نجوان درويش: أفضل طريقة لكتابة الشعر تجنّب الشعر
عناية جابر
ما نحتاجه أطروحة فكرية متماسكة لتفكيك إسرائيل
نجوان درويش شاعر فلسطيني شاب، مقيم في القدس وناشط على جبهات ثقافية عدةّ، منها اشتغاله كرئيس تحرير مجلة «من وإلى» التي توزّع في بلدان عربية شتى. عن الشعر بشكل أوليّ، وعن تجربته مع «من وإلى»، وعن قضايا ثقافية أخرى، كان هذا اللقاء:
÷ نجوان درويش، صدرت بعض قصائدك مترجمة إلى الفرنسية في أنطولوجيا جديدة ضمّت أصواتاً فلسطينية هي اليوم في طريق التكريس. كيف وصلت إلى الشّعر، وما الشّعر اليوم، برأيك؟
} لا أعرف إن كان بإمكان أحد القول وصلتُ إلى الشعر، في ظنّي أنّ الشعر والفن عموماً حالة سعي لا وصول فيها. في أحسن الأحوال كل شاعر هو عامل «مياومة» بلا حقوق ولا ضمانات مثله مثل بقية الفعلة الذين يشتغلون في أرض الشعر أو قرب حدودها، ولا أحد بإمكانه أن يقول وصلت لشيء أو امتلكت شيئاً، فالشعر جغرافيا متحركة وكل ساعة تتغيّر التضاريس من حولك، وبالتالي يتغيّر الشعر.
أما سؤالك ما هو الشعر اليوم؟ فليتني أعرف جوابه. الشعر مثل الحياة، نعرف أشياء كثيرة عنها، ولكننا لا نعرف ما هي، وربما ليس ضرورياً أن نعرف، الأهم أن نعرف كيف نحياها. وهو ما ينطبق على الشعر، المهم كيف نعيشه وكيف نُحسن كتابته.
أعتقد أن أفضل طريقة لكتابة الشعر الآن هي تجنّب الشعر، بالأحرى تجنّب صورة الشعر التي نعرفها وتجنّب خرائطه وأدواته المعروفة. بهذا المعنى، الشعر يكمن في المحاولة المستمرة للتخلّص من الشعر ومن كل ما هو مستقرّ وميت في الذات واللغة وفي علاقتنا بالوجود. وأظن أن أفضل شعر يكتب بالعربية اليوم هو المتخلّص من الشعر، وأن الشعر الآن يجيء من محاولة اللاشعر. شخصياً، أرى اللحظة الشعرية العربية الآن لحظة نثرية، ربما يختلف الأمر في المستقبل، ولكن النثر الآن هو بوابة الشعر الكبيرة.
سرقة فلسطين
÷ لغتك سلسة، معاصرة، وفلسطين بالنّسبة إليك أنت المقيم في القدس، لا تشبه فلسطين الشتات والمخيّمات. كيف ترى إلى فلسطين اليوم، إلى علاقتها، شعراً وحياة، بمحيطها العربي؟
} لا أعرف ماذا تقصدين بأن فلسطين بالنسبة إليّ لا تشبه فلسطين الشتات والمخيمات. إن كنت تقصدين التناول الشعري لفلسطين، فهذه مسألة ذاتية يمكن أن تختلف بين شاعرين يعيشان في البناية نفسها. صحيح أن تجربتي محددة بمكان وزمان، ولكني بالمخيلة والمعرفة الحدسية أحاول أن أعيش التجربة الإنسانية كلّها، فما بالك بالتجربة الفلسطينية التي تدفعني حالة الشتات والتشتيت التي تذكرينها إلى لمّها وجمع أوصالها في داخلي، تماماً كما أفعل مع التجربة العربية المعاصرة في بلاد الشام والعراق ومصر والجزيرة العربية والمغرب العربي. أشعر دائماً بأن في داخلي آلة جمع أوصال وتأليف ولمّ شمل تشتغل على مدار الساعة.
كان من الواضح لي على الدوام أننا في فلسطين جزء من الثقافة العربية ومن سؤال التحرر والتقدّم في المنطقة العربية، وأن مستقبلنا لا ينفصل عن مستقبل الإنسان العربي أينما كان. وعليه فإن أي فعل ثقافي في فلسطين عليه أن يكون فعل مقاومة بالمعنى الواسع لكلمة المقاومة. ولذلك فمعظم ما حاولت صنعه وما شاركت فيه وكنت على تماس معه كان ينطلق من هذا الوعي ويصب في تياره.
فلسطين اليوم تتعرض لشيئين متناقضين، في أكبر عملية احتيال وتمويه من نوعها، فمن جهة تتم تصفيتها على الأرض، ويجري الاعتراف باسمها كذباً من الجهة الأخرى، فتتحول «الدولة الفلسطينية» في بلدات الضفة الغربية وغزة إلى مطلب إسرائيلي، لتمرير عملية سرقة «فلسطين التاريخية» وتسمية السجون الكبيرة دولة مستقلة. «الدولة الفلسطينية» هنا لا تزيد عن كونها تصفية للقضية الفلسطينية وأيضاً رشوة للذين يتفاوضون باسمها ويريدون أن يصبحوا رؤساء ووزراء وسفراء وأصحاب ثروات.
÷ ككل الشعراء، لا يكتفي شاعر اليوم أن يكون شاعراً. فأنت نشيط على جبهات ثقافية عديدة، ومؤخراً كنت ضمن المجموعة التي أقامت سنة فلسطين في بلجيكا.. كيف يتعايش هذا مع الشعر؟
} الكتابة الإبداعية عمل فردي إلى حد كبير وإن كان الشعر شغفي الأعمق، إلا أن أشكال العمل الثقافي في بعده الجماعي، تتيح مجالاً أوسع لتقديم مساهمة في الحيّز العام الذي أتشاركه مع الذين تجمعني بهم قضايا ووجود. هذا مع فهم حدود وإمكانات العمل الثقافي وشروطه الفنية، فنحن لا نتحدث هنا عن عمل دعائي خطاباتي، وإنما نقصد ذلك العمل الثقافي الذي يساعد الإنسان على تحرير مخيلته، وبالتالي تحرير واقعه وامتلاك مصيره. العمل الثقافي الذي يؤسس للأجيال القادمة ويحاول تجنيبها التخبّطات والخيبات التي نعيشها الآن. هناك واجب أستشعره نحو الأمة المستهدفة التي أنتمي إليها، وهو واجب طبيعي أحسّه وأمارسه بلا تكلّف، من خلال أفعال ومساهمات متواضعة على قدر ما تمكنني قدرتي وطاقتي، ومن خلال شراكات مع رفاق درب يجمعنا الطموح نفسه ويحركنا الهم ذاته. أدرك محدودية ما نستطيعه أمام الخراب، ولكن هذا أضعف الإيمان كما يقال.
ربما كان العمل الثقافي المساحة البديلة حين لم تتوفر شروط العمل السياسي المباشر. منذ البداية وجدتُ نفسي غير معجب بالتنظيمات الفلسطينية وطريقة عملها، وبالتالي بقيت على مسافة منها جميعاً. الأمر لا يقتصر على فلسطين، فالحياة السياسية العربية في العقدين الأخيرين معطّلة ومصادرة، وفي أحسن الأحوال شكلية. وإن كنا نلحظ اليوم حراكاً جديداً في بعض المجتمعات العربية يمكن التأريخ له بتموز 2006. إذن أصبحت الثقافة ـ بالنسبة إليّ على الأقل ـ المنطقة الوحيدة المتاحة والتي يمكننا العمل بها، وتقديم مساهمة ولو متواضعة للخروج من حالة الشقاء التي نعيشها في المنطقة العربية المنتهكة، التي لم تتخلّص من الاستعمار المباشر إلا ليسلم أمرها لمستعمرين بالوكالة من صلبها هذه المرة.
÷ نجوان درويش أنت رئيس تحرير مجلة «من وإلى» التي توزع في بلدان عربية كثيرة؟ هل لك أن تحدّثنا عن هذه التجربة وما هو تقييمك لها بعد تسعة أعداد؟
} ربما من المبكّر بالنسبة إليّ على الأقل تقييم هذه التجربة، وفي جميع الأحوال لستُ أفضل من يقوم بهذه المهمة. لكن يمكنني القول، من خلال الملاحظات وردود الفعل التي نتلقاها، أن «من وإلى» تحظى باهتمام متزايد في البلدان العربية التي توزع فيها مع كل عدد جديد. كما تلاحظين المجلة تقتصر على أعمال الجيل الجديد من الكتاب والفنانين في المنطقة العربية وغالبيتهم دون الثلاثين، والذين نعتبرهم شركاء فعليين في المغامرة.. بعض هؤلاء على قدر من الاحتراف، هناك أيضاً من يقدّمون أعمالهم للمرة الأولى. فجزء من فكرة المجلة هي تقديم واكتشاف أصوات جديدة من مختلف البلدان العربية، وتوسيع مساحة التعبير والتواصل لدى الأجيال العربية الجديدة. وتقديم هذه الأصوات في إطار عربي يجمعها، بحيث تصبح هذه التجارب معروفة لبعضها، وأيضاً معروفة لشرائح أوسع من جمهور عربي يتعدى قطرية المطبوعات والذهنية القطرية في تلقّي الفنون والآداب التي أخذت تُكرّس في العقدين الأخيرين.. نحاول أن نطبّق شعارين اثنين الأول أن المجلة هي لكتّابها وفنانيها وقرائها، والشعار الثاني جعلها مجلة جامعة للأصوات العربية الجديدة، من حيث الشكل تتخذ المجلة قطعاً صغيراً يمكن أن يوضع في الجيب، ويمكن أن تُقرأ في أي مكان، بالإضافة إلى كون معظم موادها تتصف بالتكثيف والقصر والخفة التي لا تتنافى مع العمق فيما نظن.
خلل بنيوي
÷ ماذا يستطيع عرب الدول العربية تقديمه للفلسطينيين داخل فلسطين؟
} ماذا يستطيع عرب الدول العربية أن يقدموا لأنفسهم؟ هذا هو السؤال برأيي. أظن أن علينا تعريف القضية الفلسطينية التعريف الصحيح. قضية فلسطين قضية عربية وتضامن الانسان العربي مع فلسطين هو تضامن مع نفسه ومع مستقبله. للأسف في العقود الأخيرة تم ترويج مقولات تجعل فلسطين قضية أقارب نتضامن معهم عن بعد. من جهة أخرى فإني أضيق بالاهتمام العربي الرومانتيكي بـ»فلسطينية الداخل»، وفي المقابل نرى إساءة معاملة للفلسطينيين في بعض البلدان العربية. عرب الدول العربية واجبهم الأساسي أن لا يضطهدوا الفلسطينيين اللاجئين بين ظهرانيهم، وأن لا يبهدلوا الفلسطينيين على حدودهم وفي مطاراتهم. هذا كلام موجّه إلى الأنظمة وبعض المثقفين الذين «يتضامنون» برفع الشعارات ودون مسؤولية حقيقية. وكون هذا الحوار مع جريدة لبنانية فإني أنتهز الفرصة لأوجه الحديث للبنان الدولة والمجتمع، فما يجري منذ عقود في لبنان باسم منع التوطين هو أكثر من اضطهاد.
وفي المقابل نحتاج أيضاً إلى نظرة نقدية عند النظر لما يأتي من فلسطين، نظرة يمكنها على سبيل المثال أن ترى الإنتاج الثقافي والفني الفلسطيني باعتباره إنتاجاً فنياً بالدرجة الأولى وجزءاً من الثقافة العربية لا أقل ولا أكثر. لم يعد مقبولاً تقديم انتاج أدبي أو فني رديء تحت هودج الوطنية أو القومية أو أي قضية نبيلة.
÷ ما هو أعزّ حلم يحلمه نجوان درويش اليوم لفلسطين ولكل من يكتب بالعربية؟
} هذا سؤال صعب، لأنني عادة «أحلم بالجملة» وليس لديّ حلم واحد. من جهة أحلم أن تصير بلداننا العربية صالحة للحياة الحرّة وأن لا يضطر أبناؤها إلى الهرب نحو مطابخ أوروبا وأميركا وكندا، وأن تصبح الديكتاتوريات والتبعية للاستعمار أموراً من الماضي. أما حلمي لفلسطين فهو بسيط للغاية، تحريرها من الاحتلال وإعادة أهلها إليها وإعادتها لأهلها. وهذا يقتضي تفكيك وتصفية المشروع الصهيوني. وهذا الأمر لا يقع عندي في خانة الأحلام، وبدايته تكون بأطروحة نظرية لتفكيك الدولة العبرية. أطروحة واقعية إنسانية شجاعة تنطلق من قطيعة ومقاطعة لفكرة التعايش مع المشروع الصهيوني بوصفه مشروعاً استعمارياً عنصرياً. فكما جاءت «دولة اليهود» من كتيب بهذا الاسم نشره بالألمانية كاتب مسرحي قليل الموهبة اسمه «ثيودور هرتسل» عام 1896؛ فإن ما نحتاج إليه اليوم هو أطروحة فكرية متماسكة تمتلك تصوراً عملياً لتفكيك «إسرائيل». من الغريب فعلاً أن حركة التحرر الوطني الفلسطيني أيام «الكفاح المسلّح» خلت من تصوّر حقيقي لعملية التحرير ولكيفية التعامل بعدها مع الواقع الذي أقامته «إسرائيل» على أرض فلسطين.. وكأن المسألة مجرد رفع ضيم واسترداد شرف. وهذا مؤشر على خلل بنيوي في القوى السياسية المقاومة للمشروع الصهيوني.
السفير
ما زالَ للقدسِ وهجٌ، طالما نطقَ بِلسانِ أبنائها تُرُبٌ،،،موقنٌ بسرمديتهِ–تحيتي من القدس