نهاية علم الاقتصاد
د. عبدالله السيد ولد أباه
كتب المحلل الاقتصادي البريطاني الشهير «اناتول كاتستكي» في العدد الأخير من مجلة «بروسبكت» مقالا مهما بعنوان:«وداعا رجل الاقتصاد» ذهب فيه إلى أن الضحية الأكبر في الأزمة المالية العالمية الراهنة، هو عالم الاقتصاد الذي ظهر عاجزا عن التنبؤ بالانهيار المريع الذي هز العالم. والغريب أنه بدلا من أن تتجه الاتهامات واللعنات إلى الخبير الاقتصادي، اتجهت إلى المصرفي والسمسار والسياسي، على الرغم من أن الخطأ كله يتحمله هذا العالم الذي طالما أوهم الناس أن بمقدوره ضبط شؤون المال والتجارة بأدوات العلم التجريبي الدقيق. فلقد ثبت من تداعيات الأزمة العالمية أن الاقتصاد ليس في الواقع علما، ولا يفيد في التوقع والاستشراف، وليس له حلول إجرائية ناجعة للتغلب على مصاعب ومآزق النمو الاقتصادي.
ويتساءل كاتسكي كم من الاقتصاديين الكبار تنبؤوا بالأزمات الكبرى التي عرفها العالم خلال السبعين سنة الأخيرة؟ ويرد بالرجوع إلى دراسة لصندوق النقد الدولي بينت انه من بين 72 أزمة اقتصادية كبرى عرفتها 63 دولة في العالم، لم يتنبأ كبار الاقتصاديين الجامعيين إلا بأربع منها. فالاقتصاد العالمي أصبح شديد التعقيد وشديد الحساسية للصدمات العشوائية، بحيث لا معنى لإخضاعه للحساب التقديري الدقيق.
فعلم الاقتصاد مفيد وناجع في الوصف والتفسير، لكنه محدود الأهمية في التوقع والاستكناه والاستشراف. فآدم سميث وريكاردو مثلا نجحا في تفسير نمط اشتغال اقتصاد السوق، وكشفا عن آلياته. كما أن اقتصاديين آخرين من نوع فريدمان ووالتر باغوت وماركس(على طريقته الخاصة) كشفوا عن اختلالاته وسلبياته، وبالتالي بلوروا مسالك إصلاح هذه الاختلالات ووضعوا العلاجات التحسينية لأمراض الرأسمالية المزمنة.
وإذا كان كثير من كبار علماء الاقتصاد الحاليين يعتبرون أنفسهم ورثة هذا الجيل المؤسس، إلا أن الحقيقة التي لا مراء فيها أنهم نادرا ما قدموا نظريات لها قيمة في تسديد سير الرأسمالية العالمية، ولم يتنبهوا حتى لنذر الأزمة الحالية. ويصدق هذا الحكم على الجامعيين الكبار وحملة جائزة نوبل، وإن كان الجمهور لا يحملهم هذا الوزر.
ويشهد لكلام كاتستكي أن المفكرين الاقتصاديين الذين حللوا الأزمة الغذائية –النفطية التي هزت العالم في السنة المنصرمة ذهبوا في مجملهم إلى أن
لا علاقة لها بحركة السيولة المالية التي هي دعامة الرأسمالية المعولمة، ولم ينتبه إلا القليل منهم إلى دور المضاربة على السلع في الأزمة المذكورة التي كانت نذيرا خطيرا للانهيار المصرفي المريع الذي شكل السمة الغالبة على المأزق الراهن.
صحيح أن الأزمة ذاتها قد ضربت بقوة الحزام الآسيوي في منتصف التسعينيات، إلا أنها اعتبرت أوانها محدودة بنطاق النمور الآسيوية التي بنت نهضتها التنموية على جلب وتداول الرساميل المتنقلة دون قاعدة اقتصادية مكينة. وإلى هذا الرأي ذهب نجم المضاربة المالية جورجيو سروس في كتاب مشهور صدر في نهاية التسعينيات.
وقد عاد سروس مؤخرا إلى حلبة التحليل الاقتصادي بعد الأزمة الأخيرة في كتاب نشر على نطاق واسع، كرر فيه أطروحته حول «دكتاتورية الأسواق» وضرورة وضع آليات التسيير الضرورية للنسق المالي. بيد أن فكرة تنظيم الأسواق المالية التي يبدو أنها أصبحت نقطة إجماع لدى الساسة والمفكرين الاقتصاديين تعيد الحوار مجددا إلى إشكالية التوازن التلقائي والتخطيط الموجه التي هيمنت على الحقل الإيديولوجي طيلة القرنين المنصرمين. ومن الواضح اليوم أن النقاش يأخذ مسالك ثلاثة متباينة:
ـ رأسمالية الدولة التي اعتمدتها التجربة الصينية، بما حققته من معجزة نمو خارق في العشرين سنة الأخيرة. وإذا كانت الصين قد تعرضت للهزة الأخيرة، إلا ان اقتصادها استعاد نسبيا حيويته ومن المؤمل أن يحافظ على نسبة نمو مقبولة هذه السنة.
-الاشتراكيات اللاتينية الأميركية الجديدة التي تجمع في خطابها الإيديولوجي بين النغمة اليسارية التقليدية وأدبيات تيار العولمة البديلة الذي برز في السنوات الأخيرة ردة فعل ناقمة على حركية توسع وتوحد الاقتصاد الرأسمالي وتحرير التجارة الدولية.
– نزعة التدخل النشط والفوري بتأميم المصارف والمؤسسات المالية والصناعية الكبيرة لإنقاذ القطاع الخاص المتهاوي والحيلولة دون استفحال الكساد والبطالة، في ما يشبه اعتماد الدولة الرأسمالية لإحدى الآليات الرئيسة في النظام الاشتراكي المخطط (آلية التأميم). انه المسلك الذي اتبعه الرئيسان بوش في أميركا وبرلسكوني في ايطاليا.
وسيكون مؤتمر مجموعة العشرين الذي سيلتئم هذه الأيام في لندن فضاء للتحاور حول هذه المسالك التي تطرح إشكالات ايديولوجية أكثر مما تطرح إشكالات التدبير التقني الأثيرة لدى الخبراء والعلماء الاقتصاديين.
وحاصل الأمر أن علماء الاقتصاد يقفون اليوم عاجزين عن التعامل مع الأزمة المالية العاتية التي هزت العالم.. فلا هم تنبؤوا بها ولا هم يمتلكون مفاتيح حلها.
كاتب من موريتانيا