عصور الظلام المعاصرة: ارض يباب تدعي السلام الامريكي
صبحي حديدي
لعلّ الرئيس الامريكي جورج بوش قد اُصيب، هو شخصياً، بالتخمة التي أصاب بها البشر وهو يحثّ الهمم ويشحن النفوس لمساندة احتلال العراق (الذي، بالطبع، يأخذ تسميات وردية مثالية برّاقة من طراز التحرير و المشروع الديمقراطي و الحملة الصليبية للخير ضدّ الشرّ…). ولهذا، وفي الذكري الخامسة لسقوط بغداد تحت الإحتلال العسكري الأمريكي المباشر،
اختار الرجل وجهة مختلفة، طريفة تماماً، لمواصلة استعراض المشاعر واستدراج العواطف: ذرف الدموع علانية، عند استذكار نجاحه في تجاوز مشكلات الإدمان علي الكحول، ليس اعتماداً علي قوّة الإرادة، بل اتكاء علي القوّة الروحية التي منحته إياها الكنيسة!
لقد أقلعت عن الشرب، ولم يكن ذاك بسبب برنامج حكومي. لقد تطلّب الأمر، في حالتي، قوّة أكثر جبروتاً من البرنامج الحكومي ، قال رئيس القوّة الكونية الأعظم خلال مراسيم توقيع قانون جديد حول منح الفرصة الثانية، هو الذي كان قبل يوم واحد فقط قد أوشك علي الإنخراط في البكاء وهو يمنح وسام الشرف لذوي أحد أفراد البحرية الأمريكية، قُتل في الرمادي خريف 2006. هنا أيضاً، هيمن المعجم الديني ـ الأخلاقي، بصدد حسّ التضحية وفداء النفس من أجل تطهير الرمادي، ثمّ العراق بأسره، من رجس الإرهاب وعصور الظلام التي تسعي القاعدة إلي إحيائها وفرضها علي الشعب العراقي.
والحال أنّ الإرتداد إلي عصور الظلام ليس سمة إيديولوجية تنطبق علي القاعدة وحدها، بل هي حال الإمبراطورية الأمريكية المعاصرة، والحضارة الأمريكية الراهنة جمعاء، ليس في نظر أحد الإسلاميين الغلاة المتشددين كما قد يذهب الظنّ، بل في كتاب عصور الظلام في أمريكا الطور الأخير من الإمبراطورية ، الذي صدر مؤخراً في نيويورك عن منشورات Norton. مؤلف الكتاب، موريس بيرمان، هو أستاذ علم الإجتماع في الجامعة الكاثوليكية، واشنطن، وصاحب العمل السابق الشهير أفول الثقافة الأمريكية الذي صدر سنة 2000 وأثار عواصف سجال لم تهدأ حتي اليوم.
وبيرمان يعتبر أنّ إعادة انتخاب بوش لرئاسة ثانية، وما انطوت عليه من آفاق سيطرة مديدة للحزب الجمهوري علي مقدّرات السياسة الأمريكية، رجّحت انتقال الحضارة الامريكية من طور الأفول (الذي ناقشه بيرمان في كتابه السابق) إلي عصر الظلام الفعلي. وهو يذكّرنا بأنّ حالاً مشابهة واجهت الإمبراطورية الرومانية، وفصّل القول فيها المؤرّخ البريطاني شارلز فريمان في كتابه اللامع إنغلاق الذهن الغربي . يكتب بيرمان: السيد بوش، يعلم الله، ليس القديس أوغسطين، ولكنّ الأخير كما يشير فريمان هو تجسيد سيرورة أعرض أخذت تتكامل في القرن الرابع، وتمثّلت في أخضاع العقل للإيمان والسلطة. وهذا ما نشهده اليوم في أمريكا، وهي سيرورة لا يمكن أن يعيشها مجتمع ويظلّ حرّاً .
وفي فصل فريد، بعنوان محور السخط: إيران، العراق، إسرائيل ، يدشّنه باقتباس شديد المغزي من السناتور والمؤرّخ الروماني الشهير كورنيليوس تاسيتوس: يخلقون الأرض اليباب ويطلقون عليها تسمية السلام ، يساجل بيرمان بأنّ زلزال 11/9 كان نتيجة حتمية للسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، خصوصاً في فلسطين والعراق وإيران. منابع السخط هذه، من الإنقلاب الأمريكي في إيران (الذي عُرف باسم عملية أجاكس وأسقط رئيس الوزراء الشرعي محمد مصدّق سنة 1953)، إلي التدخّل الأمريكي في شؤون العراق منذ الستينيات وحتي التعاون العسكري والأمني مع نظام صدّام حسين اثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية، وبينهما وقبلهما وبالتزامن معهما الإنحياز الأمريكي المطلق لدولة إسرائيل.
