بمناسبة القمم المتوالية في أوروبا: من ينقذ العالم؟
نهلة الشهال
… ولكن، هل يتعلق الأمر بإنقاذ العالم أم بإنقاذ نظام اقتصادي معين وقع فريسة مرضه، ولم يتمكن من هضم كل ما في أحشائه من بشاعات؟ يقلب بعضهم شفاهه غيظاً أمام هذه التساؤلات الساذجة أو المغرضة. فالموضوعان متطابقان: العالم والنظام الاقتصادي شيء واحد! أليس كذلك؟ صحيح أنه النظام المهيمن منذ ثلاثة قرون! وصحيح أن كيانات صاعدة وبالغة القوة، كالصين، لا تحلم إلا بالالتحاق به، ولم تفعل سوى ذلك. إنما هل يمنحه ذلك «شرعية» مطلقة وأبدية، بحيث يمتنع على الناس تخيل زواله؟ قد لا يزول. ليس اليوم! وقد يزول كما زالت سابقاته، وإنما وبالتأكيد لا يكفي لأجل ذلك أزمته وحدها، التي تعلن حجم الخراب الذي يتسبب به، في الاقتصاد والبيئة والأنسجة الاجتماعية والقيم الإنسانية، وفي الإنسان نفسه، أمراضا جسدية ونفسية فتاكة، وانغلاق أفق… أي ما يمثل قدرا هائلا من البؤس. أما من سيرد قائلا إننا – الإنسانية – اليوم أفضل مما كنا عليه في أزمنة العبودية والقنانة وحتى الرأسمالية الأولى، تلك التي وصفها ديكنز، والشيوعية المرعبة كما تحققت، فهو يخون نفسه: يفترض أن نكون – الإنسانية – أفضل حالاً، وإلا فما معنى التطور؟
ثم إن السؤال الحقيقي غير ذلك: هل تتطابق الإمكانات الحالية، نتاج التطور، مع التنظيم المحيط بها والحاكم لها؟ والجواب هو بالتأكيد لا. أما الطريف، فموافقة عتاة الرأسمالية على النفي هذا، حيث باتوا يتبارون في الكلام عن «الانحراف» الذي أصابها، وعن الحاجة إلى ضوابط عقلانية وتنظيمية وأخلاقية لإعادتها إلى جادة الصواب، كما قال مهدداً بالانسحاب من قمة العشرين، نيقولا ساركوزي نفسه، وهو من كان منذ بضعة أشهر ممثل النيوليبرالية المقتحمة لتقاليد فرنسا، بلد نظرية مسؤولية الدولة وضرورة توسيع التقديمات الاجتماعية.
إنه النقاش القائم إذاً. وهو يتمظهر في قمة العشرين تلك، التي جمعت الدول الثماني الأغنى – بعدما أضيفت روسيا – إلى عشر دول «ناهضة»، من بينها بالطبع الصين والهند، وبلدان كالبرازيل والأرجنتين والمكسيك، وإفريقيا الجنوبية، وكوريا الجنوبية، واستراليا، ولكن أيضا السعودية واندونيسيا وتركيا، في توزيع يراعي الجغرافيا والسياسة بقدر ما يتبع مقاييس اقتصادية، ويعترف للمرة الأولى بأن «بلدان الجنوب» لديها ما تقوله. ولكن اجتماع هؤلاء تمحور حول كيفية تشديد الرقابة على النظام المالي بحيث تضبط صناديق المضاربة عالية المخاطر، ووكالات البورصة، والجنّات الضريبية، والأرباح الخيالية للمدراء العامين… التي «اكتشف» أخيرا أنها، كلها، «عاهات» النظام، بينما يصرخ أصحابها بأنهم ليسوا سوى الضحايا الذين تم اختيارهم لتعليق كل المثالب عليهم تقليلا من طبيعة المشكل وتنفيسا للاحتقان.
وهم محقون. فمنذ أشهر قليلة، قبل الانفجار العظيم، كان هؤلاء قرة عين النظام ونموذجه الطليعي. ولا يُذكَّر بذلك في معرض محاجّة عقيمة ما أو شماتة مبتذلة، ولكن من أجل تقديم مثال فاقع ومتكرر عن تلك الخراقة البشرية، أو العمى الإيديولوجي، حيث تتسبب قناعات راسخة وقطعية بأذى رهيب. ثم يرد في لائحة مهمات القمة تدعيم صندوق النقد الدولي، وطمأنة الدول الفقيرة بأنها ستنال نصيبها من الاهتمام في عصر إعادة النظر الشاملة هذه (بعدما كان الصندوق إياه قد عصرها عصرا، بحجة سوء حاكميتها، ثم دعيت لإتباع النموذج «الناجح». مجددا ليس تشفيا! إذ ورغم الكلام الطيب، تبقى تلك البلدان الضحايا الأولى للموجة العاتية، تماما كما الشرائح الأفقر من سكان البلدان الغنية).
تطمح قمة العشرين الى أن تكون تاريخية أو على الاقل بمستوى الازمة، وهي تدعي انها بشكل ما تتصدى لإعادة تأسيس الرأسمالية، أو كما قال رئيس الوزراء البريطاني، إلى البحث عن «نيو ديل» شامل، مستحضرا إجراءات روزفلت عام 1933. ولكنهم يريدون القيام بإعادة تأسيس للرأسمالية دون المساس بها، وهو ما يتطلب معجزة! يدافع المقررون هؤلاء بأنهم يسيطرون على الموقف (مما بات مشكوكا به بالنظر إلى الواقع)، وانه يجب منحهم الثقة (؟)، وأن إعادة إطلاق النمو لن تحدث بضربة عصا سحرية. ولكن مناهضيهم يقولون التالي: المطلوب خطة شاملة وليست ترقيعية، تنظر إلى المشكلات بترابطها وعلى المدى البعيد. فمن المستحيل مثلا الاستمرار في منطق الدعوة إلى نمط الاستهلاك الكبير كرافعة للنمو بينما يهدد ذلك البيئة والمستقبل. كما لا يمكن أن تستمر دول الجنوب في نموذج الإنتاج من أجل التصدير عوض اعتماد مقياس أولويات حاجات السكان. ولا يمكن أن يتأنسن صندوق النقد الدولي بينما تستمر مجموعة الدول الإفريقية مثلا لا تمتلك فيه إلا 5 في المئة من حقوق التصويت. ولا يمكن تحميل القطاع المالي مسؤولية الأزمة، والافلات هكذا من حقيقة أن الشركات الكبرى هي المستفيد الأول من ذلك القطاع الذي لا يشتغل في فراغ أو حول نفسه، وأن حجم التهرب الضريبي – على سبيل المثال- لشركات الإنتاج الصناعي يبلغ مئات مليارات الدولارات، يتم تحقيقها باللجوء إلى آليات القطاع المالي إياه، وأن أغلب التهرب الضريبي ينال من العائدات المشروعة للبلدان الفقيرة التي تعمل فيها تلك الشركات، بحيث يصبح التسلي بحجم معاشات المدراء العامين من قبيل ذر الرماد في العيون.
وتقدر منظمة «أتاك» حجم الأموال القابلة للجباية بفعل إجراءات ليست ثورية بالمرة، وإنما تنبع من عقلنة النظام نفسه، وإدخال بعض الشفافية عليه، والتخفيف قليلا من فساده، بحوالى 1500 مليار دولار! ما يكفي لتغطية نفقات تطوير التعليم وتحسين الإجراءات البيئية وخفض نسبة وفيات الأطفال، أي طموحات برنامج الأمم المتحدة للتنمية، وليس أي تنظيم راديكالي غامض.
يبقى الراديكاليون. وهم يدركون أنه لبلورة البديل، لا تكفي استعادة كتابات ماركس التي رجعت على الموضة وباتت نسخ منها، معاد طبعها على عجل، تحتل رفوف المكتبات بقوة. ولكن التلمس بدأ. كما بات مسموعا ما كان حتى الأمس «كلاما مضجرا»: لا يقوم الاجتماع البشري على الإنتاج الاقتصادي المجرد، بل على اتساقه مع خيارات فلسفية وقيمية وأدبية ولغوية… منها أفكار التضامن والتعاضد واحترام الطبيعة والاهتمام بنوعية الحياة والبحث عن السعادة والأمان كحقوق… وهكذا، يربط المشككون بنجاعة قمة العشرين بين التحرك إزاءها والتحرك بعد انعقادها بيومين ضد اجتماع قمة الأطلسي في ستراسبورغ، منددين بمنطقي محور الحروب والهيمنة العسكرية، الباليين، ومطالبين بحل الناتو… ليس أقل!
الحياة