صفحات أخرى

حدود الديموقراطية الدينية لتوفيق السيف: كشف جوانب أساسية من التجربة السياسية الإيرانية

null


صدرت عن “دار الساقي” دراسة معمقة وجدية لتوفيق السيف بعنوان “حدود الديموقراطية الدينية”، وتكشف جوانب أساسية من التجربة السياسية الإيرانية قلّما نوقشت خارج إيران كالتعديلات التي أجراها آية الله الخميني على المعتقدات الشيعية الخاصة بالإمامة والسلطة والصيغة التي قدمها للتوفيق بين مصدرَي الشرعية السياسية الديني والشعبي، وسلطة الفقيه في نظام جمهوري.

ويقدم الكتاب (400 صفحة) صورة مقارنة عن الإيديولوجيا السياسية للتيار الديني المحافظ، ونظيرتها الإصلاحية التي تجمع بين الأساس الديني والمفاهيم الديموقراطية ـ الليبرالية، ويحلل الأسباب التي أدت الى فشل النموذج الديني المحافظ ومهدّت لظهور منافسه الإصلاحي.

تتألف هذه الدراسة من سبعة فصول وخاتمة تغطّي النقاشات الجارية حول التحول السياسي في إيران، أرضيّتها الإيديولوجية، والقوى المشاركة فيها، والطريقة التي يتمظهر من خلالها تأثير تلك النقاشات في الحياة السياسية والاجتماعية عموماً، وفي عمل الدولة بوجه خاص.

يناقش الفصل الأول المسار التاريخي الذي تطوّرت خلاله نظرية السلطة الشيعية منذ القرن الثامن الميلادي حتى قيام الثورة الإسلامية في العام 1979. ويعرض الظروف التي انبثقت منها الأسئلة المثارة اليوم حول حدود السلطة ومصادرها ودور المؤسسة الدينية في الحياة العامة. يركّز الفصل على تحديد الإطار السياسي ـ الاجتماعي الذي شهد قيام النموذج التقليدي للسلطة الدينية وتطوّره، مستهدفاً استكشاف العوامل التي أسهمت في تشكيله على الصورة الحالية، والهموم التي عبّر عنها، والإمكانات التي يتيحها، والحدود التي يقف عندها. ويجادل الفصل بأن المراجعات المتكررة لمفهوم السلطة كانت في الغالب انعكاساً لتغيّر الظروف السياسية للمجتمع الشيعي، ولا سيما منذ وصول الشيعة الى الحكم في القرن العاشر الميلادي. ويخلص الفصل الى أن توافر بيئة إيجابية، ولا سيما توافر فرصة للمشاركة السياسية، هما أقوى العوامل وراء قبول المجتمع وزعمائه الدينيين لمراجعة المفاهيم الدينية المتعلّقة بالسياسة على نحو يقرّبها من حقائق الحياة ومتطلّباتها. وسوف تنعكس حدود تلك الفرصة بالضرورة، سعة أو ضيقاً، على مساحة التطوّر في الفكر الديني. الانخراط المحدود في الحياة السياسية سوف يقابله تطوّر محدود في المنظورات الدينية، وكلّما ازداد ذاك ازداد هذا تبعاً له. وبخلاف ذلك، إن العزل والقمع هما دافع للتشدّد والانغلاق في الفكر الديني، وكلما تعاظم الدافع، تعاظم مفعوله. يمثّل هذا الفصل تمهيداً ضرورياً للفصول التالية في الدراسة، كما أنه يخدم واحدة من الفرضيّات الرئيسة التي تحاول الدراسة اختبارها، أعني فرضية أن قيام دولة دينية هو العتبة التي سينتقل عبرها الفكر السياسي الديني الى الحداثة.

يناقش الفصل الثاني التعديلات المهمة التي أدخلها آية الله الخميني على نظرية السلطة الشيعية التقليدية، والتي بلغت المقوّمات الأساسية والوظيفية لنموذج السلطة التقليدية. ويقدّم الفصل الخميني كواحد من الزعماء التاريخيين الذين تمتّعوا بكاريزما استثنائية مكّنتهم، في لحظة تاريخية معيّنة، من تجسير الفجوة بين زمنين ثقافيين: زمن التقاليد وزمن الحداثة. فقد ساعد شعبه على إعادة النظر في الكثير من مسلّماته وتقاليده والالتحاق بركب الحداثة من دون قلق على خسارة هويّته أو خصوصياته الثقافية، كما كان الحال في برامج التحديث التي تبنّاها النظام البهلوي منذ ستينات القرن العشرين. ساعدت مراجعات الخميني على تحوّل الدين من مبرّر لاعتزال الحياة السياسية من جانب أكثرية الشعب الإيراني، ومعها الأكثرية الساحقة من الشيعة، الى دافع للمشاركة النشيطة في الشأن العام. يقدّم الفصل الثاني أيضاً مقاربة جديدة لمفهوم “الولاية المطلقة للفقيه” الذي تبنّاه الخميني. بينما ينظر نقّاد الخميني الى هذا المفهوم كدليل على توجّهاته السلطوية، يجادل الفصل بأنه استخدمها كأداة لاستبعاد العنصر الميتافيزيقي في السلطة الدينية، ومن ثم توحيد السلطتين الدينية والسياسية اللتين كانتا، حتى ذلك الوقت، في حالة تنازع وجودي أدى على الدوام الى إضعاف مشروعية الدولة وإعاقة الإجماع الوطني.

يناقش الفصل الثالث نموذج السلطة الثوري الذي قام على أرضية النظرية الدينية التقليدية، ويستعرض مكوّناته ومبرّرات قيامه. كما يقدم تحليلاً للتجربة السياسية لهذا النموذج من خلال أبرز أهدافه، أي “العدالة الاجتماعية”، حيث يناقش الاستراتيجيات التي تبناها النظام الإسلامي لتطبيق هذا المفهوم في جانبيه السياسي والاقتصادي.

ويساعد النقاش في الفصل الثالث على استكشاف الأسباب الكامنة وراء التغيّر المستمر في البيئة السياسية الإيرانية منذ قيام الجمهورية الإسلامية حتى اليوم.

ولأن هذه الدراسة تهتم في المقام الأول بذلك النوع من التحوّلات التي تنطوي على تأثيرات واسعة وبعيدة المدى، تركّز النقاش على التغييرات على المستويين البنيوي والمؤسسي، أما السياسي فقد تناولناه في الغالب بصورة عرضية. ويتوافق هذا الاتجاه مع الاتجاه العام في دراسات التنمية في العالم الثالث، والتي تحوّلت من التركيز على دور ما كان يوصف بالنخبة التحديثية، الى التركيز على البنية الاجتماعية ككل باعتبارها محور التنمية والقوة الحاسمة وراء تقدّمها أو تعثّرها. في ضوء هذا المنظور، يستعرض الفصل عدداً من التطوّرات الرئيسة ذات العلاقة منذ قيام الجمهورية الإسلامية حتى اليوم، بهدف استكشاف المحطات الرئيسة في طريق التحول الديموقراطي في هذا البلد. بكلمة أخرى، ينظر الفصل الى مجموعة التجربة السياسية للنظام الإسلامي خلال ربع القرن الذي مضى على قيامه، كمختبر لاستكشاف ما إذا كان الحراك الإجمالي للجمهورية الإسلامية يتجه صوب الديموقراطية أو يبتعد عنها. يستخدم الفصل نظرية “الانقلاب البراديمي أو المنظومي” (ُّنىوَّ ٍهىلفْفِ) التي طرحها الفيلسوف الأميركي توماس كون كإطار مفهومي لتفسير تعثّر النموذج الثوري ـ التقليدي وصعود النموذج الإصلاحي. وغرضنا هنا هو تبيين الهوة الواسعة التي تفصل بين نموذج السلطة والتنظيم الاجتماعي الذي ساد خلال الثمانينات، والنموذج الذي يدعو إليه الإصلاحيون. ويجادل الفصل بأن تحول الرأي العام نحو النموذج الأخير يمثّل قطيعة نهائية مع مفهوم السياسة ونمط التديّن الذي ينطوي عليه الأول. وسوف يعرض الفصل العيوب التي أدت الى سقوط النموذج الثوري وحتّمت ظهور نموذج جديد مختلف. كما يعرض إمكانات التطوّر من الداخل، والتي ينطوي عليها النظام الإسلامي، رغم الإشكالات المشهودة حالياً.

يقدّم الفصل الرابع تحليلاً للإيديولوجيا السياسية للتيار المحافظ، بما فيها رؤيته للدولة الاسلامية وموقفه من القضايا موضع الجدل في إيران، مثل مسألة المواطنة وما يتعلق بها من الحقوق السياسية، والشرعية وسيادة القانون، والجمهورية ودور الشعب، فضلاً عن الأساس النظري لتلك الايديولوجيا. ويتصل النقاش هنا بالفرضية الرئيسة للدراسة القائلة بأن انخراط الدين في العملية السياسية هو العامل الرئيس وراء تطور الخطاب السياسي الديني. يعبر التيار المحافظ بالدرجة الأولى عن الشريحة التقليدية في المجتمع الايراني، ولا سيما المؤسسة الدينية وكبار تجار البازار، ويتبنى هذا التيار الفقه الموروث، وبصورة عامة التفسير الفقهي للدين كإطار مرجعي لفهم الأسئلة المثارة في الميدان الاجتماعي والسياسي ومعالجتها.

