أشلاء” الجمهوريّة وأشلاؤنا
بسام حجار
1
كلّما تحدث السيد لمناسبة أو غير مناسبة، سرى بين الناس إحساس بالخطب الجلل. مع أن الخطوب، في هذه الآونة، هي ما يصيبنا نحن، والسيد وشعبه، لا ما يُصيبُ أعداءنا.
كلّما تحدث السيد توقفنا عما في يدنا من شغل ومشاغل. وأصغينا.
فالسيد مفوه إذا تكلم. والسيد سيّد إذا غاب عن الأنظار.
والسيّد مخول الحديث عن كل وعن أي شيء.
إن لم نصدق كما يصدق ويهتاج ويتحمس كثيرون سوانا، ففي الأقل نصغي؛ وفي كل مرة، نصلّي، حتى غير المؤمنين منا، أن يكون السيد سيداً، وأن يكون كلامه سيد الكلام.
لم تستجب صلاتنا إلى اليوم.
فكلما تحدث السيد، إلى يومنا هذا، أرغمنا على البحث في قواميس الخطب، والأحداث المأسوية، التي ترددت على أسماعنا وأبصارنا، بفضل تلفزيون السيد وحلفائه، منذ العالمية الثانية.
السيد مخلص، ولا يساورنا شك في ذلك، في ما يجعله، يومياً في زمن عاشوراء، ومتقطعا في أوقات أخرى، عنواناً لهموم المؤمنين، ولهموم الناس إجمالاً.
طلب المغفرة أولاً. وثانياً توسّل الشهادة اتباعا لتقليد الشهادة العريق.
غير أن إطلالة السيد في”ظهورِه” الأخير، على الشاشة أولاً، وبين المحتفلين، ثانياً، بذكرى عاشوراء، كانت مختلفة.
ولكثيرين لا يعبأ بهم السيد كانت بمثابة صدمة.
لن يتهم المعترض على كلام السيد بالخيانة مرتين. ولن يوصف بالإسرائيلي مرة ثانية. فإذا دفع الثمن مرة، لا بأس من تكرار الخطيئة.
والخطيئة أننا لا نشاطر السيد آراءَه. ولا اجتهاداته، ولا فحوى خطبه المفجعة.
قد يكون ولياً. وقد يكون قديسا. وقد يكون في طليعة رجال الله. لا ندري. غير أن الذهول من أقوال رجال الله حق للمستمع، وهو مستمع لا حول له.
يذهلنا أولاً من حديث السيد أننا نحن، صانعو الانتصار التاريخي على “أسطورة” الجيش الإسرائيلي، ما عدنا نملك إلا أشلاء قتلى. وعلى هذه الأشلاء سوف نفاوض.
طبعاً صدرت الزميلة “السفير” اتهاماً لمن أتى على ذكر خطاب السيد “التاريخي” المتعلّق بالأشلاء، زاعمة بأن (الرئيس) أمين جميل “يتضامن مع أشلاء إسرائيل”. وفي اليوم التالي ذهبت الزميلة “الأخبار”، على جري عادتها، إلى مسرحة الوقائع على وجه تراجيدي، وعنونت صفحتها الأولى بما يعني أن “الأكثرية” تؤمن الغطاء “لتصفية” حسن نصر الله. نفر آخر ممن يتأخرون دائماً في فهم ما يدور، ويتصدرون التعليق عليه، رأوا في كلام (الرئيس) الجميل إغفالا (مذنباً طبعاً) لأشلاء قتلى قانا.
نحن نعلم جيداً ما كان القصد من تصريح (الرئيس) جميل، أو، في الأقل، نحسب أننا ندري. وبالتأكيد لم يكن “تضامناً مع أشلاء إسرائيل”، بل تضامنا مع ما تبقّى من “أشلاء إنسانيتنا وأخلاقنا“.
ما الفرق، نحن لا ندري فعلاً، في معركتنا مع إسرائيل، إذا كان حزب الله يحتفظ بجثة كاملة أو بنصف جثة (بحسب وصف السيد الدقيق ) لقتيل (صهيوني وغاز ومعتد وما شئت)؟
الميت ليس عدو أحد إلا بعقيدة التشفي.
الميت ليس سوى ميت. وينبغي، بحسب الأعراف الدينية وحتى القومية، أن ينجو من التشفي.
ليس لأجله. بل لاجلنا نحن. لكي نبقى بشراً في حساب البشر.
فلا ندري، ولا نحسب أن أحداً يدري ما حاجة السيد، المنتصر نصراً إلهياً، إلى هذا الوصف التشريحي لمغانمه ؟
هل يسيء السؤال إلى مكانة ودور كنا حسبنا، سنوات أنهما يلبيان طموحنا إلى السيادة والاستقلال؟
هل التصريح بنفور البشر من حديث يفوق طاقة البشر على الاحتمال، خيانة ؟
نحسب أن ما عبر عنه الرئيس الجميل (مشكورا) لم يكن استياء، بل ذهول حيال ما آلت إليه انتصاراتنا التي يزعم أنها باسم لبنان. ولا يحق للبناني أن يتحدّث عنها. وأنها جرت وتجري باسم جمهورية لبنان.
باسم أشلاء الجمهورية.
ما أراد أن يقوله الرئيس الجميل أننا لا نحتاج إلى غلواء السيد لكي نعادي إسرائيل ولكي نحاربها. وبعضنا حاربها قبله. وبعضنا استشهد قبل رجاله. مجاناً. إي والله. ولا حتى من وعده بالجنة.
2
“شلو، جمعه أشلاء. ويروى شلواً من جهنم قطعة منها، ومنه قيل للعضو شلو لأنّه طائفة من الجسد… وأصل الشلو بقية الشيء… والشلو والشلا: الجلد والجسد من كل شيء، وكل مسلوخة أكل منها شيء، فبقيتها شلو وشلا”. (ابن منظور)
3
من أشلاء القتلى الإسرائيليين إلى أشلاء الجمهورية.
السيد يقبض اليوم على أشلاء أخرى قد تكون أغلى ثمناً.
أشلاء الجنود الإسرائيليين قد تعيد أسيراً أو اثنين أو مئة. ربما. لا أحد يدري.
غير أن أشلاء الجمهورية التي يقبض عليها السيد سوف تعيدنا، جميعاً، إلى عهد الولاية. الفقيه أو غير الفقيه. إلى ولاية الحشود الغفيرة التي تهتف باسمٍ واحد وحيد.
ولاية (الشيخ) نعيم قاسم على أفهامنا ومسامعنا.
ولاية (السيد) نواف الموسوي على سياستنا الخارجية.
ولاية (النائب الحاج) محمد رعد على دستورنا.
ولاية المقاومين المدنيين المزودين بأجهزة اتصال حديثة الموزعين على نقاط استراتيجية لتوجيه، ثم ضبط أعمال الشغب المتنقل في الشوارع والذي يسميه البعض “بروفا” لثورة الجياع؛ والبعض الآخر “مناورة”، وفاء لتاريخه العسكري.
4
من التاريخ العسكري إلى التاريخ العسكري، على سبيل المثال لا الحصر:
هناك محلل استراتيجي تستضيفه تلفزيونات هذه الآونة يدعى العقيد الركن (أو العميد الركن، لا ندري حقاً ما كانت رتبته قبل التقاعد) المتقاعد أمين حطيط.
لا نعرف عنه شيئاً ولم نسمع به من قبل، غير أن كلامه لفتنا مساء الأربعاء المنصرم، على إحدى الشاشات الشغوفة بالتحريض، حين قال ما معناه إن تحرك المعارضة في الشارع هو شغب غير أن المهم ألا يخرج الشغب عن السيطرة“!
نسأل العقيد أو العميد المتقاعد، الخبير: هل الشغب مشروع؟ وما الذي يضمن عدم خروجه عن السيطرة؟“
لو كان العقيد من قدامى مشاغبي أيار 68، أو من فلول فوضويي القرن التاسع عشر لتفهمنا قوله، ولكن لم نجد ما يشير إلى أنه كذلك.
فالعقيد من المدرسة الأمنية السورية على ما يبدو. لذا فاجأنا حديثه المستفيض عن محاسن الشغب المضبوط. أو لعلنا حمقى إذ لم ندرك أن العقيد يتحدّث فيما يعرف جيّداً ويجيد.
5
جاء سلطانوف يوم الأربعاء المنصرم بقبعته الجميلة ولكنته العربية المحببة إلى بيروت قادماً من دمشق للبحث في قضية انتخاب رئيس الجمهورية العالقة.
سلطانوف كان يستثني بيروت من زياراته العديدة إلى المنطقة. وكنا نفهم دافعه إلى ذلك. حكومة بوتين لن تبيع أنظمة صواريخ وطائرات حربية ولن ترسل خبراء في أي إلى لبنان.
وسلطانوف لن يضحي بعقود نووية بمليارات الدولارات مع إيران، في سبيل الاطلاع، مجرد الاطلاع على “المشكلة اللبنانية“.
6
طبعاً أحب فيروز.
ولكن سياسة أو لا سياسة أرجو ألا تقيم حفلة في سوريا هذه الآونة.
لا ليس لأن امتناعها سوف يحرم الشعب السوري من حضورها. فالشعب السوري محروم من حضورها بأية حال.
ولكني لو قيض لي أن أكون بمكانتها، لما أسهمت في تعزيز سلطة حكم بشار الأسد. لأن دمشق عاصمة للثقافة العربية، وهي كانت وسوف تكون بالطبع، ولكن ليس تحت راية البعث.
القوميون من أصدقائنا السوريين سوف يغضبون من كلام مماثل. لا بأس.
غير أنني لا أتخيل فيروز منشدةً بصوتها في قلب “الرايخستاغ “.
وبأية حال سوف نحب فيروز مهما فعلت.
7
دائماً تقول دمشق ما لا تُضمِره. أو أنها تجعل من قولِها احتمالاً لتأويل.
كذبة مؤتمر الفصائل الفلسطينية التي عقد فيها، كذبة واضحة.
إلى خطابة المفوهين أمثال خالد مشعل وشلح وأحمد جبريل الذين دعوا بالإجماع إلى تكريس دولة غزة “الأبعد اليوم عن العالم”، كما تقول صحف العالم، اختار تلفزيون الجديد أن يجري حواراً مقتضبا مع “المناضل” أحمد جبريل لكي يقوله كلاماً مفيداً في التوطين الذي اكتشف الجنرال عون، وربما بحسب مصدر جبريلي مجهول، أن الرئيس الشهيد الحريري كان يعمل لأجله.
من يسمع “الجديد” يخيل إليه أن المدعو أحمد جبريل كان يعمل في لبنان لأجل المدنيين الفلسطينيين. وأن غزّة هي كومونة العصر الحديث.
يبذل مشعل وشلح وجبريل وأمثالهم المستحيل لكي تجوع غزة. فلولا جوع غزة لما تمكن أي منهم من تنظيم مؤتمر، وفي دمشق الحريات، لتحميل العالم مسؤولية جوع غزة.
مضحك مبك نبأ استخفاف العقول.
غير مضحك لكنه مبك إصرار “الجديد” على ركوب موجة السبق ولكن من دون صحافة. لا بل بكثير من الغل.
العزيز جفري، تفتتح المحطة نشرتها الإخبارية، كأنّها بذلك تستجدي عاطفة المعترضين على السياسة الأميركية.
أما الحقائق جميعاً فهي لدى “العزيز وليد المعلّم” أو لدى سيادة أحد الرئيسين بشار الأسد الباقي، وإميل لحود السابق.
ولكن الأهم هو ما يقوله العزيز جبريل في شؤون لبنان لا بل في شؤون فلسطينيي لبنان.
بهذا المعنى، أنا شخصياً، وليس لأحد أن يتورط معي، أفضل “عزيزي جيفري“.
المستقبل
الاحد 27 كانون الثاني 2008