الأزمة المالية… نظام يتهاوى
وهيب معلوف
لقد أصبح من المستحيل، مع الأزمة المالية العالمية، تجاهل اللاعقلانية السافرة للرأسمالية المعولمة. وقد ترافق هذا الأمر مع تعبئة غير اعتيادية من قبل الايديولوجيا الحاكمة للتصدّي للتحدّيات التي قد تطال النظام القائم. الاقتصاديُّ الفرنسيُّ النيوليبراليُّ غاي سورمان على سبيل المثال، أعلن مؤخّراً أنّ “الأزمة سوف تكون قصيرة الأمد بما فيه الكفاية”. وهو بقوله هذا يلبّي المطلب الايديولوجي الأساسيّ فيما يتعلّق بالانهيار المالي: إعادة تطبيع الوضع. وإذ يعترف سورمان بأنّ السوق ممتلئ بالسلوك اللاعقلاني، يسارع مضيفاً بأنّه “من المُحال استخدام الاقتصاد السلوكي لتسويغ فرض مزيد من الضبط الدولتيّ. ففي نهاية المطاف، الدولة ليست أكثر عقلانية من الفرد، ومن الممكن أن يكون لأفعالها نتائج مدمّرة على نحو كبير”. ويمضي قائلاً: “إنّ الأفضل بين كلّ الأنظمة الاقتصادية الممكنة هو بالفعل غير كامل. ومهما تكن الحقائق التي كشفها علم الاقتصاد، فإنّ السوق الحرّة، في نهاية المطاف، ليست إلا انعكاساً للطبيعة البشرية البعيدة بدورها عن الكمال”. تتجلّى هنا وظيفة الايديولوجيا بأوضح صورها: الدفاع عن النظام القائم بوجه أيّ نقد جدّيّ، وتسويغه كتعبير مباشر عن الطبيعة البشرية. فالسعي لخلق مجتمع بديل هو وهم قاتل، ذلك أنه “لا يمكن أن نغيّر الإنسان”. و”الإنسان” يعرّفه الفكر الليبرالي ويدرك ماهيّته: حيوان يستمدّ تكوينه الأساسي من جيناته وليس من العالم الدنيوي، تحرّكه مصلحته الفردية فقط: “إنسان اقتصادي”؛ وبالتالي، ليس هنالك أمامه سوى احتمال قيام مجتمع من الملاك الخاصّين يخوضون منافسة “حرّة وغير مغلوطة”.
بالفعل، فلثلاثين سنة خلت، كان أيّ اقتراح لتعديل النظام الليبرالي – من أجل تحسين الظروف المعيشية للأشخاص العاديين على سبيل المثال – يلقى الأجوبة النمطية المعروفة مثل إنّ “كلّ هذا أصبح جزءاً من التاريخ القديم”، وأنّ “العولمة هي نظام اليوم” . ولثلاثين سنة، سار “الاصلاح” قدماً، لكن بالاتجاه المعاكس. كانت هذه الثورة المحافظة التي سلّمت أقساماً كبيرة ومربحة من الموجودات الوطنية إلى رجال الأعمال، عبر خصخصة الخدمات الاجتماعية لخلق “قيمة مضافة” للمساهمين. كانت هذه هي “اللبرلة” التي ترافقت مع خفض الأجور والضمانات الاجتماعية، الأمر الذي أجبر عشرات الملايين من الناس على الاستدانة من أجل الحفاظ على قوّتهم الشرائية، و”الاستثمار” مع السماسرة ووكلاء الضمان من أجل تغطية تكاليف التعليم، الخدمات الصحية، وفترات التقاعد.
ليس الانهيار الحالي مجرّد نكسة تقنية يمكن تصحيحها عبر “استخلاص العبر” أو “وضع حدّ للاستغلالات”، إذ أنّ النظام بأكمله قد تهاوى. والخبراء الذين يدّعون اليوم استياءهم من النتائج الهوجاء لليبرالية، هم أنفسهم الذين وفروا كل الحوافز التي ضاعفت احتمالات انفجار “الفقاعة المالية”. لا يشعر هؤلاء بمسؤولية الاعتراف بفشلهم، إذ يعرفون أنّ ثمّة سياسيين مستعدين لـ “إعادة بناء الرأسمالية”، بدءاً من غوردون براون الذي “حرّر” المصرف المركزي الانكليزي، وصولاً إلى نيكولا ساركوزي الذي منح “درعاً ضريبياً” للأغنياء وأطلق خصخصة البريد.
غير أنّ صفاقة هؤلاء تؤشّر إلى فراغ مثير للاستغراب: أين هو اليسار من كلّ هذا؟ يبدو أنّ أكثر ما يهمّ “اليسار الرسمي” هو قلب الصفحة بأكبر سرعة ممكنة على “أزمة” يتحمّل جزءا من المسؤولية في وقوعها. هذا هو اليسار الذي سار مع “اللبرلة”: الرئيس الأميركي بيل كلينتون الذي حرّر القطاع المالي، الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران الذي أنهى الأجور المربوطة بمؤشّرات التضخّم، ليونيل جوسبان الذي خصخص الخدمات العامّة، وغيرهارد شرودر الذي خفّض تعويضات البطالة.
في الحقبة الكينزية، فكّر اليمين الليبرالي بالمستحيل واستغلّ أزمة كبرى لفرضه. وقد عبّر الاقتصادي النمساوي الليبرالي فريدريش فون هايك، العرّاب الفكري للحركة التي أوصلت رونالد ريغان ومارغريت تاتشر إلى الحكم، عن هذا بقوله في العام 1949: “الدرس الأساسي الذي على الليبراليّ الحقيقيّ أن يتعلّمه من نجاح الاشتراكيين هو أنّ جرأتهم بأن يكونوا طوباويين هي التي تجعل يومياً ممكناً ما كان فقط مؤخّراً يبدو بمنتهى البعد”. لذا ثمّة اليوم من يطرح السؤال: هل يكتفي “اليسار الآخر”، في وقت كهذا، بمشاريعه الخجولة غير الطموحة، أم إنه يقوم بإخضاع مبدأ التجارة الحرّة للمساءلة، وهو مبدأ في صميم النظام الحالي؟
يعتبر الفيلسوف الماركسي سلافوي جيجاك أنّ كلّ هذا يعتمد على كيفية “الترميز” الى الأزمة المالية، على التفسير الايديولوجي أو الرواية التي سوف تفرض نفسها، وتقرّر مدى الفهم العامّ للأزمة. “فعندما تتم إعاقة المسار الطبيعي للأمور على نحو بالغ”، يكتب جيجاك، “يصبح الميدان مفتوحاً أمام التنافس “الخطابي” الايديولوجي” . ففي ألمانيا في أواخر العشرينات، ربح هتلر المنافسة لتحديد أية رواية سوف تفسّر أسباب أزمة جمهورية ويمار، والطريق للخروج منها؛ في فرنسا في العام 1940، ربحت رواية الماريشال فيليب بيتان في المسابقة لإيجاد الأسباب للهزيمة الفرنسية. وعليه يخلص جيجاك بأنّ “المهمّة الأساسية للايديولوجيا الحاكمة في الأزمة الحالية هي فرض رواية لا تلقي مسؤولية الانهيار على النظام الرأسمالي العالمي بحدّ ذاته، بل على انحرافاته – الضبط الضرائبي، فساد المؤسسات المالية الكبرى، الخ”.
الخطر إذن ، بالنسبة لجيجاك، يكمن في أنّ “الرواية المسيطرة للانهيار لن تكون تلك التي توقظنا من الحلم، بل تلك التي سوف تمكنّنا من الاستمرار بالحلم”. وهنا علينا البدء بالحذر، ليس من التداعيات الاقتصادية للانهيار فحسب، بل من الإغراء الجليّ لإعادة تنشيط “الحرب على الارهاب” والتدخل الأميركي من أجل استمرار سير الاقتصاد. ويعبّر الصحافي الفرنسي آلان غريش عن حذر مشابه في سياق حديثه عن نهاية السيطرة المطلقة التي تمتّع بها الغرب منذ النصف الأوّل من القرن التاسع عشر، وهي نهاية ظهرت مؤشراتها هذه السنة، بدءاً بالفشل في إحياء جولة الدوحة من محادثات التجارة الدولية – بعدما رفضت الهند والصين التضحية بمزارعيهما الفقراء خدمة للتجارة الحرّة – وصولاً إلى الحرب مع جورجيا والتي تحدّت فيها روسيا الاحتجاجات الأميركية، ودافعت عن مصالحها القومية في القوقاز. وقد جاء الانهيار المالي الحالي ليسهم في مزيد إضعاف هذه السيطرة. ففي ظلّ تعدّد الأقطاب، لا يتمّ تحدّي السيطرة الاقتصادية للغرب فحسب، بل أيضاً حقّ هذا الغرب في تعريف الخطأ والصواب، إرساء القانون الدولي، والتدخل في شؤون الدول الأخرى انطلاقاً من قواعد أخلاقية أو إنسانية. وإذ يمكن النظر إلى الحركة نحو عالم متعدد الأقطاب على أنّها فرصة للتقدم نحو “عالمية حقيقية”، إلا أنّها، بحسب غريش، “من الممكن أن تخلق خوفاً عميقاً لدى الغرب – بأنّ العالم يصبح أكثر خطراً، بأنّ القيم تتعرّض لهجوم من الصين، روسيا، والإسلام” – ما يشعره بضرورة القيام بحملة ضدّ “البرابرة الذين يريدون تدميره”. ويخلص الأخير إلى أنه إذا لم نكن حذرين، قد تتحوّل هذه الرؤية إلى “نبوءة تحقّق ذاتها”.
موقع الآوان