يرمي الفصل الخامس الى إلقاء الضوء على التعارض الجوهري بين الخطاب الاصلاحي ونظيره المحافظ، الأمر الذي يبرر فرضيتنا القائلة بأن صعود الاصلاحيين الى السلطة في العام 1997 يمثل انقلاباً منظومياً بالمعنى الذي اقترحه توماس كون. ظهر التيار الاصلاحي في إطار المرحلة الثرميدورية للثورة الاسلامية، ولذلك يمكن اعتباره رد فعل، جزئياً على الأقل، على ما ساد في المرحلة السابقة من منظومات قيمية واستراتيجيات ومفاهيم. يتوجه الخطاب الاصلاحي، في الدرجة الأولى، الى الطبقة الوسطى الحديثة، ويميل بشدة نحو الديموقراطية الليبرالية كآلية حكم وفلسفة للتنظيم الاجتماعي. يستعرض الفصل الخطوط الرئيسة لهذا الخطاب، ولا سيما فكرة الديموقراطية الدينية التي تمثل جزءه الجوهري، ومفهومه الخاص للعلمانية، إضافة الى القاعدة النظرية التي يرجع إليها.

يستعرض الفصل السادس الأحزاب السياسية الرئيسية في إيران اليوم، انطلاقاً من فرضية أن الخطاب الديموقراطي لن يكون فعالاً ما لم تحتضنه قوى ذات نفوذ وفاعلية، تتولى تحويله من طموح يراود أقلية من النخبة الى هدف يثير حماسة الجمهور ويدفعه الى التحرك. من هذا المنطلق، يستهدف الفصل السادس اختبار قابلية المسار الديموقراطي للاستمرار بالنظر الى القوى السياسية التي تتبناه وحجم تأثيرها الجماهيري، مقارنة بتلك القوى التي تعارضه أو تسعى الى إعاقة تقدمه. ويلقي هذا النقاش مزيداً من الضوء على فرضيتنا الرئيسة القائلة ان تطور الخطاب السياسي الديني في اتجاه الديموقراطية أو الاستبداد يتأثر الى حد كبير بتوازن القوى في المجتمع، ما إذا كان يميل الى هذا الخيار أو ذاك.

يقدم الفصل تحليلاً موجزاً للأحزاب الفاعلة في الساحة الايرانية، وخلفيتها الاجتماعية، وأبرز التحولات التي شهدتها في السنوات الأخيرة. كما يقدم عرضاً للتحول في المعسكر المحافظ الذي تجلى في ظهور جيل جديد نجح حتى الآن في السيطرة على البرلمان ورئاسة الجمهورية وعدد ملحوظ من المجالس البلدية، وكشف في حقيقة الأمر عن قدرة كبيرة على منافسة الاصلاحيين.

وتخلص الدراسة الى عرض أبرز النقاط التي جرت مناقشتها، ولا سيما تلك التي تتعلق مباشرة بفرضياتها الرئيسة، وبينها خصوصاً إمكان المصالحة بين الدين والديموقراطية، والفرص المتاحة لتطوير خطاب ديموقراطي على أرضية دينية، وقابلية الدين لاستيعاب الحداثة والتكيف مع متطلباتها.

ويعرض الفصل السابع، بصورة أكثر تفصيلاً، للظروف التي شهدت انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيساً للجمهورية، وتأثير هذا التطور على الوضع السياسي الداخلي وعلاقات إيران الدولية.

وكما ذكرنا سابقاً، تسعى هذه الدراسة الى ملء فراغ مشهود في البحوث المتعلقة بالتنمية السياسية في الشرق الأوسط. ويعتقد الكاتب أن تجربة التيار الاصلاحي في ايران تمثل موضوع اختبار نموذجياً للفكرة التي جادل دونها عدد من السياسيين والباحثين، والتي تدعي ان الفرصة الوحيدة لإرساخ الديموقراطية في المجتمعات الاسلامية تكمن في بزوغها من داخل الاطار الثقافي لهذه المجتمعات. تنطوي تلك التجربة على ممارسة فكرية وسياسية متقدمة تسمح للتيار الاصلاحي الايراني بريادة خط الاصلاح الديني ـ السياسي في العالم الاسلامي. يضم هذا التيار عدداً معتبراً من الساسة والمفكرين المجربين. وخلال السنوات القليلة الماضية، كشف عن قدرة فكرية ملحوظة وقدم معالجات مثيرة للاهتمام لعدد من القضايا الرئيسة مثل العلمانية، والعلاقة بين الضوابط الأخلاقية والحريات المدنية، ودور الشعب في تحقيق حاكمية الدين… إلخ. إن تبنيه المفتوح للديموقراطية، ولا سيما في صيغتها الليبرالية، وتأسيسه هذا الموقف على أرضية دينية متينة، يلخصان في الحقيقة أهم عوامل التمايز بين هذا التيار ومعظم المجموعات الاسلامية في الشرق الأوسط.

وسوف تبين الرسالة ان التيار الاصلاحي، رغم اخفاقه في المحافظة على مواقعه في السلطة، قد نجح خلال سنوات حكمه الثماني في تغيير بيئة إيران السياسية. وبينما يتخلى الرئيس الاصلاحي محمد خاتمي عن منصبه في آب/ أغسطس 2005، يشعر الجميع تقريباً بأن إيران بعد خاتمي تختلف كثيراً عن إيران التي عرفناها عشية نجاحه في الانتخابات الرئاسية في أيار/ مايو من العام 1997.

المستقبل – السبت 26 نيسان 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى