“تاريخ الإصلاحات في الدولة العثمانية”:بين السياسة الخارجية والنزاعات الداخلية
آزاد أحمد علي
يستمدّ كتاب “تاريخ الإصلاحات في الدولة العثمانية ـ دار الزمان، دمشق ـ 2008″أهميته من حساسيّة وخطورة موضوع الإصلاح وشمولية تأثيره في الدولة العثمانية إبّان القرن التاسع عشر، وكذلك من مستواه التوثيقيّ المتميّز. والكتاب من تأليف الدبلوماسي الفرنسي (أنكه لهارد) الذي عاش في استانبول وعمل سفيراً لفرنسا حوالي عشرين سنة، فكان مراقباً ومؤثراً في مسيرة الإصلاحات العثمانية، وواكب أبرز محطاتها وأحداثها، ورصد في كتابه مجمل التطورات السياسية والخطوات الإصلاحية والتشريعات القانونية التي صدرت بهذا الخصوص في السلطنة العثمانية خلال القرن التاسع عشر. وقد صنف الكاتب مؤلفه على أساس التسلسل الزمني (يبدأ القسم الأول من عام 1826م وحتى1853م، والقسم الثاني من عام 1854م وحتى عام 1867م، أما القسم الثالث فيغطي المرحلة الواقعة بين عامي 1868م و1882م) متوقّفاً عند أهم الأحداث والمعاهدات الدولية التي أثرت في الحياة السياسية العثمانية، ومنعطفاتها الإصلاحية.
يكشف الكتاب أولاُ عن تشابك العلاقة بين السياسة الخارجية للدولة العثمانية والنزوعات الإصلاحية الداخلية فيها.
ويبرز المؤلف السنوات الأولى لمسيرة الإصلاح العثمانيّ وعلاقتها المُلتبسة مع محاولات التدخل الأوروبيّ في شؤونها الداخلية، وكذلك الأطماع الروسية في بعض مناطق نفوذها. لذلك تعالت أصوات من داخل السلطنة لمحاربة أي خطوة إصلاحية، ونُعت بعض الشخصيات الإصلاحية بالخونة والمتآمرين.
ومن خلال التعرف على الخط العام لمسيرة الإصلاح في الدولة العثمانية والذي يكشف الكاتب عن بعض جوانبها، يتبين للقارئ أن متطلبات الإصلاح العثماني كانت تتوزع على مسارين: الأول داخلي، انبثق من عوامل داخلية بحتة كان أبرزها طغيان الجيش الانكشاري وانفلاته التدريجي من قبضة السلطان، إلى أن جاءت محاولة حل الجيش الانكشاري والاستعاضة عنه بجيش نظامي حديث كان ثمرة أولى الخطوات الإصلاحية ـ القانونية في الدولة العثمانية: ((إن الجيش الانكشاري ولعدم طاعته الأوامر، وإقدام رجاله على الأعمال التخريبية وكثرة مطالبهم وإسرافهم بأموال الدولة تسبب في ضائقة مالية للخزينة ونقص فيها، ولهذا فقد أصدرنا أمرنا بالحجز على أموال هذه العناصر المخربة للدولة كافة وإيداعها الخزينة لتدارك النقص الذي حدث فيها، وقد بقي كل من الباب العالي وبقية المدن الإسلامية مصانين من التلاعب من قبل هذا الجيش، كما أن الأموال الأميرية كافة تم وضع اليد عليها، ومن الآن فصاعداً فان قانون الحجز والمصادرة لعموم الناس قد الغي وان أموال المتوفين منهم يجب دفعها الى الأيتام والورثة)) من نص الأمر السلطاني ص ـ 29ـ
وكان قد ازداد تذمّر الأهالي وتدهورت أوضاعهم الاقتصادية وزاد جور الحكام والباشاوات المحليين لدرجة أن لاحقت السلطان اللعنات والنفور.إضافة إلى كل العوامل الداخلية الأخرى باتت ضرورة إعادة النظر في طريقة التعامل مع الرعايا المسيحيين داخل حدود الإمبراطورية العثمانية مطلباً إصلاحيّاً مهمّاً، وهذا ما كان له ارتباط وثيق مع العوامل الخارجية الضّاغطة، والتي كان أبرزها رغبة الدول الأوروبية الصاعدة بأن تضع حدّاً لقوّة ونفوذ الدولة العثمانية عن طريق التدخل شكلياً لحماية الرعايا المسيحيين واتخاذهم مبرراً لطلب الإصلاحات، في حين كانت تسعى عبر تلك الذريعة إلى تأمين المصالح الاقتصادية والمبادلات التجارية وحماية طرق التجارة.
هذا وقد أسرعت طموحات محمد علي باشا، والي مصر، الاستقلالية وصراعه مع استانبول في التفكير بالإصلاحات وتحديث الجيش، إذ جاوز محمد علي السلطان في الإصلاحات وسبقه في التحالف مع الدول الأوروبية وتأسيس الأسطول الحربي والعمل على إنشاء إمبراطورية إفريقية مستقلة عن السلطنة العثمانية في المركز.
قدّم السلطان عبد المجيد المزيد من التنازلات للأوروبيين ضمن إطار الإصلاحات والتشريعات نفسها، وذلك بمقابل ضغط دول أوروبا على محمد علي باشا الطموح للعودة إلى طاعة السلطان والاعتراف بسيادته على أن يتم حصر حكم مصر وراثياً بعائلته. وتم تعويم بعض من حقوق المسيحيين من سكان أوروبا الشرقية والبلقان ولبنان. كما كانت مسألة إلغاء وتخفيف الضرائب عليهم مهمة لعملية الإصلاح السياسي والاقتصادي وخاصة إلغاء الجزية وتشريع الضرائب المالية.
لقد كانت سيرورة الإصلاح في الدولة العثمانية معقّدة ومتشابكة مع أجندات سياسية إقليمية ودولية. إلى أن تضافرت جملة من العوامل الداخلية والخارجية لتتبلور فكرة الإصلاح ولتسيير عربة الإصلاحات العثمانية، وجرّت وراءها العديد من الإجراءات والتشريعات، فأوقفت مبدأ الحاكم المتفرّد، ولأول مرّة تشكّلت رقابة على السلطان وعلى الدولة، ولكن لبعض الوقت فقط.
إن قراءة هذا الكتاب المفصّل في التاريخ السياسي والدبلوماسي إبّان الفترة العثمانية يؤدي إلى التعمّق في معرفة تاريخ الإصلاحات في الدولة العثمانية ويوسّع القاعدة المعرفية لأساس ومنهج الإصلاحات في الدول القائمة عصرئذ خارج أوروبا، بالتفاعل والتوازي مع آلية سيادة القانون في الدول الأوروبية. كما يتنبه الباحث المتخصّص والقارئ لخطورة وضرورة الإصلاحات للمجتمعات الشرقية حيث أنها بدأت منذ أمدٍ بعيد إلا إنها لم تستكمل ولم تحقق غايتها المرجوة، لدرجة أن أصبحت للإصلاحات مناهج لرصد ودراسة تاريخها الطويل، الذي ابتدأ منذ عشرات السنين، ولم ينته بعد…
وما هو مثير للدهشة أن بعض الدول الأوروبية كانت لا تشجع الدولة العثمانية على إجراء أي إصلاحات بحجة أنها دولة شرقية وإسلامية وعليها أن تبقى كما هي رائدة للتخلف والاستبداد.
فقد كان رئيس وزراء النمسا (مترينخ) صاحب هذا الرأي ولا يريد أية إصلاحات داخل الدولة العثمانية وكان يعتبرها حصناً للرجعية. لذلك أرسل رسالة إلى سفير النمسا في استانبول يطلب منه الضغط على السلطان لكي يبقى الوضع كما هو: ((فان الوضع القديم هو الأنسب للعمل به وان جسم الدولة المريضة متأثر بالحوادث التي جرت في مصر والتي تنهش في لحمه، ولم يمض عليها غير مدة قصيرة لم تستعد الدولة فيها عافيتها بعد، وان أول شيء يجب القضاء عليه هو النظام والقوانين التي وضع أسسها السلطان سليم. وهي من قبل الدول الأجنبية ولا بد من الحديث عن هذه القوانين والأنظمة.
وأنني أعرض على الدولة وأوصي بأن تأخذ بهذه النصائح:
أن الدولة التي دينها الإسلام وأسست على هذا المبدأ لأن أكثر مواطنيها مسلمون يجب عليها احترام الدين والأخذ بمبادئ الشريعة، كما يجب النظر ودراسة الأمر قبل أن تطبق القوانين الحديثة، لان التحرك يجب أن يتم حسب الحاجة التي تلائم الزمان والمكان المناسبين لتحسين الوضع والمعيشة، وذلك لا يعني هدم وإلغاء النظام القديم ويجب مراجعة النظر فيما ألغاه وخربه السلطان ودراسته جيداً مع تقدير النفع والضرر فيه. أن القوانين والأنظمة المأخوذة من الأوروبيين لا تناسب عقيدتكم وعاداتكم فلا تأخذوا بها فهي تناسب الدين المسيحي. ابقوا أتراكاً، وإذا أردتم أن تبقوا أتراكاً فتمسكوا بالدين والشريعة، واستفيدوا من التسهيلات التي تمنحها الشريعة الإسلامية لبقية الأديان، واعملوا بها قدر المستطاع، كما انه يجب وضع المسيحيين تحت الحماية الكاملة ومنع الاعتداء عليهم من قبل الولاة والباشوات وعدم التدخل في أمور دينهم. نفذوا الوعود والقرارات التي أصدرتموها ولا تعلنوا عن أي قرار قبل دراسته جيداً ولا تتسرعوا بتنفيذ القرارات بحذافيرها وإنما خذوا منها ما ترونه مناسباً للحق والطريق المستقيم، إنكم لا تفهمون الدعايات المغرضة لمثل هذه الأمور، فإذا ما أقدمتم على الأخذ بهذه القوانين فإن الأفكار الأوروبية ستطغى عليكم…)) ص ـ47ـ
في حين تولّت دول أخرى التنظير للإصلاحات وتقديم المساعدات لها للإسراع في انجاز الإصلاحات التي ينبغي أن تحمي مصالح بعض الطوائف المسيحية وتسوّق لقوانينها وأنظمتها الإدارية والسياسية وخاصة فرنسا.
لكن الدولة العثمانية أخفقت في أن تنجز الإصلاحات بالحد الأدنى المطلوب في القرن التاسع عشر والتي كان مؤملاً منها أن تحلّ “المسألة الشرقية” وتحقق المساواة بين المواطنين وتلغي التفرقة والتمييز الديني بين المسلمين والمسيحيين. فأول وأهم ما دفع للبحث عن إصلاح حال الدولة العثمانية هو احتياجات الأفراد والجماعات، ومتطلباتها الروحية ـ الثقافية والمادية، وكانت هذه المطالب أساساً لظهور العديد من الأفكار والمنظمات والجمعيات الأهلية الدينية منها والقومية والتي كانت تسعى لضمان تشريعات جديدة وصيغة أفضل للاجتماع البشري المركب المنضوي تحت راية “الخلافة” ـ السلطنة العثمانية إلا إنها لم تتحقق …
إن إخفاق مسيرة الإصلاحات كانت أحد ابرز أسباب تفكك وزوال الدولة ـ الإمبراطورية العثمانية، وما يخشى منه أن تشكل إخفاق الإصلاحات المدنية والسياسية في تركيا المعاصرة وعدم حلها للمسألة القومية سبباً في انكماش دولة تركيا المعاصرة.
وهكذا نجد أن للإصلاحات تاريخاً طويلاً وحاضراً مستمراً في منطقتنا، وان واجهت مسيرة الإصلاح مصاعب موضوعية فهي تظل ضرورية لمواكبة تطور الدولة الحديثة، ومعياراً لحسن أدائها وتخليها التدريجي عن الاستبداد السلطوي المتوارث لصالح المواطن… فالدول التي أجادت توجيه عمليات الإصلاح في مختلف المراحل هي وحدها التي حقّقت ثورات اجتماعيّة حقيقيّة وموضوعيّة.
المستقبل