صفحات الحوار

الشاعر السوري أحمد تيناوي: اعيش اللحظة الشعرية رغم يقيني بموت الشعر!

null
أنور بدر
دمشق – ‘القدس العربي’ أغلب الشعراء ينظّرون للشعر وقلائل من يعيشون اللحظة الشعرية، أكثر من ذلك أن يقتنع الشاعر بموت الشعر ومع ذلك هو ما زال يكتب بعفوية طفل يكتشف الأسئلة الأولى للعشق ويكتشف ذاته في خضم هذه الحياة، وأحمد تيناوي شخص يبوح في عشقه وشعره كما في حياته، يفكر بصوت عالٍ مع محاوره، ويسير بنا إلى منطقة تنوس بين الشعور والتفكير لكننا نكتشف في المحصلة أنها تشكل نوعا من القناعة العقلية، بغض النظر اتفق معها الآخرون أم اختلفوا. لأن الحركة النقدية في مجتمعاتنا ما زالت عاجزة عن مواكبة النشاط الإبداعي.
وأعتقد أن الكثير مما يقوله أحمد تيناوي يشكل غواية للحوار وربما للاتفاق أو للاختلاف أيضا:
أين تكمن البدايات وغواية الشعر؟
يحيلني سؤالك إلى إجابة كلاسيكية ونمطية، بمعنى ما أنت لا تختار الشعر، بل هو يختارك، تكتشف في لحظة ما أنك مختلف عن أصدقاء الحارة، إذ تنشد إلى مجلة أو كتاب، بينما تراهم يتابعون حياة طفولية معتادة.
من تلك اللحظة أستطيع الآن أن أقول بوعي آخر، أن علاقتي مع الشعر، مع الكلمة، مع الكتابة كانت مرهونة بشيء لا أستطيع تحديده، كانت مرهونة بمنطق ‘هكذا ولدت… وهكذا ولدت هذه العلاقة’.
وماذا عن القراءات الأولى، العلاقة مع الكتاب والكلمة؟
في الحقيقة تدرجت بمنطق القراءة كأي طفل عادي، بدأت بمجلات الأطفال المصورة، ثم قرأت بعض الكتب والقصص التي تناسب عمري، وفي المراهقة قرأت الروايات الرومانسية، لكن هذه القراءات كلها لم تشكل أي انعطاف في حياتي على صعيد العلاقة بالكلمة بقدر ما شكلت إرضاءً طفولياً لنهمي.
هناك كتابان شكلا منعطفاً في حياتي، الأول كان لصدقي إسماعيل وربما لم أعد أتذكره الآن، والثاني كان ديوان ‘للريل وحمد’ للشاعر العراقي مظفر النواب. هذان الكتابان شكلا بداية علاقة جديدة، ومعها بدأت أفترق عن محيطي الأول، بدأت تتبع رحلة أخرى أو مرحلة اقتفاء أثر من نوع آخر لنفسي وللكلمة، فكان الكتاب الثالث ‘أسس علم الجمال الماركسي اللينيني’ ولا زلت لا أعرف لماذا قرأته، ولكنه كان دلالة على مساحة أخرى، على تفصيل آخر.
في هذه المرحلة بدأت أخرج من محيط الحارة ‘حارة النقّاشات في دمشق القديمة’ بدأت أخرج من أصدقاء الحارة إلى دمشق، دمشق المختلفة تماماً عن تلك المدينة التي كنت أدخلها طفلاً.
بدأت أتلمس أن هناك مكتبات رصيف، وهناك كتاب غير إحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ وتشارلز ديكنز وإميل زولا، يمكن أن نسمي هذه اللحظة بلحظة انطلاق الوعي النقدي باتجاه نص آخر، وصدقني اكتشفت ذلك لوحدي، لأنني من أسرة دمشقية لا تُعنى بالقراءة، ولا يهمها الكتاب، لذلك دللتُ نفسي بنفسي إلى نفسي.
ولماذا اخترت قصيدة النثر؟
مثل أي مراهق يكتب شعراً، كانت القافية تعني إيقاعاً يمكن أن يقنع أي حبيبة، لكني اكتشفت فيما بعد أن الإيقاع هو الشيء الوحيد الذي لا يجعلني عاشقاً من النوع الممتاز. لأن الحب قبل أن يكون علاقة هو مخيلة، وأنا أتعامل مع حبيبتي كما أتخيلها، وشعرية القصيدة هي أيضاً وقبل كل شيء مخيلة.
لنقل أن النص المفتوح، بغض النظر عن التفسيرات والتنظيرات الأدبية والنقدية الرائجة، ومن ضمنه قصيدة النثر، هو ملجأ آمن لمخيلة أكثر اتساعاً. فأنا لا أريد أن انتهي بكلمة واحدة، ولا أريد أن أنهي مشاعري بحرف واحد، فكانت قصيدة النثر هي الأقرب إلي. أنا أرى أنها مركز الكون.
يرى البعض أن الشعر فقد وظيفته الخطابية أو المنبرية، وبالتالي فقد جمهوره؟
دعني أُحيل المسألة إلى مساحة أخرى، أنا اعتقد أن في سؤالك موضوعاً خطيراً، من قال أن الشعر يجب أن يكون جماهيرياً؟ ولماذا يجب أن يكون كذلك؟ لماذا ينمو هاجس عند كتاب الشعر بأن يصلوا إلى الجمهور؟
أنا اعتقد أن الشعر منذ بداياته ليس له جمهور بالمفهوم الجديد للحشد، تم لصق جمهور المسرح والسينما والفرجة بالشعر لصقاً، وهذا ليس حقيقياً، ففي الزمن الذي كانت فيه وسائل الاتصال شبه معدومة أو قليلة، كانت الركائز الاجتماعية تتبنى منظور الشعر كوسيلة اتصال وإعلان، وفُهمَ أن هذه الوسيلة تصلح لكل زمان ومكان.
دائماً وأبداً كان الشعر نخبوياً، وعندما يتحول الشعر إلى جماهيري تحت أية ذريعة أو صيغة لهذا الجمهور، يصبح الشعر، مجرد كلام لا أكثر. الجمهور لا يريد الشعر، بل يريد الكلام.
في زمن تضيق فيه مساحة الشعر,يسعى شعراء العالم للتواصل عبر الانترنيت، واكتشاف فضاءات ومساحات جديدة لهم، لكن الشاعر السوري مظلوم مع تقنيات الاتصال؟
عن ظلم الشاعر السوري في لحظة القطيعة مع وسائل الاتصال التي ذكرت، فأنت تتحدث عن الشهرة، والشاعر الذي يبحث عن الشهرة ليس بشاعر، وأرغب بإضافة نقطة مهمة، إذ أرى أن وسائل الاتصال بدلت سيكولوجية الاتصال والتلقي، فالكلام لم يعد يوضع في مرتبة وسيلة الاتصال الأمثل، فما بالك بالشعر؟ اعتقد أن علينا أن ننحني لما قدمه الشعراء في زمن ما احتراماً ونقول لهم: لقد مضى زمنكم إلى غير رجعة.
هل نصل إلى الاعتراف بموت الشعر؟
الشعر هو في أحد وجوهه تعبير جمالي، والمنظومة الجمالية الكونية كلها قد تغيرت، وبالتالي الوظيفة الكلاسيكية لهذه المنظومة المسماة شعراً لم تعد تصلح للتعبير عن الحس الجمالي السائد.
لذلك أصبح على الشاعر أن يكتفي بتأسيس جمالية خاصة فيه، تجسّر العلاقة بمن يرتبط معهم في الذائقة الجمالية وفي الحس الأدبي، لأنك تستطيع أن ترى الآن كماً هائلاً من الذوائق الفنية والأدبية التي ترتبط بالشعر، ولكنها ما زالت تتصارع على استحقاق الوجود.
أنا اكتب الشعر، والآخر عضو في اتحاد الكتاب ويكتب الشعر. كلانا نستخدم نفس اللغة وذات الوسائل في التعبير، لكننا نختلف في الحوامل الجمالية والأدبية والأدائية أو الوظيفية، كلانا نفشل، أما عن موت الشعر فأعتقد يا صديقي جازماً أن الشعر قد مات حقاً.
قد تقول لي لماذا؟
سأقول لك هل يصلح التعبير شعراً عن تلك التناقضات الشعورية التي نعيشها اليوم؟ صدقني الشعر هو أردأ وسيلة للتعبير عن فوضى المشاعر التي نعيشها.
لكن الشعراء ما زالوا يكتبون الشعر، والقصائد ما زالت تتناسل؟
عندما قرأت حكاية ‘علي بابا والأربعين حرامي’ اكتشفت أن علي بابا شخص ذكي، وذكاؤه في الحقيقة يكمن فيما ينطق، في تلك الكلمة التي تفتح الجبل وتستحضر المارد.
واعتقد أن علي بابا جاء إثر منظومة دينية فكرية معجزتها القرآن الكريم، وفي القرآن هنالك آية تقول ‘رُفعت الأقلام وجفت الصحف’، ما أريد أن أقوله في هذا الصدد أن اللغة كانت سحراً وأن من البيان لسحر عظيم.
عندما تحولت أو تبدلت منظومة الكلام بمنظومة أخرى هي الصورة لم يعد المشهد واضحاً، ولم يعد أجمل الشعر أكذبه، بل أصبح كل الشعر ‘كلام فاضي’.
مع ذلك نكتشف في الشعر المعاصر بوادر حساسية جديدة تبتعد عن القضايا الكبرى باتجاه إعادة اكتشاف الذات مجدداً؟
القضايا الكبرى وبشكل تقريري قاطع انتهت كسياق أدبي، الأسئلة الكبرى لم تجد إجابة لها ولا اعتقد أننا سنجد إجابة، لأنها إحدى احجيات الحياة، لذلك التفت هذا الكائن البشري إلى ذاته حين اكتشف أنه هو القضية الكبرى والوحيدة التي يجب أن يجد لها حلاً.
هل تقول لي أنك لم تحب؟ هل تعتقد أن من يكتب عن حبيبته شعراً لا يحب وطنه؟ هل تؤمن أن من يقول آه لأنه احترق من الحب لن يقول آه لأنه احترق من أشياء كثيرة أحبها؟ إنها أنا الشعر المحرضة التي تريد أن تعيد إنتاج العالم من خلال ما تراه هي، من خلال ما تفكر به هي لأنها أنا متعالية لا تريد أن تدل أحداً إلى طريق ما، تريد أن تجد طريقها بنفسها، وإذا وجدت أنا الشاعر هذا الطريق فإن الآخرين سيجدون طريقهم أيضاً.
في ديوانك الأخير ‘أندلوثيا’ الكثير من الرومانسية، لكنها لا تذهب باتجاه الخيال قدر ما تقترب من تفاصيل الحياة والأشياء؟
أريد أن أقول لك شيئاً، بعد ديواني الأول ‘رماد’ الصادر عام 1984، كان عمري حينها 23 سنة أحببت فتاة، جلست أوّقع لها إهداءً، ثم أعطيتها الكتاب، فغادرتني ولم تعد، وحين رأيتها بعد فترة سألتها لماذا انصرفت؟
قالت لي:عندما أهديتني كتابك لم تقبلني، فشعرت أنك لا ترغب بي.
حقيقة أنا كنت أرغب بتقبيلها، لكنني كنت أحبها برومانسية ساذجة، بعد سنوات طويلة أحببت ‘لوثيا’ وكنت لا أريد أن أكرر أخطائي، فاستعدت في قصيدة طويلة معها كل تفاصيل رومانسيتي تلك، لكنني يا صديقي أضفت إليها وبكل جرأة تلك القبلة التي نسيتها يوماً ما.
لماذا يتخلف النقد في مجتمعاتنا عن حركة الإبداع؟
فيما يخص النقد أنا اعتبره موهبة تماماً مثله مثل الشعر والقصة أو الرواية، فإذا اعتبرنا النقد هو رد فعل على منتج إبداعي، فعلى هذا الرد أن يكون بدوره منتجا إبداعيا آخر، لكن ما يحصل أن الأدب والإبداع في وادٍ، والنقد في وادٍ آخر. الأكاديميون لم يعترفوا بعد بقصيدة النثر، فكيف سيقتربون نقدياً من شيء لم يعترفوا به حتى الآن؟ قصيدة النثر في الدراسات الأكاديمية والأطروحات النقدية الرائجة لم تحصل على شهادة ميلاد وهوية شرعية، وكثيرون لم يعترفوا بشرعيتها أو شعريتها أيضاً!
المسألة الثانية أن القطيعة بين المنتج الإبداعي والنقد الموازي تتأسس على افتقاد أدوات نقدية خاصة بنا، فنحن نعيد ما أنتجه الغرب من فلسفة وفكر ومدارس نقدية مختلفة. والمشكلة أننا انتقائيون بتعاملنا مع ما ينتجه الغرب، ففي الغرب شكلت الجامعة حراكا في المشهد الإبداعي، وما زالت تساهم في هذا الحراك، لكن الجامعة عندنا معزولة عن الحراك الثقافي اليومي، وما زالت بعض مناهجنا تدرّس الأدب حتى فترة الستينات ولم تتعد هذه المرحلة.
لذلك تبدو المشكلة أعقد بكثير من وجود نقد أو عدم وجود نقد مواكب للحركة الإبداعية.
يعتبر البعض أحمد تيناوي شاعراً مُقلاً في نتاجه الشعري؟
البعض يتحدث عن الشعر بوصفه قصيدة، وأنا أراه غير ذلك، فالشاعر ليس من يكتب الشعر، الشاعر هو من يعيش الحياة شعراً، وما أعنيه بالضبط هو أني لا أكتب الشعر لفترات طويلة، لكني ما زلت أعيش الحياة شعراً، ولا تختلف كثيراً علاقتي بالورقة عن علاقتي بالحياة.
لا أريد أن أكون مخطئاً أو مصيباً، أنا أعيش حياتي وكفى، مرة أعبر عن مشاعري تجاهك بقصيدة ومرة أقبل رأسك، وفي كلا الحالتين سيكون أحمد شاعراً.
لا تنظر إلى المسألة من معيار الكم والكيلو، دعنا ننظر من معيار الكيفية التي نعبر فيها عن مشاعرنا.
أنا طفل سواء أحبني البعض أو كرهني الآخرون، والشعر هو طفولة الإنسان، إذا تخلى الإنسان عن طفولته لن يعود شاعراً. وكل ما أتصرف به وأعيشه الآن إنما يتم بعقلية الطفل، أبكي عندما تستدعي الحالة بكاءً، وأضحك إن لزم الموقف ضحكاً، أحزن وأفرح لكنني أنام دون أن أفكر بأي شيء، أنام كطفل صغير.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى