رأسمالية بنكهة اشتراكية ووجه إنساني
تركي الحمد
عندما يكون الحديث عن الاشتراكية، أو الشيوعية تحديدا بوصفها الحد الأقصى للاشتراكية، فإن الصورة التي تأتي إلى الذهن تلقائيا هي صورة الاتحاد السوفيتي السابق، والكتلة الشرقية عموما، أو الصين الشعبية أو كوبا أو كوريا الشمالية، ولا ترد دول مثل الدول الاسكندنافية أو بريطانيا في ظل حكم حزب العمال، قبل موجة اليمين التي اجتاحت العالم مع ريغان وتاتشر، على الذهن.
بل وعندما يجري الحديث عن الاشتراكية، لا يرد إلى الذهن إلا كارل ماركس، أو فلاديمير ايلتش أوليانوف، الشهير بلينين (1870 ـ 1924)، ولكن القليل هم من يعرفون شيئا عن الاشتراكية الفابية مثلا، وهي الاشتراكية التي تتبناها أحزاب كثيرة منها حزب العمال البريطاني على سبيل المثال، أو الاشتراكية الديموقراطية، أو تلك الاشتراكية التي تحدث عنها معاصرون وسابقون لماركس، مثل توماس مور وسان سيمون وشارل فورييه وروبرت أوين وغيرهم، وهم من أسماهم ماركس «الاشتراكيون الطوباويون»، وهذا في ظني خطأ فادح. فما كان قائما في الكتلة الشرقية، وما هو جار في الصين أو كوبا أو كوريا الشمالية، هو رأسمالية دولة وليس اشتراكية كما يعتقد معظم الناس.
وفي رأسمالية الدولة، تكون الدولة هي المالك لوسائل الإنتاج وغير وسائل الإنتاج، أو ما يسمى بالقطاع العام، فيما أن ما هو معروف من ألف باء الاشتراكية هو أن المجتمع ككل هو الذي يجب أن يكون المالك للرأس مال الاجتماعي، وليس الأفراد أو الشركات أو ذات الدولة.
كارل ماركس، وصديقه فريدريك انجلز (1820 ـ 1895)، مؤسسا الفكرة الشيوعية المعاصرة، لم يكن واردا في ذهنهما أن تكون التجربة السوفيتية، ومن سار على نهجها، هي مثال الشيوعية، بل لم يكن واردا على ذهنهما أن تكون الاشتراكية في روسيا ممكنة، فالاشتراكية، وفق الفلسفة الماركسية وليس الإيديولوجيا الشيوعية اللينينية، لا يمكن أن تتحقق إلا في بلد قد وصل إلى قمة النضج الاقتصادي، وقمة الوفرة المادية، بمعنى أن تكون الرأسمالية قد وصلت إلى أقصى مداها، وهو ما ظنه ماركس حادثا في دول مثل بريطانيا وألمانيا في القرن التاسع عشر، وتبين لاحقا بأن الرأسمالية لم تصل إلى مداها بعد، ومرحلة العولمة المعاصرة خير دليل على ذلك.
تعديلات لينين للفلسفة الماركسية، ومن بعده جوزيف فيساريونوفيتش، الشهير بستالين (1878 ـ 1953)، وتحويلها من فلسفة تشرح المجتمع وتدرسه من أجل تغيير «علمي» وفق ظن ماركس وانجلز، إلى إيديولوجيا تحاول تغيير المجتمع مهما كان وضعه، هو الذي أضر بالفلسفة الماركسية برمتها. فالسياسة نتاج للاقتصاد في فلسفة ماركس وانجلز، ولكن تعديلات لينين، أو لنقل اللينينية، جعلت من الاقتصاد ناتجا من نتائج السياسة، وبدل أن تضمحل الدولة في ظل الشيوعية، كانت البيروقراطية السوفيتية، ومن حذا حذوها، من أضخم البيروقراطيات في العالم. والاشتراكية لا يمكن أن تقوم إلا في مجتمع رأسمالي اكتملت شروط نضوجه في الفلسفة الماركسية، ولكن اللينينية جعلت من فكرة «حرق المراحل» الأساس الذي تبنى من خلاله الاشتراكية، وبذلك من الممكن، وفق الإيديولوجيا اللينينية، أن يتم بناء مجتمع اشتراكي، حتى في تلك الدول، التي لم تنضج فيها الرأسمالية بعد، مثل روسيا إبان ثورة 1917، أو دول متخلفة اقتصاديا مثل الصين وفيتنام وكوريا الشمالية وكوبا.
والفلاحون في الفلسفة الماركسية هم جزء لا يتجزأ من الطبقة البرجوازية الصغيرة، ولكنْ لينين ومريدوه، مثل ستالين وماوتسي تونغ وهوشي منه، جعلوا من الفلاح شريكا للبروليتاري في الثورة الاشتراكية. الاشتراكية، في فلسفة ماركس، لا يمكن أن تقوم إلا حين يستهلك النظام الرأسمالي كل مقوماته، فيما اللينينية، والبلشفية عموما، تقدم إيديولوجيا للثورة على أسس ماركسية، ولكنها في الحقيقة ليست ماركسية، وبذلك يمكن القول بوضوح أن الإيديولوجيا اللينينية هي نقيض الفلسفة الماركسية، وليست امتدادا لها، كما قد يتهيأ للبعض.
وهنا يمكن فقط فهم مقولة ماركس، عندما رأى الأحزاب الشيوعية تترعرع في كل مكان، ولكن على خلاف فلسفته، فقال كلمته المشهورة: «إن كانت هذه هي الماركسية، فأنا لست بماركسي». والمسألة ليست حكرا على الماركسية في هذا المجال، بل إن أفكار كثير من الفلاسفة ومؤسسي الأفكار، قد حرفت لاحقا من أجل أغراض سياسية أو إيديولوجية أو مجتمعية.
كانت الرأسمالية الصناعية، وهي التي أدت إلى الثورة الصناعية في بريطانيا، ومن ثم بقية أوروبا الغربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، قاسية بكل ما في القسوة من معنى، وهي الرأسمالية التي كان يحللها ماركس في كتابه «رأس المال». لم يكن في ظل تلك الرأسمالية أي وجه من وجوه الإنسانية، وكانت قيمة الإنسان كقيمة الآلة أو الأداة، أي تكاليف إنتاجها، وكانت تكاليف إنتاج الإنسان هي فقط ما يبقيه حيا وقادرا على العمل، ولا شيء غير ذلك. كانت أجور العمال، الذين كانوا يشكلون غالبية السكان في الدول الصناعية آنذاك، زهيدة بحيث تكفي لإبقائهم على قيد الحياة فقط.
وكانت ساعات العمل طويلة جدا، كما كان عمل الأطفال شيئا غير مستغرب ولا مستهجن، إلا من دعاة الإصلاح والثورة على الرأسمالية. عانى الإنسان كثيرا في ظل تلك الرأسمالية، ولكن الحال لم يبقى على ما كان عليه، إذ بفضل دعاة الإصلاح، وانتفاضات العمال المتكررة، وأزمات الرأسمالية الدورية، عدلت الرأسمالية من داخلها، أي من داخل النظام لا من خلال ثورة تقضي عليه، فصدرت قوانين وتشريعات تمنع الاحتكار وتكديس الثروات وتمركزها في أيد قليلة، وهو الأمر الذي دفع ماركس إلى التنبؤ بفناء الرأسمالية، وقوانين تمنع عمل الأطفال، وأخرى تحد من ساعات العمل، وتحدد الحد الأدنى للأجور، وتسمح بتكوين الاتحادات المهنية ونقابات العمال، وتلزم المؤسسات بالتأمين الصحي للعاملين فيها، وأصبح للدولة دور كبير في الحد من قسوة الرأسمالية، خاصة فيما يتعلق بالحاجات الأساسية للإنسان، أو الحد الأدنى من الخدمات والأنظمة التي تحفظ له الكرامة والعيش الكريم، وإصلاحات أخرى كثيرة أنسنت الرأسمالية إلى حد بعيد.
بل إن بنية الرأسمالية وطريقة عملها تغيرت كثيرا عما كانت عليه، وأكبر مثل على مثل هذا التغير هو الشركات المساهمة، التي يشترك كل المجتمع في امتلاكها، وهو أمر ما كان ممكن الحدوث، أو حتى واردا على ذهن أكبر المتنبئين بمستقبل الرأسمالية، ومنهم ماركس نفسه، في ظل الرأسمالية الصناعية، أو حتى رأسمالية بدايات القرن الماضي. نعم، بقيت للرأسمالية مثالب كثيرة، ولكن رأسمالية اليوم لا يمكن أن تقارن برأسمالية القرن التاسع عشر، أو حتى رأسمالية بدايات القرن العشرين. ولكن الرأسمالية تبقى وحشا في داخلها ما لم تروض أو تقيد أو هما معا، وهو ما حدث إلى حد بعيد بعد أزمة عام 1929 الكبرى.
واليوم أعتقد أن الرأسمالية تقف في مفترق طرق تاريخي، بمعنى أن تكون أو لا تكون. كما قلت سابقا، فإن وحشا ضاريا يرقد في أحشاء الرأسمالية، وهو وحش وقوده الجشع وحب المال، وهو، أي هذا الوحش، يأكل نفسه في النهاية إن لم يجد ما يأكله، وذلك مثل النار تماما التي تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله، ما لم يروض هذا الوحش، أو حتى يقيد بسلاسل لا تسمح له بحرية التجوال الحر، وأكل من يعترض سبيله. في الأزمة المالية الحالية، سمح للوحش بتجوال حر أكثر منذ ثمانينات القرن الماضي، فكانت النتيجة هي هذه الأزمة، ولا مخرج من هذه الأزمة إلا بإعادة الوحش إلى قيوده من ناحية، ومحاولة إيجاد نهج جديد للعالم، يجمع ما بين حرية الفرد في البحث عن مصلحته الاقتصادية، أي اقتصاد السوق وهو لب الرأسمالية، وأنسنة النظام العام عن طريق الدولة، وفق قوانين وتشريعات يكون هدفها الصالح العام، بشكل يشبه ما كان موجودا في الأنظمة الاشتراكية. الرأسمالية الصرفة وحش كاسر لا إنساني الوجه، والاشتراكية على النمط السوفيتي آلة ضخمة لا وجود للإنسان فيها، واشتراكية المفكرين غير قابلة للتحقق، في الوقت الراهن على الأقل، ولكنْ لكل من الرأسمالية والاشتراكية ميزات وعيوب، فإن استطاع العالم أن يوجد صيغة تجمع ميزات النظامين، فقد أنقذ نفسه ومستقبل إنسان هذه البسيطة، وإن بقي واقفا متفرجا، منتظرا أن تنفرج الأزمة بنفسها، فهي الكارثة، أو لنقل نهاية مأساوية لنظام كان من الممكن أن يحقق الكثير، بعد أن حقق الكثير.
الشرق الأوسط