دحض الأرقام بلا وجل ولا خجل!
نصر شمالي
عشية هذه الأزمة الاقتصادية العالمية الشاملة تحدّثت تقارير هيئة الأمم المتحدة عن اتساع الهوّة وتعمّقها بين أكثرية بشرية تبلغ خمسة أسداس سكان العالم وبين أقلية تقتصر على السدس، وقدّمت مثالاً محدّداً على ذلك فذكرت أنّ السدس يستأثر بحوالي 80 في المئة من المنتوجات الحيوانية، كالألبان والأجبان واللحوم! وبالطبع فإنّ هذا الاستئثار أو الاستحواذ لا يقتصر على المنتوجات الحيوانية الغذائية بل يشمل جميع المنتوجات الأخرى في جميع ميادين الحياة! كذلك ينبغي الانتباه إلى أنّ حصّة الولايات المتحدة لوحدها من الثمانين في المئة لا يقلّ عن عشرين في المئة، فهي متميّزة بين المتميّزين! وإنّه لمن المذهل أنّ الكثيرين يتجاهلون مثل هذا الرقم في قراءتهم للأزمة العامة ولما آلت إليه أوضاع العالم من بؤس!
لقد بلغت الأزمة العالمية ذروتها في العام 1996، حين انبرت البوشية/الريغانية (حركة المحافظين الجدد) محاولة طمس الأزمة والالتفاف عليها، ففي ذلك العام ظهر أنّ 20 في المئة من سكّان العالم الأعظم ثراءً يستأثرون عنوة بحوالي 85 في المئة من مجمل ثروات العالم، بعد أن كانوا يستأثرون في العام 1960 بحوالي 75 في المئة!
وفي الفترة نفسها ظهر أنّ العشرين في المئة من سكان العالم الأكثر فقراً صاروا يحصلون في العام 1996 بالكاد على 1.5 في المئة من مجمل ثروات العالم، بعد أن كانوا يحصلون في العام 1960 على 2.5 في المئة!
إنّهما ملياران من البشر على طرفي نقيض، 85 في المئة من الثروة العالمية لهذا المليار، و1.5 في المئة لذاك!
ولكن ماذا عن وضع الأخماس الثلاثة الأخرى من سكان العالم في ذلك العام 1996، عام صعود البوشية/الريغانية؟ لقد كانت هذه الكتلة البشرية الضخمة، التي تشكّل ما يمكن وصفه بالطبقات الاجتماعية العالمية المتوسطة، والتي تعدّ حوالي 60 في المئة من مجمل سكان العالم، تحصل فقط على 13.5 في المئة من مجمل ثروات العالم، مع أنّها كانت تحصل في العام 1960 على 22.5 في المئة! لقد بدأت هذه الطبقات العالمية الوسطى انحدارها المتسارع لتنضمّ إلى الأقلية الأكثر فقراً وتحوّلها إلى أكثرية عالمية ساحقة!
غير أنّه، في العام 1998، في حمّى صعود المحافظين البوشيين الريغانيين الجدد نحو البيت الأبيض، انكشف ما فاق جميع التوقعات، حيث أعلنت مصادر الأخبار أنّ 350 مليارديراً دولارياً عالمياً يستحوذون لوحدهم على ما يعادل حصة 45 في المئة من سكان العالم أجمع، ومن هؤلاء طبعاً آل بوش وآل تشيني وآل رامسفيلد وأمثالهم، الذين انطلقوا منذ وصولهم إلى السلطة في العام 2000 لإقامة ديكتاتورية عالمية مركزها العسكري في واشنطن ومركزها السياسي في دافوس، تحت شعارات العولمة واقتصاد السوق والليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان، أمّا وسائلهم فكانت الحروب الاستباقية ضدّ الشعوب واحتلال بلدانها وتمزيق مجتمعاتها بحجّة مكافحة الإرهاب، فقد تطلّعوا إلى عالم من آلاف الدويلات المدارة بحكم ذاتي، كما هو الحال في تيمور الشرقية وكوسوفو وغيرهما، لصالح واشنطن ومنتدى ودافوس!
عالم الاثرياء
إنّ مدلولات الأرقام والظواهر التي أشرنا إلى بعضها، وهو غيض من فيض، كفيلة بإيصال العالم إلى الأزمة العميقة والشاملة التي يعيشها اليوم، غير أنّ الكثيرين، خاصة البيروقراطيين الاقتصاديين ‘الخبراء’ الذين يعملون في خدمة دافوس وواشنطن، يصرّون على تجاهل مثل هذه الأرقام والظواهر وما ترتّب عليها، بل يحاولون أحياناً دحضها بلا أدنى وجل أو خجل! إنّهم يؤكّدون على أنّ العالم كان يمكن أن يعيش في أفضل حال لولا أنّ ‘الإرهاب’ يعكّر صفوه ويهدّد أمنه، مع أنّ هذا ‘الإرهاب’، بجميع تجلّياته المقبولة وغير المقبولة، ليس سوى ردود الأفعال الطبيعية على ما تعانيه الأمم وعلى ما حل بأوطانها من دمار شامل، وبالطبع فإنّ العالم الذي يقصدونه في أقوالهم هو عالم الأثرياء، أي عالم العشرين في المئة أو المليار الذهبي من سكان العالم، فأوضاع العالم التي تهمّهم هي أوضاع هذا الخمس أو السدس البشري، التي تكون في أفضل حال عندما ينجحون في القضاء على المقاومة الإنسانية الأممية!
إنّها لمأساة أن ينجح الصخب والضجيج في حجب الأرقام والوقائع، وفي جعل الناس عاجزين عن الربط بين المراحل والظواهر التاريخية، وعاجزين بالتالي عن رصد الأسباب الحقيقية التي جعلت أوضاع العالم تؤول إلى ما آلت إليه اليوم!
في العام 1910، على سبيل المثال، كان حجم الكتلة المالية الدولية (القطع النادر كما تسمى) في حدود 600 مليار فرنك فرنسي، وكانت أربع دول، هي بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا، تستأثر بمبلغ 479 ملياراً، والمبلغ المتبقي وهو 121 ملياراً موزّع على دول جميعها أوروبية ما عدا اليابان، وليس بينها الدولة العثمانية طبعاً، التي يصرّ بعضنا حتى اليوم على تصنيفها سبباً لكلّ داء وكلّ بلاء!
وفي العام 1919 كانت الدول الأوروبية تسيطر على مستعمرات تعادل مساحتها 72 في المئة من مساحة كوكب الأرض، ويعدّ سكانها 70 في المئة من سكان العالم! لقد كان الاحتلال الاستعماري يشمل آسيا وأفريقيا بكاملهما تقريباً!
في العام 1971 كان متوسط استهلاك الطاقة للفرد الواحد من السدس البشري الذهبي في حدود 6000كغم، أمّا الفرد من الخمسة أسداس المقهورة فكان في حدود 300كغم، أي أنّ النسبة كانت 1 إلى 20 حسب إحصاءات الأمم المتحدة، وبكلّ ما تعنيه هذه النسبة الرقمية من معيار عام للقوة والضعف العام!
تلك بعض الأرقام والوقائع التي لا يتسع المجال هنا لأكثر منها، ولكن حبّذا لو أعدّت بطريقة مبسّطة لائحة مختصرة لمراحل ووقائع وأرقام القرن الماضي على الأقلّ، تطبع وتوزّع على أوسع نطاق أممي، كي لا ينجح الصخب والضجيج والنفاق في إشغال الناس بالثانوي عن الرئيسي، وفي طمس الأسباب المحدّدة الملموسة لعذابهم وشقائهم!
كاتب سوري
القدس العربي