خرائط للبشر تحولهم نقاطاً في طوابير الإستهلاك
نشرت مجلة “بيزنس ويك” (نيسان 2009) تقريراً عن تطور تكنولوجي يتيح مراقبة سلوك الجموع والأفراد. منه نقتطف:
تخيّل لو أن لشركتك عيناً ساهرة تراقب زبائنها على مدار الساعة، فترصد كل زيارة يقومون بها الى البقّال، وكل تنقلاتهم لغرض مهني، وكل نزهة بصحبة كلبهم المدلّل. ما الذي يمكنك أن تعرفه عنهم حينئذ؟ وإذا استندت الى هذه الحقائق المكتشفة، فأي سلع وخدمات قد تحاول بيعهم؟ وإن قدّمت لهم عرضك الأفضل، وفي الوقت المناسب بالطبع، أتراهم سيشعرون بالقلق على خصوصيتهم ويطلبون أن تتركهم وشأنهم؟ ليست كل هذه الأسئلة من محض الخيال العلمي، بل هي الشغل الشاغل اليوم لقطاع وليد، يبدأ بمختبرات Google وNokia ولا ينتهي بالعديد من الشركات الناشئة التي تشكّل البيانات عمودها الفقري.
ولدت الفكرة في حي سوهو في نيويورك، حيث عكف فريق من شركة Sense Networks على مراقبة تحرّكات أربعة ملايين مستخدم للهاتف الخلوي على مدار عام. واستخدم الفريق أنظمة تموضع عالمية وأبراجاً للاتصالات الخلوية تلتقط إشاراتهم، ولجأ الى شبكات لاسلكية تستشعر وجودهم. وطبقاً للمحللين في Sense، لم يمتلك أولئك الأشخاص أسماء، بل كانوا مجرّد نقاط تتحرك عبر الخرائط في أجهزة الكومبيوتر التابعة للشركة. وتأتي البيانات من شركة في نيويورك رفضت Sense تسميتها.
وسرعان ما تبيّن أن أموراً كثيرة يمكن استنتاجها من الأنماط التي تتبعها النقاط المتحركة. فقد ترى مجموعات تتحلّق حول مطعم شعبي أو متجر، أو تلاحظ بسهولة ما تفعله كل نقطة. ويميل المسافرون الى التجمع في نقاط معينة في كل مدينة، في حين ينتقل العاطلون عن العمل من الروتين المنتظم الى تحركات أكثر عشوائية. ولاحظت Sense أن بمقدورها تعزيز هذه التحركات ببيانات إضافية. فمن خلال ملاحظة الأمكنة التي تأوي إليها النقاط ليلاً، يمكن للشركة أن تحدّد متوسّط الوافدين الى كل حي. وبالتالي، يسهل توقّع ما إذا كان الذين يمضون وقتاً في معارض السيارات سيشترون سيارات فخمة أم سيارات زهيدة الثمن.
بعد بضعة أسابيع من متابعة نقطة واحدة، يجمع كومبيوتر Sense ما يكفي من البيانات لتصنيف النقطة في فئة محددة، هي عبارة عن مجموعة من الأشخاص يتشابهون في سلوكياتهم. وقد تشمل المجموعة الواحدة روّاد الحانات والمطاعم الذين يسهرون حتى ساعات الفجر، وممن يسمّيهم مؤسس Sense غريغ سكيبسكي وكبير علمائها طوني جبارة، وهو أيضاً أستاذ لعلوم الكومبيوتر في Columbia University، “صغار السن والعصبيّين”. وثمة مجموعة أخرى قد تتشابك مع هذه المجموعة، لكن أعضاءها يلتزمون مربعاً ليلياً محدداً ويعودون الى منازلهم في وقت مبكر أكثر. يقول جبارة: “إنهم مجموعة روّاد الحانات”.
مع كل خطوة تخطوها، تساعد مجموعات Sense على استنباط مختبر جديد للبشرية يستعد للانطلاق. وهذه الظاهرة الناشئة التي تستمد زخمها من هواتف الويب والانتشار الواسع للتطبيقات المخصصة لبرامج الهواتف الخلوية هي “الشبكة المقبلة” التي طال انتظارها. يقول مايكل هالبنر، نائب رئيس وحدة gate5 للإنترنت الخلوي في Nokia: “إن الهاتف الذي تحمله بين يديك هو الجسر بين العالمين الافتراضي والحقيقي”.
تعتبر Sense شركة يافعة. وفيما يضطلع بإدارة الخدمات فيها خمسة من حملة الدكتوراه، تزوّدها شركات للهاتف ومعلنون ببيانات أولية عن تحركات الأشخاص وسلوكياتهم. وتتمثل مهمة Sense في تحويل البيانات الى معلومات من قبيل: ما أكثر السلع التي قد يشتريها الأفراد، أو أين يتواجدون حين يتوقون الى الحصول على شيء ما؟ وتبحث الشركة عن مال مغامر، وقد تعاني الأمرّين في السوق المتعثّرة حالياً. لكن مهما كان مصيرها، يمكن لأسلوبها البحثي، أي توقع خيارات الأشخاص من تحركاتهم، أن ينتشر في قطاعات تبدأ من التسويق والتمويل وتصل الى الإعلام. ويبقى السؤال حول سرعة ترجمة هذه التحليلات بأموال ملموسة وأي شركات ستجني الأرباح.
لطالما حلم المسوّقون بمراقبة المستوّقين، سواء في مركز للتسوّق أم في مخزن تجاري منافس، قبل أن يمطروهم بوابل من الإعلانات المستهدفة أو الكوبونات. لكن تشعّبات خطوط الأعمال للشبكة المقبلة تمتد الى أبعد من التسويق. وتعد بيانات الهواتف الخلوية أيضاً بمساعدة الباحثين في تشذيب أنظمة التحويل، ودراسة انتشار الجريمة أو المرض، ومتابعة تحركات العاملين والتفاؤل بها. وبالنسبة الى العديد من شركات الأعمال، يمكن لدفق معلومات الهواتف الخلوية أن يخلق جواً تنافسياً. ومن الداعمين الرئيسيين لشركة Sense صندوقاً تحوّط يتابعان بيانات السلوكيات دقيقة بدقيقة قبل اتخاذ قرارات الاستثمار.
بغية فهم ما تفعله Sense، من الأسهل أن نفكّر بما يحدث في Google. فلقد فصّل هذا المحرك البحثي سلوك مستخدمي الإنترنت، بما يشمل المواقع التي يزورونها وتلك التي يرتبطون بها. وبناء على ذلك، انتقلت Google الى تطوير خريطة تدرس تأثيرات مليارات المواقع وأهميتها. وتدخل هذه الاستراتيجية في صلب أعمال البحث والإعلان الخاصة بها. وتهدف Sense وغيرها من الشركات الى خلق خريطة مماثلة لعالم الواقع راهناً.
فلتعتبر أن كل حانة ومطعم وساحة وزاوية شارع هو صفحة على الإنترنت. وبتعبير آخر، فإن كل شخص يذهب الى أي من هذه الأماكن يكون قد منحها “صوته”. وتتصف بعض الأماكن مثل تايمز سكوير بشعبية كبير، فهي تشبه ربما الصفحة الرئيسية للمحرك البحثي Yahoo!. أما البعض الآخر، كمطعم يقع في فرمونت، فيبدو كمدوّنة غامضة. لكن من يزورون مكانين في أوقات متماثلة قد يملكون صفات مشتركة.
في نهاية المطاف، تسهم هذه التحليلات في رسم نوع جديد من الخرائط. ولن تحدد الخرائط المرتقبة الأماكن بحسب طرقاتها أو غاباتها أو جبالها، بل بحسب فئات الأشخاص الذين يمضون وقتاً فيها، وما يقومون به خلال تواجدهم هناك. وإذا أثمرت الجهود المبذولة، يمكن لهذا الدفق الواقعي من المعلومات أن يصبح مورداً حيوياً لكل شركة ترغب في رفع لافتة أو بيع مشروب أو تأجير غرفة أو ملء مدرّج رياضي.