صفحات أخرى

من يربح أكثر من تناولك لقهوة الصباح؟

نشرت مجلة “الكتب ـ وجهات نظر” (عدد نيسان 2009) مقالة مطولة بعنوان “من يدفع ثمن قهوتك”. منه نقتطف:
سواء كنت تعيش في نيويورك او طوكيو أو اتويرب او براغ، يعتبر استخدام المواصلات العامة يومياً في الرحلات الطويلة للذهاب الى العمل والعودة منه تجربة حياتية مألوفة في مدن العالم الكبرى. وهذه الرحلات اليومية لها تأثير عام وتأثير خاص، على نحو يفقد المرء حماسه، فالتأثير الخاص يحدث لأن كل راكب بمنزلة الفأر الذي يدور في متاهته الخاصة؛ فهو يقيس الزمن الذي يستغرقه بدءاً من حمام الصباح حتى الوصول الى ماكينة التذاكر بمحطة المترو. ولكي يسرع من انتقاله بين القطارات والاتجاه الصحيح للرصيف؛ ويفاضل بين مساوئ الوقوف في اول قطار يمر عليه وبين الجلوس في آخر قطار. ومع ذلك، فان هذه الرحلات اليومية تنتج عنها تأثيرات عامة، مثل ساعات الذروة والاختناقات المرورية التي يستغلها اصحاب الاعمال لصالحهم في جميع انحاء العالم وتختلف رحلتي اليومية هنا في واشنطن العاصمة عن رحلتك في لندن او في نيويورك او في هونغ كونغ ومع ذلك فانها ستبدو مألوفة على نحو مدهش.
تقع محطة مترو “فاراغوت ويست” Farragut West في موقع مثالي لخدمة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وكذلك البيت الابيض. في كل صباح يظهر الركاب سريعو الغضب الذين لم ينالوا قسطاً كافياً من النوم وهم خارجون من محطة فاراغوت ويست قاصدين الطوابق المختلفة في مجمع “انترناشيونال سكوير” International Square، بحيث يتعذر ان يحيدوا بسهولة عن طريقهم المعتاد، انهم ينشدون الابتعاد عن الضجيج والصخب، حول السائحين المتجولين ويريدون الوصول الى مكاتبهم قبل وقت قليل من وصول رؤسائهم. وهم لا يرحبون باستخدام اي طريق غير طريقهم المعتاد ومع ذلك فهناك مكان للسلام والاكرام يمكن ان يغريهم بأن يتأخروا لبضع دقائق. في هذه الواحة، تقدم بعض الملذات التي تصاحبها ابتسامات من نساء ورجال غرباء وجذابين. فاليوم رأيت ابتسامة نادلة المقهى الفاتنة التي تضع شارة تفصح عن اسمها “ماريا” المقهى الذي اقصده بالطبع هو مقهى “ستاربكس” Starbucks الذي يقع في مكان يتحتم رؤيته عند المخرج المؤدي الى انترناشيونال سكوير. وهذا ليس بشيء غريب تختص به محطة فاراغوت ويست لوحدها. فعلى سبيل المثال عندما تخرج من محطة مترو فاراغوت نورث Farragut North المجاورة. ستجد ان اول واجهة تجارية تخص فرعاً آخر من فروع ستاربكس. وفي جميع انحاء العالم توجد مثل هذه المقاهي التي تقع في أماكن يسهل الوصول اليها، لتلبي احتياجات ركاب في اشد الحاجة الى هذا المكان.
فتجد مثلاً مقهى كوزي Cosi على بعد عشر ياردات من مخرج محطة مترو واشنطن دوبون سيركل Washington Dupont Circle وتفخر محطة متبروبن Penn بنيويورك بوجود مقهى سياتل كوفي روسترز Seattle Coffee Roasters بالضبط عند مخرج المحطة المؤدي الى شارع ايتث افنيو Eighth Avenue اما في محطة شنجوكو Shinjuku في طوكيو فيستطيع المرء ان يتمتع بقهوة ستاربكس حتى دون مغادرة ساحة المحطة. وفي محطة ووترول Warerloo في لندن تجد كشك قهوة تابعاً لشركة ايه ام تي AMT يحرس المخرج المؤدي الى الضفة الجنوبية لنهر التايمز.
لا يعتبر ركوب الكابوتشينو الكبير الذي يبيعه مقهى ستاربكس بسعر 2,55 دولار رخيصاً، ولكني استطيع دفع هذا السعر، فثمن هذا الركوب لا يمثل لي وايضاَ للكثيرين من مرتادي المقهى اكثر من الأجر الذي احصل عليه عن عملي لبضع دقائق. ومن المؤكد ان ما من احد منا سيضيع وقته لتوفير بضعة سنتات ليبحث عن مقهى ارخص في الساعة الثامنة والنصف صباحاً. يوجد طلب هائل على المقهى الذي يحظى بافضل موقع يسهل الوصول اليه، فمحطة ووترلو على سبيل المثال يمر بها كل عام اربعة وسبعون مليون شخص، الأمر الذي يجعل موقع ذلك المقهى مسألة في غاية الأهمية.
لا يعتبر موقع مقهى ستاربكس في محطة فارغوت ويست موقعاً ذا قيمة لأنه يقع على طريق نشيط لمرور الناس بين ارصفة المحطة في طريقهم الى خارجها، وانما ايضاً لعدم وجود مقاه اخرى على طول الطريق، فلا عجب اذن ان يحقق هذا المقهى ارباحاً طائلة.
واذا كنت تشتري مثلي قدراً كبيراً من القهوة، فربما تستنتج ان شخصاً ما يثرى ثراء فاحشاً من وراء ذلك، واذا كانت الشكاوى التي تنشر في الصحف بين حين وآخر حقيقية فان البن في فنجان الكابوتشينو لا يتكلف سوى بضعة سنتات. وبالطبع لا تخبرنا الصحف بالقصة كاملة؛ فهناك الحليب والكهرباء وتكاليف الاكواب الورقية والراتب الذي يدفع لماريا كي تبتسم طوال اليوم في وجه الزبائن كثيرين الشكوى، ولكن لو جمعت كل هذا سيظل الناتج اقل بكثير من سعر كوب الكابوتشينو. يرى استاذ الاقتصاد براين ماكمانوس Brian Mc Manus ان هامش الربح في القهوة يكون قرابة 150 % فتكلفة اعداد كوب من القهوة المقطرة الذي يباع مقابل دولار يتكلف في الحقيقية سوى 40 سنتاً اما كوب القهوة الصغير المضاف اليه الحليب الساخن الذي يباع بسعر 2,55 دولار فيتكلف اقل من دولار. هناك اذن شخص ما يحقق ارباحاً طائلة، فمن يكون هذا الشخص؟
ربما يكون هاورد شولتز Howard Schultz مالك سلسلة مقاهي ستاربكس هو اول من سيتبادر الى ذهنك. ولكن الاجابة ليست بهذه البساطة. فهامش الربح الجيد الذي تجنيه ستاربكس من بيع الكابوتشينو لا يرجع الى جودة البن او طاقم العمل ولكن بسبب موقع المقهى ثم الموقع، ثم الموقع.
وفي محاولتك لاستنتاج من سيجني الارباح، تذكر ببساطة ان طاولة المفاوضات يوجد على جانب منها عشر شركات متنافسة على الاقل. وعلى الطرف الآخر يجلس مالك الموقع المتميز الذي تنشده هذه الشركات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى