الأزمة المالية ما بعد الحداثية
أندريه غلوكسمان
الأزمات المالية الكبرى على غرار تلك التي نشهدها الآن لا تحصل من العدم وفي أي وقت، فهي حافلة بالتاريخ. إنها أزمات روح الرأسمالية.
عندما أشار [عالم الاجتماع الألماني] ماكس فيبر إلى أن الكالفينية هي مصدر الحداثة، أخطأ في التركيز حصراً على الأخلاقيات البروتستانتية، إلا أنه كان محقاً في الكشف عن التزام أخلاقي جماعي يقف وراء آليات السوق. لكن خلال حرب 1914-1918، حلّت البورجوازية المذعورة والمبذِّرة مكان البورجوازية الحذرة والمقتصدة. لاحظ [عالم الاقتصاد البريطاني] جون ماينارد كينز عام 1920 أنه “كشفت الحرب إمكان الاستهلاك للجميع وعقم التقشف لكثر. ربما لم تعد الطبقات العاملة مستعدة للإحجام عن الإنفاق إلى هذا الحد، وربما تسعى الطبقات الرأسمالية التي لم تعد تثق بالمستقبل إلى الاستمتاع بصورة أكمل بحرياتها الاستهلاكية ما دامت تتمتّع بها”. لاحقاً أدّى صعود التوتاليتاريات السوداء والحمراء إلى ظهور بورجوازية مدركة لمحدوديتها. وعلى غرار البرنامج الجديد (New Deal) [الذي أطلقه الرئيس روزفلت]، جاءت الفكرة الأوروبية عن اقتصاد سوق منظّم اجتماعياً رداً على التهديد بانقراض الحريات الأساسية الذي كان يشكّله هتلر وستالين.
ثم مع انهيار الشيوعية، حصل تطوّر رابع: البورجوازية التي تقرن القول بالفعل. سقط جدار برلين – فليعش العالم الجديد المتصالح! خلّفت الأخلاقيات الجديدة كل المخاوف وأشكال العتب وراءها وتبنّت عقيدة ما بعد حديثة تزعم بأن كل الشياطين قد ماتت. لطالما أضفى اقتصاد السوق طابعاً نسبياً على السلع عبر الكشف عن قابليتها للاستبدال، وعلى الخير عبر قبول تعدّديته. غير أن عصرنا هو الوحيد الذي يعلن عن القدرة على خفض الخطر إلى صفر عبر نشره بكل بساطة. إنها السيطرة المتفائلة لـ”التفكير الإيجابي” – مع عواقب كارثية في نهاية المطاف.
ليس السبب وراء الأزمة الحالية تقنية مالية خاطئة قد نعد بالسيطرة عليها من الآن فصاعداً بقدر ما هو الحالة الذهنية العامة التي سمحت باستعمال هذه التقنية بطريقة غير مضبوطة. كان يجب أن نتذكّر أن الرأسمالية تقوم في الوقت نفسه على التنظيم الحذر والانتهاك غير الحذر للقواعد القديمة، وكذلك على تقاسم المخاطر والجرأة على المجازفة بنجاح أكبر من الآخرين. ليس التقدّم الاقتصادي سلمياً، بل يتناوب دائماً بين الخلق والتدمير، حيث تُترَك القوى الإنتاجية القديمة في الخلف وتنفجر مصادر جديدة للثروات. لكن بعد نهاية الحرب الباردة، بدا أن الوعد بعالم ينعم بالسلام يبشّر بنعمة تاريخ ما بعد حديث من دون تحديات ونزاعات ومآسٍ، تاريخ حيث يمكنك أن تنجو بفعلتك أياً تكن. نحصد الآن تداعيات الإفراط في الثقة، ونعاني من غياب أنبياء السوء.
ارتكزت فقاعة المضاربات على رهان كان بمثابة أساس لها. كانت “إنجازية” بحسب تعبير الفيلسوف اللغوي جون أوستن. “افتُتِحت الجلسة”، هذا ما يقوله الرئيس في مستهل الاجتماع. وهو صحيح لأنه يقوله: هنا ترتكز الحقيقة على الكلام، في حين أنه في الحالات العادية يرتكز الكلام على الحقيقة – أي إنه ليس إنجازياً بل دلالي. وبالطريقة عينها، أمعنت الأزمة المالية التي راكمت الائتمان فوق الائتمان، في توكيد الذات. وانحصرت في علاقتها بذاتها، مما حوّلها فقاعة. وقد ألغت تدريجاً مبدأ الحقيقة: لم تكن هناك أهمية لشيء سوى المنتجات المالية التي تخترعها استثمارات الأشخاص.
لم تحرّك هوامة القدرة الكلية المتداولين بالبورصة وحسب إنما أيضاً من تركوهم يتصرّفون على هواهم؛ فهي لم تحرّك فقط رؤساء المؤسسات المالية إنما أيضاً السلطات السياسية والأكاديمية والإعلامية التي لم ترَ أي مشكلة في ما كان يجري. بالفعل، تحكّمت الإيديولوجيا الإنجازية – “هذا صحيح لأننا نقول بأنه كذلك” – بغربنة الكرة الأرضية منذ نهاية الحرب الباردة: بما أن معسكر العدو تفكّك، أصبح المستقبل ملكاً لنا، واختفت كل الأخطار الأساسية.
يقيم ما بعد الحداثة الذي يضع نفسه “فوق الخير والشر”، فوق الصح والخطأ، في فقاعة كونية. لو سمح لنا الخوف من أزمة كونية بتنفيس الفقاعة الذهنية لما بعد الحداثة – لو أزال نشوة أمنياتنا العقيمة وحملنا على الرؤية بصورة قويمة من جديد – لكان ذلك جيداً. قد لا يكون هذا أكثر من مجرد أمنية عقيمة أخرى. لكن يجب ألا نستسلم لحساسية كارثية، كما فعل كثر في عشرينات القرن الماضي. أجل، التاريخ مأسوي، كما كان [شاعرا التراجيديا عند الإغريق] أسخيلوس وسوفوكليس يعلمان. وأجل، التاريخ غبي بقدر ما هو مبيَّن في أعمال [الشاعر والمسرحي الهزلي الإغريقي] أرسطوفانس أو [الشاعر والمسرحي التراجيدي الإغريقي] يوريبيدس. لا تستطيع ضربة نرد أو تدخّل إلهي أو علوم مالية منقّحة بواسطة الرياضيات أن تلغي الحظ أو الفساد أو المحنة. لا تستطيع العناية الإلهية للبورصة أن تنقذنا، شأنها في ذلك شأن العناية الإلهية للدولة. فلتوضَع هذه الجملة لأفلاطون عند مدخل الاجتماعات المقبلة لمجموعة العشرين: “أليست هناك قطعة نقدية موثوقة يجب أن يتم صرف كل الأشياء مقابلها؟ – إنها الحكمة”.
“سيتي جورنال” (الانترنت)
ترجمة نسرين ناضر
(فيلسوف فرنسي)
النهار