الرأسمالية وأزمتها الراهنة!
كاظم حبيب
تخضع الرأسمالية كنظام اقتصادي – اجتماعي لحركة وفعل قوانين اقتصادية موضوعية تنبثق من رحم هذا النظام وبنيته الداخلية. وتتأثر حركة هذا النظام بفعل السياسات التي تمارسها الدول والبنوك والشركات والمؤسسات والبورصات والأفراد في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وعلى الصعيد الدولي. وغالباً ما تنشأ عن تلك السياسات اختلالات في الموازنات الداخلية للنظام وللعلاقات الجدلية بين تلك القوانين الموضوعية وحركتها وفعلها.
لا شك في أن قوانين هذا النظام الموضوعية وحركتها وفعلها تجسد طبيعته الاستغلالية وتعبر عن العلاقة بين العمل ورأس المال. ولكن حين يتفاقم التجاوز حتى على تلك القوانين الاستغلالية لتحقيق المزيد والمزيد من الأرباح بطرق رسمية أو غير رسمية على حساب المجتمع والفئات المنتجة للثروة الاجتماعية ولصالح حفنة من تلك البنوك والشركات والمؤسسات والأفراد المضاربين في البورصات المالية, عندها تتفاقم وتشتد الاختلالات في حركة وفعل تلك القوانين وتبرز التناقضات على السطح, وخاصة التناقض بين الطابع الاجتماعي للقوى المنتجة والطبيعة الخاصة لعلاقات الإنتاج الرأسمالية, التي تتجلى في تعاظم الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والاستحواذ المتزايد على المزيد من رؤوس الأموال, مما يجد تعبيره في عدد من الظواهر السلبية المقترنة باستمرار بالأزمات الاقتصادية , وخاصة الأزمات العامة التي تجتاح النظام في فترات متباعدة نسبياً. وتجد تلك الاختلالات والتناقضات تعبيرها في تنامي الصراعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المجتمعات التي هي تعبير عن التفاقم الحاصل وتأكيد غياب عدالة توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي بين القوى المنتجة للثروة والقوى المالكة لوسائل الإنتاج. أي لرأس المال. وتتجلى تلك الاختلالات بالملموس في ظواهر منها الاختلال بين العرض والطلب لحساب العرض وعجز الفئات الاجتماعية المنتجة للثروة والفئات الفقيرة عن اقتناء السلع, وتنامي البطالة وبروز مزيد من حالات إفلاس المشاريع الصغيرة والكبيرة والبنوك …الخ, وتنامي عدد المشردين والجياع, كما تزداد ظواهر اجتماعية أخرى كالسكر وتجارة وتناول المخدرات والانتحار والعهر ومزيد من المشكلات العائلية وانتشار عمليات قوى الجريمة المنظمة والنهب والسلب والتزوير والفساد المالي…الخ. ولا شك في أن تعاظم دور المضاربات في السوق المالية وفي سوق العملات والبنوك والشركات العقارية وغياب الرقابة على البنوك والشركات الاحتكارية مما يزيد من قوة وزخم الأزمة والعواقب الوخيمة التي تنجم عنها على المجتمع واقتصاديات الدول, ولكن بشكل خاص على الفئات الاجتماعية الفقيرة عموماً وشعوب الدول النامية والضعيفة التطور بشكل خاص.
الأزمة الراهنة التي تعصف اليوم بالمجتمع الرأسمالي العالمي بشقيه, أي الدول الغنية والمتقدمة والدول النامية, بدأت هذه المرة, كما في المرة التي سبقتها, في أكبر مركز رأسمالي في العالم, في الولايات المتحدة الأمريكية, ثم جرت خلفها تدريجاً ولكن بسرعة ملحوظة, كل الدول المتقدمة الأخرى, ومن ثم جاءت على الدول النامية, سواء المالكة والمنتجة والمصدرة للمواد الأولية أم غيرها. والأزمة الراهنة لا تزال في منتصف الطريق ولم تصل بعد إلى عمقها الذي يفترض أن تصله بفعل سعة وشمولية وشدة هذه الأزمة التي يمكن اعتبارها إحدى أشد أزمات الرأسمالية العامة الأربعة التي مرت بها البشرية حتى هذه اللحظة, وستكون لها عواقب بعيدة المدى ولا يمكن تقدير متى تتوقف ويبدأ الخط البياني النازل بالصعود ثانية, ولكنها ستعالج على مدى طويل بفعل وجود الكثير من الأدوات التي توفرت للرأسمالية بمرحلتها الراهنة والتي لم تكن متوفرة لها من قبل, ومنها واقع العولمة التي تعيشها الرأسمالية, رغم أن سياسات العولمة واللبرالية الجديدة كانت أحد أبرز أسباب تفاقم الأزمة وانفجارها بهذه الصورة المروعة.
في الوقت الذي تجسد الأزمة العامة الراهنة تضافر فعل عوامل عدة, فهي من جانب أزمة مالية تسبب بها القطاع المالي (المصارف والشركات العقارية والبورصة والمضاربات), فإنها في الوقت نفسه امتدت لتصبح أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية, كما أنها تعتبر أزمة نظم سياسية وانهيار مصداقية السياسيين, وهي بالتالي أزمة ديمقراطية في هذا النظام, إضافة إلى كونها أزمة بيئية. وفي كل هذه الأزمات أصبح الإنسان المنتج والكادح وصاحب الدخل المحدود والمعوز في الدول الرأسمالية المتقدمة وفي الدول النامية يتحملها عواقبها وضحيتها الأولى والأخيرة.
إن الظاهرة المثيرة للقلق والتي بدأت بها الأزمة تتجلى في سياسات ودور القطاع المالي حيث فصل هذا القطاع نفسه تقريباً عن بقية القطاعات الاقتصادية وراح يمارس نشاطه المالي باستقلالية مثيرة للقلق والفوضى وبمستويات غير معروفة سابقاً, وأصبحت جوانب الحياة كلها ضمن عملية الرسملة الفعلية في اقتصاد معولم, وهي مرتبطة عضوياً ونتيجة منطقية لسياسات اللبرالية الجديدة وموقفها المتعدد الجوانب من الحياة الاقتصادية المحلية والدولية وجوانب أخرى بما في ذلك نشاط المؤسسات المالية والبورصات والمضاربات بالأسواق المالية وعمليات إبعاد الدولة عن أي دور اقتصادي أو رقابي ..الخ. وقاد هذا الوضع بدوره إلى بروز عواقب وخيمة على مجمل الحياة الاقتصادية, خاصة في غياب أي دور فعلي من جانب الدولة في الحياة الاقتصادية وتراجع شديد في رقابة الدولة على العمليات المالية في البنوك والبورصات وشركات التأمين, التي راحت تؤمن على عمليات مالية وعقارية ذات مخاطر كبيرة دون أن تكون لها قاعدة اقتصادية إنتاجية أو خدمية فعلية يمكن الاعتماد عليها في مثل هذه المعاملات التي هي في واقع الحال وهمية وتعرف بذات المخاطر الكبيرة أو المسجلة على الورق لا غير, إضافة إلى تراجع شديد وجدي في دور المجتمع والنقابات ومنظمات المجتمع المدني في هذا الصدد.
وتبدو المظاهر الصارخة للأزمة في السياسات التي أوجدت اختلالات صارخة في دور ووظائف النقود الخمسة المعروفة عالمياً وفي دور أجهزة إدارة المؤسسات والشركات والبنوك في حرية التصرف بالأموال المتراكمة لديها أو الأموال المسجلة لديها ورقياً لا غير بأساليب غير اقتصادية وغير عقلانية ومحفوفة بمخاطر جمة ودون رقابة, إضافة إلى دفع رواتب ومكافئات وتعويضات للموظفين والمستشارين والخبراء وصرف أرباح غير معقولة من الأموال المتراكمة لديها أو المسجلة على الورق, وعجز الشركات المنتجة عن تسويق سلعها بما يتناسب وكميات الإنتاج بسبب سوء توزيع الدخل مما خلق فائض في الإنتاج من جهة, وعجز في الطلب عليها أو نقص النقود والقدرة الشرائية لدى النسبة الكبرى من المستهلكين من جهة أخرى, مما أدي إلى تراجع أو توقف الإنتاج أو إغلاق مشاريع وتسريح المزيد من الأيدي العاملة التي تنتقل إلى صفوف جيش العاطلين المتعاظم.
نحن أمام أزمة عامة ذات مظاهر تقليدية وأخرى جديدة مقترنة بطبيعة مرحلة العولمة الرأسمالية, وهي ستستمر طويلاً نسبياً وسيطول أمد معالجتها, خاصة وأن هذه المجتمعات غير قادرة على ممارسة التغيير العميق فيها, رغم الرغبة الجارفة في التغيير الذي تجلى في انتخاب أوباما في الولايات المتحدة الأمريكية وتحت شعار “التغيير” , ولكن وفق أسس لا تساعد على تغير جوهر النظام السائد.
تستخدم اليوم وفي نظام رأسمالي معولم إمكانيات جديدة مهمة لمواجهة تداعيات الأزمة, وخاصة عمليات الإفلاس وإغلاق المصانع والشركات وفقدان دور السكن والبطالة …الخ, من خلال عدة إجراءات لم يتجلى مفعولها المباشر والسريع حتى الآن, وهي:
1. تدخل الدولة في معالجة الأزمة في كل بلد على انفراد, مع محاولة تنسيق لم تتحقق حتى الآن حتى بين دول الاتحاد الأوروبي. وفي هذا الصدد هناك صراع عن مدى أهمية وضرورة تدخل الدولة في هذا الصدد.
2 . دخول الدولة كمشتر للأسهم في الشركات الخاسرة أو مشتر للأوراق المالية المحروقة عملياً أو ذات المخاطر العالية أو كمسلف مزبد من القروض للبنوك والشركات لمنع الانهيارات وإعلان إفلاس البنوك وشركات إنتاج السيارات وغيرها. وبالتالي تصبح الدولة مالكة لحصة فيها.
3 . تسليم البنوك قروض مالية لتأمين التسليف لغرض تحريك النشاط الاقتصادي وتأمين التشغيل من خلال توفير فرص عمل جديدة أو منع حصول مزيد من البطالة.
4 . الاستثمار في مشاريع بنية تحتية بهدف التشغيل على طريقة مشروع روزفلت لمكافحة البطالة خلال الأزمة العامة 1929-1932.
5 . دراسة وضع أسس جديدة لتأمين الرقابة المالية على نشاط البنوك والشركات العقارية والتجارية والبورصات, ومنها منح القروض والفوائد التي تترتب عليها.
6 . وضع ضوابط جديدة تحدد السقف الأعلى للرواتب والمكافئات والتعويضات ومستوى الأرباح والفوائد.
7 . محاولة تنشيط أصحاب رؤوس الأموال للمشاركة في شراء سندات وأسهم ذات مخاطر كبيرة بالتعاون مع الحكومات. وهو الإجراء الأخير الذي اتخذه وزير المالية الأمريكي ورصد لذلك مبلغاً قدره بليون دولار أمريكي.
8 . تخصيص مبلغ مالي لمساعدة من يستبدل عربته التي زاد عمرها عن تسع سنوات عبر سكربتها وشراء سيارة جديدة, كما حصل في ألمانيا لمساعدة منتجي وتجار السيارات لبيع المتراكم منها, كما يجري الآن في ألمانيا.
إن هذه الإجراءات تسير بالاتجاه الصائب عموماً لتخفيف الأزمة وتقلص أعبائها, ولكنها غير كافية لمعالجة أبعاد المشكلة أو تجاوزها بسرعة.
إن الأهداف الفعلية لهذه الإجراءات تتلخص في ثلاثة, وهي:
1. عملية إنقاذ البنوك والمؤسسات الاقتصادية والشركات الكبرى من الانهيار والإفلاس والإغلاق.
2. توفير سيولة نقدية لدى فئات اجتماعية لا تمتلكها حالياً لاقتناء السلع, أي رفع القوة الشرائية للمستهلك, بما يساعد على مواصلة الإنتاج.
3. توفير فرص عمل جديدة والحد من البطالة المتفاقمة.
لا شك في أن هذه الأموال الحكومية هي من دافعي الضرائب في كل من هذه الدول, وهو إرهاق جديد على الناس وميزانية الحكومة ليس للأجيال الحالية فحسب, بل وللأجيال القادمة أيضاً.
إن دخول الصين ودول أوربا الشرقية وروسيا ضمن العالم الرأسمالي قد وسع من قاعدة الرأسمالية ومنحها قوى جديدة وتأثير جديد وقاعدة اجتماعية جديدة, ولكن حصول هذه الأزمة الشاملة والعميقة سيهز من جديد قناعات نسبة كبيرة من سكان المعمورة بالرأسمالية وبأدواتها لمعالجة الأزمة وبالقدرة على مواجهة عواقبها. وهي نتائج طبيعية ومنطقية للمعاناة التي تجلبها الأزمة للغالبية العظمى من البشر. ولكن الرأسمالية قادرة, رغم ذلك, وفي هذه المرحلة, على الخروج من الأزمة, وإن كان بأمد طويل نسبياً وربما تحتاج إلى تغيرات بنيوية في بعض أو الكثير من الفروع والقطاعات الاقتصادية, وخاصة في المجال المالي والنقدي, إذ أن البديل للرأسمالية غير ناضج وقوى البديل غير قادرة على التبديل.
يصعب تقدير ثلاث مسائل حالياً:
• متى تصل الأزمة إلى نهاياتها ومتى تنتهي ويبدأ الاقتصاد العالمي بالانتعاش.
• ما هي الإجراءات الفعلية التي يمكنها إيقاف تداعيات الحملة وتقليص عواقبها, إذ أن التباين في وجهات النظر كبير جداً, خاصة وأن أتباع اللبرالية الجديدة ما زالوا يصارعون ضد الاتجاهات الجديدة الرافضة للبرالية الجديدة واعتبارها فشلت وهي السبب وراء الأزمة الراهنة.
• كيف يمكن تقليص أعباء الأزمة عن الفئات المنتجة والكادحة وذات الدخل المحدود والدول النامية, وخاصة غير المالكة للمواد الأولية الإستراتيجية كالنفط الخام, رغم معاناة الدول المنتجة والمصدرة للنفط من الانخفاض الشديد بأسعار البرميل الواحد بعد ارتفاعه غير الطبيعي وغير المعقول خلال العام 2008 بشكل خاص.
25/3/2009 كاظم حبيب
الحوار المتمدن