صحيح أنّ محاور السخط هذه لا تبرّر قتل ثلاثة آلاف أمريكي، أو أجنبي، بريء تواجدوا لضرورات الحياة أو بالمصادفة في برجَيْ نيويرك يوم 11/9/2001، يتابع بيرمان، إلا أنّها في أبسط قراءة موضوعية تفسّر الحدث: إذا كنّا عاجزين عن إدراك الجانب الثأري وراء ما جري في 11/9، وليس الركون إلي عوامل الجنون و الشرّ و الأصولية و الإرهاب وحدها، فإنّ الأمل ضئيل في أنّ النجاح سيكون حليفنا ضدّ هجمات إرهابية أخري في المستقبل . ولا يوفّر بيرمان تمثيلاً طريفاً لحال التعامي الأمريكي، الرسمي والشعبي علي حدّ سواء، إزاء السخط المتعاظم ضدّ السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط: أشبه برجل مصاب بصداع مزمن، ولكنه يؤمن أنّ العلاج الوحيد هو الاستمرار في ضرب رأسه بمطرقة!
وفي فصل آخر بالغ العمق، عنوانه الإمبراطورية تتداعي ، يناقش بيرمان مدرسة التفكير التي تقول بأنّ حلّ معضلات أمريكا لا يأتي إلا من داخل أمريكا، علي غرار نظرية البندول وتوفّر حلقات تصحيح ذاتي علي امتداد التاريخ الأمريكي، وأنّ إيقاع هذا التاريخ هو الفعل/ردّ الفعل والمقولة/المقولة المضادّة. لكنّ الحال، خصوصاً في رئاستَيْ بوش، بلغت ذروة غير مسبوقة في استجلاب ردود الأفعال المتعددة، المتغايرة وغير المتناسبة دائماً مع الفعل الواحد، بحيث أنّ سيرورة انحلال الإمبراطورية الرومانية، وليس نظرية حلقات التصحيح الذاتي، هي التي تصلح لاستشراف مستقبل أمريكا المعاصرة.
إنها قوّة عظمي تسير حثيثاً نحو الهاوية بسبب من عجوزات في التجارة لا يمكن ضبطها، وميزانيات مدينة علي نحو خرافي لا سابقة له، وعملة آخذة في الإنهيار دولياً، و هوية سلبية تتغذي علي الحرب ضدّ الأمم الضعيفة، وثقافة بلهاء تعيش علي التلفزة والإعلام الضحل، والتعليم الفاشل أو التبسيطي في المدارس والجامعات، وجنون الإستهلاك، والصحافة الأسيرة، والحقوق المدنية الضائعة، واللوبيات التي تسيّر الكونغرس، ووزارة العدل التي تعيد كتابة القوانين الدستورية علي هواها… ويكتب بيرمان: نحن مجتمع قدره محتوم لأنّ الجمهور ذاته لم يعد ناشطاً أو واعياً، وهو لا يكفّ عن إعادة انتخاب الأناس أنفسهم الذين يتولّون نسف الحرّيات !
ومع ذلك، وإلي جانب كلّ تلك الأفكار المعمّقة التي يسوقها يرمان للتدليل علي اقتراب الإمبراطورية الأمريكية من حافة الهاوية، فإنّ المرء لا يكاد يصدّق عينيه وهو يقرأ وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس تقول التالي، علي سبيل المثال: أمريكا والعالم الحرّ ملتزمان من جديد في كفاح طويل الأمد ضدّ إيديولوجية الطغيان والترهيب، وضدّ الكراهية وزرع اليأس في النفوس (…) إنّ أمريكا تقف إلي جانب الشعوب المظلومة في كلّ قارّة. ولن نعرف الراحة طالما لم يحصل علي الحرّية كلّ شخص يعيش في مجتمع يسوده الخوف … هل تستعير رايس لغة ثائر مثل إرنستو تشي غيفارا؟ أم لعلّها تعيد إنتاج لغة فلاديمير إيليتش لينين والبلاشفة الروس صبيحة انتصار ثورة 1917؟ أم أنّ قَتَلة الديمقراطية في عشرات بلدان العالم الثالث، كبار رجالات الإدارت الأمريكية المتعاقبة، يرتدون اليوم عباءة إنقاذ العباد من الإستبداد والطغيان واليأس، وعلي الشعوب كافة أن لا تصدّق فحسب، بل أن تصفّق أيضاً؟
الحقّ أن رايس لا تغفل هذا التفصيل الذي يخصّ الشعوب، ولهذا تقول إنّ الشعوب الحرّة، في كلّ مكان، تبتهج بنجاح الديمقراطية علي امتداد العالم ، بفضل سياسات هذه الإدارة. غير أنّ الوقائع تقول غير ذلك، بل تشير إلي النقيض تماماً وبلا أدني اجتهاد. المرء يستذكر استطلاع الرأي الذي أجرته إذاعة الـ BBC الدولية في مناسبة تدشين ولاية جديدة للرئيس الأمريكي، حين قال 22 ألف مواطن من 21 بلداً في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية إنهم يتخوّفون من هذه الولاية الثانية، واعتبر 58% منهم
أنّ بوش سيلعب دوراً سلبياً علي السلام والأمن العالميين، وأنّ كراهية بوش تنقلب في نفوس الناس إلي كراهية للولايات المتحدة. وفي بريطانيا كانت نسبة التخوّف 64، وفي فرنسا 75، وفي ألمانيا 77…
لم يحرّك هذا الاستطلاع قيد أنملة في ثبات رايس علي إيمانها بعلم الجبر البوشيّ الذي يقول إنّ القوّة تساوي الحقّ، ولا شيء سوي القوّة يمكن أن يصنع الحقّ. المشكلة أنّ قوّة الولايات المتحدة لا تبدو اليوم وكأنها تصنع الكثير من الحقّ، حتي في سياق المنطق الذي تعتمده رايس وغالبية رهط الإدارة، خصوصاً حين لا يتناقص عدد دول محور الشرّ ، بل يتزايد: من ثلاثة (إيران، العراق، كوريا الشمالية) في عام 2001، إلي خمسة اليوم (إيران، كوريا الشمالية، كوبا، بورما، روسيا البيضاء، وزمبابوي). كذلك لا يلوح أنّ نداء السماء الذي قال بوش مؤخراً إنه يهديه إلي صناعة حرّية الشعوب، سوف يسقط علي أسماع الإنسانية برداً وسلاماً.
نحن في طور من التقلّب وانعدام الثبات غير مسبوق ، يقول دافيد غوردون أحد مؤلفي تقرير أمريكي حكومي رسمي عن أحوال العالم سنة 2020، أعدّه مجلس الإستخبارات القومي في الولايات المتحدة، الجهة المعنية بوضع صانعي السياسات في صورة الأخطار التي تنتظر قراراتهم. أهمّ ما في ذلك التقرير أنّ توازن القوّة القادم في ميدان الإقتصاد سوف ينتقل إلي آسيا (الصين والهند خصوصاً)، حيث ستزداد نسبة النموّ 80% قياساً علي العام 2000، الأمر الذي سيجبر واشنطن علي إعادة النظر في أولويات سياساتها الراهنة تجاه أوروبا والشرق الأوسط. صحيح أنّ أمريكا سوف تظلّ القوّة الكونية الأعظم، إلا أنّ موقع القوّة النسبي الذي تتحلّي به سوف يتآكل أكثر فأكثر ، حسب التقرير.
إلي جانب الإقتصاد، يقول مؤلّفو التقرير إنّ العالم سنة 2020 سوف يتعرّض للكثير من الأخطار الأمنية، وأنّ ارتباط البشر عبر الإنترنيت وشبكات العولمة سوف يخلق جماعات افتراضية تفرز مختلف الأشكال الجديدة الصانعة لسياسة الهويات، فتزيد من تعقيدات قدرة الدول علي الحكم، وإمكانية المنظمات الدولية في التدخّل. وبالطبع، لا ينسي التقرير التأكيد علي العامل الأهمّ ربما: الإسلام السياسي، بصفة خاصة، سوف يكون له تأثير كوني ملموس علي امتداد الفترة حتي 2020، وسيلمّ شمل المجوعات الإثنية والقومية المتباعدة، ولعله سوف يخلق سلطة تتجاوز الحدود القومية .
من جانبه يطلق فيليب جيمس، أحد أبرز متقاعدي التخطيط الستراتيجي في الحزب الديمقراطي الأمريكي، صفة الكابوس الأمريكي علي التسجيلات الهاتفية التي أمر بها بوش، شخصياً وبناء علي توجيهات سرّية، بحقّ عدد من الذين تزعم الإدارة إنهم علي صلة بمنظمة القاعدة . هل تنقلب أمريكا إلي الشاكلة التي تخشاها كلّ الخشية ، تساءل جيمس قبل أنّ يحدّد الشاكلة تلك بنفسه: دولة علي غرار الأخ الأكبر (في إشارة إلي الإتحاد السوفييتي، والدولة التي تخيّلها الكاتب البريطاني جورج أورويل في روايته الشهيرة 1984 )، حيث الحكم للأوامر العليا، ولا أحد مستثني من تنصّت البوليس السرّي، وكلّ شيء مسموح به دفاعاً عن الوطن، بما في ذلك التعذيب .
.. أو إجهاش الرئيس نفسه في البكاء، إطراءً لعقيدته الدينية الشخصية التي سبق له أن بشّرنا بأنها ملهمة حملاته الصليبية في نصرة الخير ودحر الشرّ. وأن يختار بوش ذكري سقوط بغداد لكي يسترجع دور الدين في تمكينه من الإقلاع عن الكحول، هو الذي ترعرع في بيئة تكساسية فظة بطريركية كارهة للفكر متعاطفة مع الأصولية المسيحية، أمر يضيف دليلاً جديداً إلي سجال بيرمان حول دنوّ عصور الظلام الأمريكية. وقياساً علي نذير الإنهيار الرهيب الذي أطلقه كورنيليوس تاسيتوس قبل عشرين قرناً، أليس من نافل القول اليوم إنّ إدارة بوش تطلق علي الأراضي اليباب، التي يخلّفها الإحتلال في البصرة والرمادي وبغداد، وقبلها في أبو غريب والفلوجة وحديثة، صفات السلام و التحرير و الحرية ؟
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي
11/04/2008
super bien M.hadidi