إعلان الشارع الباريسي: ‘الرأسمالية مريضة نشفيها او نجهز عليها’!
مطاع صفدي
مجتمع الرفاهية السهلة يواجه المجهول. يكتشف الغرب الأوروبي فجأة أنه لم يفكر في مستقبله كفاية. ها هو المستقبل المجهول يغزو الحاضر، وليست ثمة دفاعات وقائية تحت اليد. فما كانت ثقافة التنبؤات الكارثية التي تشغل حيزاً رئيسياً من تقاليد الفكر الغربي منذ جذوره اليونانية، فالقروسطية، ما كانت هذه الثقافة التشاؤمية لتردَّد عنه إنذارات اليوم الأخير، فهي لم تكن لتبعث في نفوس جماهيرها الغافية سوى رعشة رومانسية تدخل في نطاق ذلك القلق الوجودي الذي لا يولد خوفاً واقعياً، بقدر ما يثير متعة حزينة تخص معاناة مخيالية إزاء كارثية لا تتحقق إلا على مستوى التصور فحسب. ومع ذلك ينبغي القول أن الفكر الغربي حافل باستشعار الكارثيات النهائية.
فليست ثمة فلسفة كبرى أو عمل إبداعي عظيم إلا وله طريقته المميزة في استحضار الهول المستقبلي تحت أشكال ميتافيزيقية أو تاريخية أو سياسية اقتصادية. ولعلّ هذا الشكل الأخير هو الذي يداهم الوعي العام اليوم؛ يخرج من سياق التأملات أو التحذيرات الثقافوية، ليخترق شوارع المدينة الأوروبية. وتبدو مدينة باريس هي السباقة في هذا المجال. فهي الرائدة العريقة، في ممارسة ديمقراطية الشارع، وفي ابتكار تقاليدها الجماهيرية. فالشارع الباريسي الثائر، المنتج لكل منعطفات الشخصية المفهومية للجمهورية، كان هو مصدر الحراك التكويني لهذه الجمهورية، ويظل هو المرجع الأخير في كل أزماتها الماضية والراهنة. ولعله سيكون له الدور المركزي كذلك في كل هذا الزمن الآتي الصعب الذي يداهم الكينونة الأوروبية، وهي في أوج غرورها الحضاري. فالأزمة الكونية تغادر شكلها الاقتصادي والمالي لتنتقل إلى الصميم الاجتماعي. وهذا الانتقال هو الذي كان يخيف الطبقة السياسية الحاكمة دائماً، فتحافظ على احتكار المبادرة والمعالجة؛ تحاول حصار أعراض الأزمة في القمة، للسيطرة على تداعياتها ما أمكن قبل أن يفلت من يدها الزمام في كل شيء.
لقد انتظر الشارع الغربي معجزات الحلول الموعودة لتهبط، عليه من لَدُنْ حكامه المنشغلين باللقاءات والمؤتمرات، وتصدير البيانات الكلامية. بينما راحت الكوارث الاجتماعية تتحول من أشباح منتظرة إلى وقائع يومية متصاعدة بالأضرار والأخطار المهددة لكل ما هو عمل مستقر مأجور، سواء في المؤسسات الحكومية أو الأهلية. هكذا يتهم الشارع حكامه أنهم لم يفشلوا فحسب في اتقاء المصيبة الشاملة، ولا في تداركها ومعالجة بداياتها قبل استفحالها وتعاظمها، بل إنهم لا يزالون يعمدون إلى تجاهل أسبابها، والأنكى من هذا أن الشارع الأوروبي أمسى يعتقد أن حكامه عازمون على جعل مجتمعاتهم هي التي تدفع تكاليف الكارثة، بينما تذهب المساعدات بمئات المليارات إلى جيوب أصحاب النظام المتداعي، وهم المسؤولون أصلاً عن تداعيه. ها هم يمعنون في التمسك بذات أساليب الاستثمار المخادعة، والاستئثار بمفاتيح الاقتصاد القومي لبلادهم بعيداً عن أية محاولة في اتباع المشاركة الجماعية في تحمل أعباء الأزمة، أو المساهمة في حماية الحد الأدنى من حقوق موظفيهم وعمالهم. أما من ناحية الحكومات القائمة، فهي من حيث تدري أو لا تدري، تجد نفسها منحازة مقدماً إلى جانب هؤلاء. فالشعار (الإصلاحي) الذي تشتغل تحت لوائه دول الغرب منذ انفجار الأزمة، هو إنقاذ النظام الرأسمالي؛ وترجمته العملية هي تحييد الرأسمالية كطبقة اجتماعية عن تداعيات المصاب العام ما أمكن. إذا ما كانت هناك خسارات فلتكن في الوظائف والأعمال في أكثرها، وأقلها في أموال المتمولين الكبار.
ذلك هو كُنْه المبدأ الإصلاحي الذي تنفق حوله مختلف المبادرات والقرارات التي قامت بها، وستتابعها، دول الغرب الأوروبي منقادة حتى الآن كعادتها وراء القائد الأمريكي لمرحلة الطوارئ الراهنة، كما كانت أحوالها المعروفة في المراحل العادية السابقة. غير أن الاختلاف الجديد هو أن الشارع الأوروبي، والفرنسي أولاً، سيكون هو السباق عن زميله الأمريكي في رفع إشارة الاعتراض، كتمهيد لإطلاق إشارة العصيان الشعبي الشامل. والسبب في هذا الاختلاف راجع إلى ذاكرة كلِّ من الديمقراطيتيّن على ضفتيّ المحيط الأطلسي. فالأوروبية قطعت شوطاً بعيداً في ممارسة ما تسميه بالديمقراطية التشاركية. وفحواها العملي، أن أكثرية المجتمع هي الناخبة الحقيقية لحكوماتها، وليست هي الأحزاب وحدها صاحبة الكلمة الفصل، في حين يحتكر حزبان في أمريكا كامل الحياة السياسية، الأهلية منها والرسمية معاً.
لذلك، وكما يقول التاريخ الغربي المعاصر، أصبح من المتعذر على أية سلطة أن تحكم بالتضاد مع خيارات الرأي العام لمجتمعها. حتى لو أتت سلطة يمينية مطلقة، كما يحاول عهد الرئيس ساركوزي أن يفرضها، من خلال جنوحه المتنامي نحو نظام الحكم الرئاسي. إذ تصبح حكومة الوزراء تحت سلطته مجرد وكالات سكرتارية لمنهجه ومقرراته العليا. هكذا أضحت (الساركوزية) منذ بداية عهدها في قصر الإليزيه الجمهوري، تحاذر من تخطي المعارضة لجدران المجلس النيابي. لكنها خرجت اخيراً إلى مختلف أوساط المجتمع الفرنسي، بعد كل، أو معظم المشاريع (الانقلابية)، التي يفاجئ بها الرئيس بلاده، من أسبوع إلى آخر، وكلها حاملة لصخب الشعارات الإصلاحية، بينما تهدف في مجملها إلى انتزاع مكاسب مبدئية لمصالح عامة، كانت شكلت نموذج مجتمع الرعاية الذي ميّز الاستثناء الفرنسي، ثم الأوروبي، عن بقية ديمقراطيات الغرب الأمريكي الآخر. ثم إنه تحت وطأة الركود الاقتصادي المهدد بإلغاء آلاف الأعمال، تصاب (إصلاحات) ساركوزي بانكشاف أكبر، سياسي وأخلاقي أعمق فأعمق،و يصبُّ في صالح المعارضة الشعبية المقبلة على قفزات خطيرة، متجاوزة لحدود المعارضة النيابية المقننة. وهو الأفق المظلم الذي يهدد الغرب عامة، فيما يصطلح عليه خبراء الكوارث بخروج الأوضاع الاجتماعية عن السيطرة.
لعلّه لم يعد يصح القول ان حضارة الغرب قد طوت صفحة الانتفاضات الأهلية إلى غير رجعة، وأنها قد خصت بها أوطان الشرق (الفوضوية) وحدها. فأحاديث العودة المحتومة إلى عصر النوع الشعبوي للانتفاضات الممهدة لقيام الديكتاتوريات العنصرية أو الطبقية، أمست اليوم أقرب إلى إثارة هواجس الناس العاديين، منها إلى مداولات الغرف المظلمة بين رجال السلطتين السياسية والمالية. غير أن أجواء المثقفين الذين يصحون من غفلتهم الفردية أخيراً، ترفض أن ترى في الأزمة مجرد صدمة عابرة تصيب بنية النظام الرأسمالي بمعزل عن كونها صدمة مركزية للمشروع الحضاري الغربي في كليته، ولعلّها تُؤذن، تبشيرياً إيجابياً، بحلول وقت الانقلاب الأعظم لثقافة هذا المشروع، كما لو كان تبشيراً بقدوم ما يشبه الفرصة التاريخانية الأخيرة. فإذا ما تحقق الفهم النزيه لاستقبال الفرصة والاستجابة لأسئلتها الجذرية التي عانت طويلاً من الكتمان والتعمية والتأجيل الخبيث أو الغبي، كان ذلك بمثابة دعوة لمختلف قوى المجتمع إلى إعادة النظر في مجمل خيارات الغرب لطريقة حياته، وليس فحسب لنظامه السلطوي والإنتاجي معاً.
فرنسا تفتتح حقبة المعارضة الاجتماعية المنتظرة كأول رد فعل بنيوي على أفاعيل الأزمة الأخطر التي يواجهها الغرب المعاصر، فيما بعد حقبة الحروب العالمية الغابرة. إنه نوع الخطر التكويني الصاعد من صلب وجوده المادي عينه. فكما جاء في إحدى يافطات التظاهرة الباريسية وهي الأضخم والأقوى حسماً وتأثيراً في عهد النيوليبرالية الساركوزية، وكان نصُّها هكذا: الرأسمالية مريضة فلنجهز عليها! إنها العبارة الكاشفة حقاً لعمق الإحساس الجماهيري بمسؤولية المصير الأرهب الذي ينتظر الجميع، بما يحتم ضرورة المشاركة الأوسع من قبل مؤسسات المجتمع الأهلي في تدبّر التحليل الأصح وطرق معالجة حلوله. إنها حالة اليأس من قدرة الحكومات وحدها على التصدي الموضوعي لجذور المشكلة. فقد انصبت كل الخطط والتدابير حتى الآن في اتجاه إعادة تمويل كبار الشركات وأصحابها، في الوقت الذي لم تكفّ هذه، عن مخطط التسريح النظامي لدفعات متوالية من موظفيها وعمالها. وقد وصل الأمر إلى إصرار رئيس الجمهورية على خفض سقف الضريبة عن الثروات الضخمة، بما يحرم خزينة الدولة من مبلغ خمسة عشر مليار أورو؛ وهي الخزينة الفرنسية المعتلّة بالعجز المتراكم من عام إلى آخر، مرضها التقليدي المتوارث منذ نشأة (الجمهورية الخامسة) الحالية. وذلك العجز الذي يرتكز إليه رئيس الوزراء الحالي كمسوّغ لرفض أية مساعدات جدية للعاطلين عن العمل الجدد. وسوف يصيرون قدامى بالنسبة لدفعات المسرحين القادين غداً وما بعده. المطلب المركزي للملايين الثلاثة من المتظاهرين في أكثر من (230) مدينة فرنسية يوم الأربعاء الماضي، المطلب الذي لا سابقة له منذ انتهاء عصر اليسارويات للقرن الماضي، يريد أن يرفع من مستوى القيادات النقابية إلى مستوى قادة الدولة أنفسهم. إنه يستهدف مشاركتهم في ما يشبه هيئة طوارئ قومية لمواجهة الأزمة. فإن لم يُعلن صراحة عن تسمية هذه الهيئة بعد، لكن جوهر المطالب بالمشاركة سوف يشكل قريباً المسوغات العقلانية والواقعية لتشكيلها. هنالك أعلى نسبة تأييد قياسي للرأي العام الفرنسي80’، داعم لأوسع حراك اجتماعي يتخطى حدود أهداف جزئية أو آنية، نحو تحقيق أول صيغة عملية لفلسفة (الديمقراطية التشاركية)، تحت ضغط الضرورة التي تصير مطلقة كلما أحسَّ مواطنو الجمهورية بأن فرنسا التي صنعوها وأحبوها تتعرض من جديد لتهديد الكون أو العدم.
لكن العقبة الكأداء في وجه مثل هذا الحراك ستكون بدون شك هي هذه ‘الإصلاحية الساركوزية’ التي لن يفرط صاحبها بملكيتها لأحد سواه، فهي الفرس التي امتطاها كإيديولوجيا شعبوية للوصول إلى الرئاسة. أمست عصا السحر التي لا يني يرفعها في وجه كل معارضة لمشروعاته الخائبة في معظمها حتى الآن.ها هي تكاد تفقد بقية سحرها أمام قيام عملاق الأزمة الاقتصادية فجأة في طريقها، ودون أن تكون مستعدة لها. فإيديولوجيا الإصلاحية كان أقصى طموحها أن تعالج بعض المشكلات المزمنة في بنية الدولة الفرنسية، ومن منظور النيوليبرالية الأمريكية، بل (البوشية) التي تطوع في حزبها ساركوزي متأخراً، وهي تلفظ أنفاسها.
فكيف لإصلاحية القمة هذه تقبل ببعض تطلعات الديمقراطية التشاركية الصاعدة من أوسع قواعدها الجماهيرية. لن يجازف أحد بإعطاء أجوبة شافية على هذه المعضلة. فالحراك الاجتماعي قد بدأ. لن يظل احتجاجياً، أو معارضاً بسببٍ من نقصٍ موضعي هنا أو هناك في التصرف الحكومي.
تلك هي ملاحظة أولى يتفق حولها رأي عام ثقافي وعمالي معاً. هذا يعني عودة القطبية الرأسية بين ثنائية القمة والقاعدة، لتلعب أدوار التحولات الحاسمة التي اعتاد تسجيلها تاريخٌ فرنسيٌّ حافل بإنجازاته منذ ثورته الكبرى قبل قرنين ونيف. مع الفارق بين كل ذلك التاريخ(الثوري) والتحدي الراهن. ذلك أن الأزمة المداهمة هي عالمية وليست وطنية فرنسية – حتى لو عملت الأمة مجتمعة كدولة ومجتمع في ابتداع التشخيصات وبناء مفاهيم المعالجات على أساسها، فقد تكون رائدة في مسعاها ذاك، لكنها لن تفوز بعالمية الممارسة الإصلاحية إلا برفقة أندادها الكبار ما بين الغرب والشرق. كأن ينتدب الاتحاد الأوروبي نفسَه لإحدى هاتين المهمتين: إما شفاء الرأسمالية من مرضها، أو الإجهاز عليها. فما يوجّهه الحراك الاجتماعي الفرنسي من رسالة إلى هذا الاتحاد مبدئياً، هو أنه أمسى محتاجاً إلى نوع ذلك الحراك الإجتماعي التشاركي على مستوى كياناته الدولتية كلها، أو معظمها من كبرائها.
ذلك هو (الحل التاريخي)، لن يكون في وسع البعض دون الآخرين، إلا من كان من رواده الحقيقيين.
‘ مفكر عربي مقيم في باريس
m.m.safadi@hotmail.com
القدس العربي