الأزمة المالية العالمية

قمة العشرين وآمال النظام التعدّدي

ماجد الشيخ
متى تهدأ نار الأزمة المالية العالمية، وهل ما جرى ويجري الاتفاق في شأنه من قرارات كفيل بتحويلها إلى رماد؟ ولمصلحة من يجري ضخ كل هذه الأموال، وهل سيستفيد منها الفقراء؛ فقراء العالم والدول الفقيرة، الفاشلة منها والناجحة تنمويا؟ وهل ما جرى في قمة الدول العشرين يرقى إلى مستوى بلورة نظام عالمي جديد، على ما ذهب رئيس وزراء بريطانيا غوردون براون.
شكلت حزمة القرارات الصادرة عن اجتماعات قمة العشرين عكس كل ما كان متوقعا، وفي سياق مناقض تماما للتوتر بين معسكر تفعيل الرقابة وتدخّل الدولة بزعامة فرنسا وألمانيا، ومعسكر ضخ الأموال بزعامة الولايات المتحدة وبريطانيا، وفي سياق مناقض أيضا للخلاف الشديد بين باريس وبكين بشأن أولوية فضح ما يسمى «الملاذات الضريبية».
وللوهلة الأولى.. يخيل للسامع أو للمتمعن في قرارات القمة، أن المساعدات العتيدة التي ستخصص للدول الفقيرة، والتي أقرتها الدول التي اجتمعت، وهي جميعها ليست فقيرة، ستقدم أوتوماتيكيا، وبالفعل وعلى طبق من «ذهب الأزمة» كل ما أُعلن عنه من مساعدات دون شروط، الشروط ذاتها التي كانت حين تطبيقها أو محاولة ذلك تثير أو تخلق المزيد من عوامل عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. إذ ستنفق المجموعة (مجموعة العشرين) خمسة آلاف مليار دولار بحلول نهاية العام المقبل (2010)، وذلك بهدف تحفيز الاقتصاد، عبر ما يؤمل أن يؤدي من رفع سقوف الإنتاج العالمي بنسبة 4 في المئة، ويسرّع عملية الانتقال إلى اقتصاد متوافق مع البيئة، وزيادة موارد صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ثلاثة أضعاف بقيمة ألف مليار دولار، منها 250 مليار دولار لدعم حقوق السحب من الصندوق، و250 مليار دولار لدعم التجارة الدولية مع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ومقرها باريس، إلى جانب 500 مليار دولار تذهب مساعدات للدول الفقيرة. وجرى الاتفاق أيضا على أن يسيّل صندوق النقد الدولي احتياطيّه من الذهب لمساعدة الدول الفقيرة.
لقد أكدت قمة الدول العشرين، التي ازداد عدد المنضوين تحت لوائها، بفعل الأزمة المالية العالمية، من كونها قمة لثمانية من الدول الأغنى والأوسع نفوذا في العالم، أكدت إمكانية انتقال النفوذ السياسي والاقتصادي، وبالتالي تغيير طابع الهيمنة؛ من الغرب إلى الشرق، حيث يتواصل عبر فرض الدول النامية المزيد من الشروط على مجموعة الدول العشرين، ولو مؤقتا، وحسب جوزيف ستيغليتز فإن الصينيين يلعبون دورا أكثر نشاطا منذ بعض الوقت، بشكل لم يحظ باهتمام كبير، رغم أنهم يديرون الأمور بشكل جيد جدا، عبر اعتمادهم خطة تحفيزية أكبر وأوسع من تلك التي اعتمدها الغرب وخاصة الولايات المتحدة.
لكن السؤال الرئيس هنا: هل ما اتخذته قمة العشرين من قرارات سوف يرقى فعلا إلى ولادة نظام عالمي جديد؟ هدفه انتشال الاقتصادات العالمية من أعمق أزمة منذ الكساد العظيم (1929)، ويسعى لتقويض تأثيرات الصادرات الأميركية الأكثر ضررا للعالم المالي، بعدما عثروا على «طريق وسطى» بين معسكرين اثنين: الأول تقوده الولايات المتحدة وبريطانيا، ويريد إنفاق أموال طائلة إضافية، للتخفيف من الأزمة المالية على حساب فقراء ودافعي ضرائب ونساء وعمال وطلبة وأطفال وعجّز، والأهم على حساب الدولة، انتقاصا من دورها المفترض. والثاني فرنسي ـ ألماني يتطلع لفرض قواعد أشد صرامة لتنظيم عمل النظام المالي العالمي.
إن الانطلاق من معاداة أي دور للدولة، بحيث يجري السعي لتأميم الخسائر وتخصيص الأرباح، وعلى حساب دافعي الضرائب وأغلبية القطاعات الشعبية، لن يقارب أي حل للمشكلة لا على المدى القريب ولا على المدى البعيد. وإذ تعمل السياسات الأميركية ـ البريطانية على ضخ المزيد من الأموال، فإن تأميماتهم «الاشتراكية» الزائفة إنما هي تستهدف تأميم الخسائر، خسائر المضاربين والفاسدين والمفسدين وسرّاق المال العام من رأسمالية مالية ريعية غير منتجة سوى للأزمات، غامرت وتغامر، وقامرت وسوف تظل تقامر، بما لا تملك من أموال دافعي الضرائب وخطط التنمية الحقيقية والإنتاجية، ما دام هناك سياسات تشجعها على المضي باتجاهات المقامرة، وبما يبقي كل أرباح العمليات الجارية لمصلحة فئات محدودة، من تلك الرأسمالية التي تشكل الأموال وطنها الفعلي، أنّى كانت وأنّى رحلت واستوطنت.
إن القناعات التي تؤكد ضرورة ألا تحمل الملكية الخاصة أية التزامات اجتماعية، هذه القناعات فضلا عن المضاربات الرأسمالية في أسواق مفتوحة لا تخضع لأية قيود، في ظل تنامي حالات خصخصة المرافق العامة وكامل الموارد الوطنية، وتسييل التدفقات المالية، وتسهيل دخول الاستثمارات الأجنبية، كل هذا لا يؤدي ولم يؤد في السابق، ولن يؤدي حتى في المستقبل، إلى قيام تراكم من أي نوع، لرأسمال وطني منتج، يمكنه النهوض بأحوال الشعوب أو تنمية بلدانها الأكثر فقرا وحاجة للتنمية.
لقد نشأت الأزمة المالية من تراكم المآسي التي نتجت من رغبات الرأسمالية المنفلتة، حيث كان يناسبها هذا الانتشار المتغوّل لعولمة ذات مواصفات معينة (أميركية تحديدا)، طالما سعت للهروب من أية معايير تنظيمية، يمكن للدولة، بل يجب أن تقودها كراع اجتماعي. فيما عملت الأسواق على الضد من رغبات البشر وأمانيهم واحتياجاتهم، فقد حطمت تلك الأسواق آمال الناس في رؤية غد مشرق لأجيالهم. وبدلا من ذلك ها هي تحوّل حياتهم إلى كوابيس سوداء، تظلل عبوديتهم التي صنعتها الرأسمالية، عبر أغلالها وأسواقها وأرباحها الخيالية وفسادها وإفسادها ومتطلباتها المبالغ فيها، وهي التي لم تك تعمل لمصلحة الناس، قدر ما توسلت الناس أداة لتنمية أرباحها بدل تنمية بلدانها.
وإذ لم تفشل القمة فشلا مدويا، رغم تأكيدها على رفض السياسات والممارسات الحمائية والتزام الدول الكبرى بحرية التجارة، فهل يمكن القول إن قمة العشرين نجحت في توفير حد أدنى من التوافق بين دولها الكبرى من حيث إلزامها بقرارات هامة؟ وهل ستلتزم بها فعلا وبما يقود عمليا إلى محاولة إنشاء نظام عالمي جديد فعلا لا قولا؟
لكن وإذا ما استمر تباين رؤى «شركاء الأزمة» على ضفتي الأطلسي، فلن يكون من السهولة بمكان التهيئة أو التمهيد لولادة النظام الجديد المأمول، وبما يحقق الوصول إلى بر الأمان للأزمة الراهنة، لكن الخشية الأكبر تبقى أن تولد الأزمة صراعات قومية لا حدود لها وسط عالم أمسى متغيرا، وأكثر تعولما من ذي قبل.
ورغم الطابع التعددي السائد داخل مجموعة العشرين، في ظل صعود وتصاعد النزعات القومية الخفية في النظر إلى المصالح الدولتية الخاصة بكل دولة، فإن مساعي التوفيق بين هذه المصالح والإرادات القومية المختلفة، سيكون أكثر هشاشة إذا لم تستجب بيئة العلاقات الدولية، بصورة متسارعة، ووفق إيقاع الأزمة المالية العالمية الراهنة، وامتداداتها إلى الاقتصادات الدولية وعلاقاتها الداخلية والبينية. وهذا ما يحتّم ترجيحا أكبر لضرورة بناء نظام دولي جديد، يتشارك فيه الجميع دون أن يكون بزعامة متفرّدة أو أحادية، على ما كانت عليه حال الاقتصاد والسياسة والعلاقات الدولية بمجملها في ظل الأحادية القطبية.
([) كاتب فلسطيني
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى