن كل هذه المبادرات باءت بالفشل. وتؤكد بعض المصادر أن ولاية بوش عرفت محادثات سرية بين إيران وأميركا في نهاية العام 2001 قبل الحرب الأميركية على أفغانستان، وقد نتج عنها تفاهمات حول التعاون لضبط الوضع هناك، لكن الولايات المتحدة تراجعت بعد الاعتداء الذي شنته «القاعدة» على قواتها في السعودية متهمة إيران بتغطية وإيواء الجماعة المهاجمة. وفي مايو (أيار) العام 2006 أعلنت الادارة الاميركية موافقتها على التفاوض مع إيران مشترطة أن توقف الأخيرة تخصيبها لليورانيوم. وفي يوليو (تموز) 2008 شاركت الولايات المتحدة في اجتماع للدول الأوروبية مع إيران في جنيف.
ويبدو أن التكتيك الأميركي تجاه إيران في الوقت الحالي يقضي بتأجيج خلافاتها مع الدول العربية التي لا تتفق مع إيران أصلاً، ومحاولة توتير علاقاتها بحلفائها العرب من جهة. ومن جهة أخرى، فتح حوار معها في بعض الساحات التي تهم الولايات المتحدة، كما في العراق، أفغانستان وباكستان، بعدما تأكدت الولايات المتحدة أنها أعجز من أن تحلّ مشاكلها هناك من دون إيران جارة هذه البلدان، وهي اللاعب الاقليمي الذي يزداد قوة يومياً.
في الواقع، تولي إدارة أوباما الأولوية حالياً لأفغانستان، فكلفة البقاء هناك صارت مرتفعة، ولكن كلفة الخروج أكبر بكثير. وقد مرّت أكثر من 7 سنوات دون أن تتمكّـن الولايات المتحدة أو قوات الناتو أو «حكومة كابل» من السيطرة على البلاد. وقد تبيّن أن طالبان باتت تحكم السيطرة السياسية والعسكرية على جنوب البلاد، وبدأت بالاقتراب من العاصمة كابل، كما بدأت عناصر القاعدة في العودة من العراق إلى أفغانستان.
وتؤدي صعوبة السّيطرة على مناطق الحدود الباكستانية – الأفغانية إلى تحسّن إمدادات طالبان، مقابل صعوبات تواجه خطوط إمدادات الناتو، لذا تشير المصادر إلى تفاهمات تجري بين واشنطن وكل من موسكو وطهران لخلق البدائل.
بالمقابل تسعى الولايات المتحدة للانفراد بحلفاء إيران لمحاورتهم كل على حدة، أي فتح حوارات منفردة مع كل من سورية وحماس وحزب الله، في محاولة لعزل إيران بعد خلق بيئة من الشك والريبة تجاهها بين حلفائها. ولكن هذه المحاولات تبقى حتى الآن مجرد محاولات، فضلاً عن أن الدول العربية حليفة إيران تحمّل العرب مسؤولية الاندفاعة الإيرانية في العراق بعدما أخلوا الساحة موفرين التغطية للاحتلال الأميركي للعراق، وكذلك في فلسطين ولبنان عندما لم يدعموا المقاومة. وفي سورية عندما تركوها وحدها فريسة الضغوط والمضايقات وأوصدوا الأبواب في وجهها ودفعوها إلى أحضان إيران، والآن في السودان حيث يكاد يتكرر السيناريو العراقي: رئيس يصطدم بالمجتمع الدولي فتدخل بلاده في عزلة ويستدرج تدخلاً دولياً.
أما خارج هذه الجبهة فيبدو أن الخلاف الإيراني- العربي متأجج. فقد تحدث تقرير لوزارة الخارجية السعودية تمت مناقشته في مجلس الشورى عن فتور في العلاقات بين إيران والسعودية خلال العامين الماضيين دون أن يدخل في تفاصيل الأسباب. وجاء هذا التقرير بعد أيام قليلة على دعوة وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل خلال مشاركته في اجتماع وزراء الخارجية العرب إلى رؤية عربية مشتركة للتعامل مع «التحدي الإيراني». واللافت أنه خلال مناقشات مجلس الشورى طالب عدد من الأعضاء بتبني استراتيجية لمواجهة التغلغل الإيراني في الدول والقضايا العربية، محذرين من تنامي النفوذ الإيراني في المنطقة والتدخل الإيراني «السافر» في الشؤون العربية.
لكن الخطوة الأبرز كانت إعلان المغرب قبل أيام قطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران على خلفية الأزمة التي أعقبت تصريحات مسؤول إيراني عن حق إيران بالسيادة على البحرين تاريخيا. ثم استتبع المغرب التضامن مع البحرين بوصف التصريحات الإيرانية بأنها سخيفة وتناقض قواعد ومبادئ القانون الدولي.
وقد أثارت خطوة المغرب بقطع العلاقات، دهشة واستغراب إيران التي رفضت اتهامات الرباط ووصفتها بأنها كاذبة وملفقة، معتبرة أن للأمر علاقة بتصفية حسابات دول عربية أخرى مع طهران.
وقبل أسابيع، كان التوتر بين مصر وإيران يصل إلى مرحلة متقدمة على خلفية المواجهة السياسية والإعلامية التي نشبت خلال حرب غزة وبعدها، فمصر لم تكتم «غيظها» من نفوذ إيران المتزايد في غزة، معتبرةً اياه إعاقة لها في ترتيب البيت الفلسطيني ومساساً بأمنها القومي.
وتعود أسباب التأزم والتراجع في علاقات إيران مع دول عربية أساسية، مثل السعودية ومصر والمغرب، إلى تفاقم النفوذ الإيراني في العالم العربي، الأمر الذي يثير ريبة هذه الدول:
أولاً: تحالف إيران مع سورية التي لعبت دور الجسر بين إيران والعرب أيام الرئيس الراحل حافظ الأسد. لذلك تشدد جهات عربية على ضرورة إبعاد سورية عن إيران للبدء بعملية «فك الارتباط» بينها وبين القضايا العربية.
ثانياً: التغلغل الإيراني في العراق، حيث يقول البعض إن إيران تتحين الفرصة لملء الفراغ الأميركي الآتي.
ثالثاً: علاقات إيران الوطيدة بأطراف فلسطينية كحركة حماس وغيرها، وتمكّنها من الدخول من خلال القضية الفلسطينية إلى العالم العربي، وبالتالي تعزيز موقعها التفاوضي مع الأميركيين والأوروبيين.
رابعاً: تعتبر هذه الدول أن إيران باتت موجودة على حدود مصر عبر حركة حماس، وفي لبنان عبر حزب الله.. وهما الحليفان الأبرز والأقوى لإيران في الدول العربية.
وتتوقف المصادر الدبلوماسية في دول المواجهة مع إيران عند ثلاثة أنشطة إيرانية في الفترة الأخيرة تؤشر إلى حجم التدخل الإيراني، وهي:
أولاً: قمة غزة في الدوحة التي رفع فيها الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد شارة النصر، معتبرين أنه كان يقصد انتصار إيران في قيادة محور عربي في مواجهة محور آخر.
ثانياً: مؤتمر غزة في طهران الذي شكل تظاهرة إسلامية لدعم غزة مالياً ومعنوياً، واعتبر بمثابة رد على مؤتمر شرم الشيخ.
ثالثاً: الوفد الإيراني الرفيع المستوى برئاسة علي لاريجاني الذي توجّه إلى السودان لدعم الرئيس عمر البشير في رفضه لقرار المحكمة الجنائية الدولية.
إذاً، تستفيد الولايات المتحدة من هذه الخلافات العربية-الإيرانية، ولاتزال تحاول فك المسار السوري-الإيراني على الرغم من اعتراف كبار المسؤولين الاميركيين وتأكيد الطرفين المعنيين مراراً على أن تحالف إيران وسورية استراتيجي. فسورية لن تتخلى عن حليف قوي كإيران، يشاركها ذات الرؤى في العديد من المسائل الاستراتيجية، من أجل مصالح أميركية مستجدة.
وعلى الرغم من إصرار إسرائيل على الخيار العسكري ضد إيران، فهي لا تفوت مناسبة إلا وتذكر بالخطر الإيراني عليها، غير أن هذا الخيار ساقط في الحسابات الاميركية. فالولايات المتحدة تصعّد من لهجتها تجاه إيران تارةً، وتقول تارةً أخرى أن اليورانيوم المخصّب الذي تمتلكه إيران يحتاج للمعالجة حتى تستطيع استخدامه في الأسلحة النووية. وهي تعني بذلك أن إيران ليست مستعدة بعد لامتلاك السلاح النووي، في محاولة منها لاستبعاد ضرورات التدخل العسكري في الوقت الحالي. ويتوجس البعض في الادارة الاميركية من الانسياق الأعمى وراء المعلومات الاستخباراتية، بعدما تبيّن أن الحرب الاستباقية على العراق كانت بسبب معلومات مغلوطة. وحتى في عهد بوش، الحليف التاريخي لاسرائيل، رفضت الادارة الاميركية حينها تغطية ضربة عسكرية إسرائيلية لمنشآت إيرانية نووية. واليوم، يبدو أن خيارات أوباما ليست واسعة، فهو سيمرّ في حالة من الترقّب والاستطلاع قد تستمر لعامين بحسب بعض المحللين، وسيتخلّل هذه الفترة حوارات مفتوحة مع أكثر من «عدو سابق». الأمر الذي سيؤدي إلى شطب الكثير من هؤلاء عن لائحة الإرهاب الدولي الاميركية، وإلى استبعاد خيار الحرب الإقليمية في المدى المنظور تماماً.
اذاً، واشنطن تقوم بما يناسبها وتحاور الجميع، حتى أولئك الذين تفصلهم عنها خلافات تاريخية وتباينات عميقة ومصالح متضاربة ومواقف متناقضة. فلماذا لا يفكر العرب وإيران بالتحاور معا؟ لا شك أن ما يقرب إيران والعرب ويجمعهم، هو أكثر بكثير مما يفرقهم، ولاسيما في ما يتعلق بالموقف من إسرائيل والقضية الفلسطينية. فهل يأتي يوم نرى فيه إيران والعرب على طاولة الحوار بدلا من حروب المنابر بينهم؟
كاتب من لبنان