صفحات أخرى

ما يجمع وما لا يجمع من أمور متفرّقة

null

نهلة الشهال

في نهاية لقاءاتنا الطويلة والاستعادية لسيرة اليسار في لبنان، أسرّ لي الشاب الذي يحضّر دكتوراه في العلوم السياسية في إحدى أبرز الجامعات الاميركية، بأنه يحسد جيلي على وصوله الى هذه الدنيا وإمضائه حياته وهو يحمل قناعات قوية، يعدّلها أصحابها أو ينقلب بعضهم عليها، لا يهم، بينما تغلب سينيكية باردة على اجواء مَن يهتم مِن جيله بالشأن العام.
قلت له إن ذلك مستقل الى حد بعيد عن الارادة، وحاولتُ التمييز بين مجرد مفهوم عُمري للجيل، وبين بروز ظواهر متكررة في التاريخ، لـ»أجيال» بالمعنى الدينامي للكلمة، تحمل مقاربة عامة تحوز على قدر من المواصفات «المنتظرة»، أي أنها بمعنى ما تراكمية وضرورية وتمثل نقلة، ما يؤدي الى طبعها لزمانها، أو ما كان يسميه الشاب بالهيمنة على السياسة والثقافة، مستطردا أن جيلي ما يزال يمارسها، بدلالة مجموعة أسماء راح يعدها أمامي.

وتشعب النقاش الى الخوض في الاستمرارية التاريخية والانقطاعات، والمسؤوليات والخيبات… وكانت صغيرتي قد عبرت عن الشعور ذاته «بالغيرة»، في ختام احتفالنا ببلوغها العشرين من العمر، ومن أنه رغم المآسي والمخاطر التي خضنا فيها، فهي تقف أمام عالم تجده مسطحاً. وراحت هي الاخرى تعدد الاسماء في الموسيقى والسينما والادب، وليس في الافكار والحركات السياسية فحسب، وليس في بلداننا فحسب بل في العالم، التي رافقتنا ولا تجد لها معادلاً الآن.

حضر كل ذلك في نفسي حين طُرحتْ مشكلة الدعوى المقامة على مجلة «الآداب» البيروتية، الصادرة عن «دار الآداب» الشهيرة. تذكرتُ أغلفة الكتب المترجمة، تلك التي من القطع الكبير والتي يحمل كل واحد منها لوحة مرسومة لشخصيات رئيسية من الرواية، فيها قدر من التعبير عن «وضع» ومن الكاريكاتور الذي ينقل أجواءها.

وكيف كان أبي يعود بها كمن يحمل كنزاً، ويمضي فوراً في قراءتها ثم تذهب الى رف من المكتبة، الى حين كبرنا كفاية لنعود فننزلها منه. وكان سهيل إدريس غالباً ما يتولى بنفسه الترجمة حين يكون الكتاب مترجماً، والتقديم بالطبع وفي كل الاحوال، فحفظنا نحن الصغار إسمه قبل أن نعرف التتمة. وسمعنا بالفلسفة الوجودية قبل أن نتعرف عليها

ولا أدري لماذا تغلب في ذكرياتي تلك التي باتت قديمة جداً، كتب جان بول سارتر، على رغم أن «دار الآداب» تولت منذ بداياتها تقديم أهم أدباء المنطقة العربية، من مصريين وعراقيين وسواهم، وما زالت تفعل الى الآن، وبعضهم تربطني به معرفة شخصية بل صداقة… ثم إن مجلة «الآداب» تتناول موضوعات ومحاور تعبر كلها بعمق وجرأة باتا مفتقدين عن هموم وانشغالات اللحظة… من فاته المحور عن الطائفية، فليسعَ الى الحصول على الاعداد التي عالجته، وهذا مثال من بين سواه. وعلى أية حال، لا موجب للبرهان على البديهيات: أن «الآداب» صرحٌ ركنٌ من صروح الثقافة في المنطقة العربية. يسأل أحدهم إن كان ذلك يعفيها من «الالتزام بالقانون»، وهو ما يفتح نقاشاً كاملاً حول طبيعة قانون المطبوعات اللبناني من جهة، وحول ارتباط التقدم بالتجاوز على القائم وبالانشقاق عنه، على فرض أن ذلك قد حصل في مثال «الآداب» هذا الذي يجرجرها أمام المحاكم لأنها طرحت مسالة احتواء المثقفين العرب من قبل قوة الهيمنة والاحتلال الاميركية، وأدواتها المحلية المتوزعة بين تلك المدعية للحداثة والاخرى الطائفية أو الاثنية. هذا فيما لو تركنا النقاش السياسي جانباً، وهو في صلب الموضوع المطروح ويمثل، شئنا جميعاً أم أبينا، عقدته الرئيسة.

والنقاش السياسي يتناول انشطار الوسط الثقافي بين قلقِين، يعيدون بلا كلل تفحص وتناول الواقع كما يقدم نفسه، ويسعون الى تلمس الثغرات التي تسمح بالتمرد عليه، وبين وثوقيين قرروا الالتحاق بالواقع كما يقدم نفسه، فسقطت من أمام أعينهم مقاييس ربما اعتدّوا بها في أحد الايام، تميز بين مقبول وغير مقبول. يسخر هؤلاء من التمسك بتلك المقاييس/القيم، ويرونها في أحسن الاحوال تعبيراً عن افتقاد للواقعية، أي عن مثالية ساذجة. أو، وهو الاخطر، لا يلتقطون مما تعبر عنه إلا «الحصيلة»، اي رد الموقف الى انتماء اجباري الى المعسكر المقابل لهم في الصراع القائم أو الجاري. فلنتذكر تلك الثنائية الاختزالية التي طغت طوال سنوات الحصار على العراق ثم الهجوم عليه واحتلاله، ثنائية كانت تحاول رد كل موقف مناهض للحصار والعدوان الى مساندة لنظام صدام حسين. وقد توسل دعاتها المنطق نفسه لتبرير انحيازهم للأميركان، كفرصة وحيدة متاحة للتخلص من ذلك النظام. وما زالت تلك الحالة المَرَضية قائمة الى اليوم، وهي تجسد استقالة اصحابها التامة من مهمتهم الثقافية/ الفكرية، وانحيازهم، بدعوى الواقعية، الى المقاربة الآنية والميكانيكية للواقع، تلك التي تجعل الشاب الطالب في كولومبيا سينيكياً وتجعل ابنتي حزينة، يفتقد كلاهما الحلم الذي قاتل جيلي من أجله، وانهزم، فطوى عليه بعض افراده الروح، وظل يتلمس له آمالاً، ويستطلع ارهاصات، ويعاند، مرتضياً الا يكون سوى بقايا شواهد لعلها تصلح جسراً في ما بعد، فيما جاهر آخرون بنيّة التخفف منه الى آخر مدى، الى مدى الانتقال الى الضفة الاخرى

وذلك ما يجعل البعض لا يقوى على السكوت عما يجري في فلسطين – وهي تجسيد يكاد يكون صافياً لمثال عن مقاييس/ قيم تخص العدالة والحقوق. وهو يعاند على رغم أن ميزان القوى الواقعي ليس لمصلحة ابنائها، ويسعى الى ابتداع وسائل حتى لا يلتئم الشرخ فتتم السيادة الكاملة لمنطق القوة المتحرر من المقاييس/ القيم… ويتم قتل الناس وسط صمت أو عدم اكتراث الآخرين، أو عجزهم المفترض، وتصبح الشطارة هي في الافلات من موقع القتل، بل ربما في المشاركة فيه طالما يتقوى منطق اختزال الواقع الى ثنائيات ينبغي الاختيار بينها.

هل يبقى واحدنا انساناً حين يرى ما يجري اليوم في غزة ويسكت؟ سؤال ساذج ولا شك، ولكن متى يغضب واحدنا؟ وهل يحق بعد ذلك للديموقراطيين والليبراليين التأفف من سطوة الاسلاميين، وهم وحدهم من أخرج هذا الاسبوع مظاهرات إحتجاجية في المغرب ومصر والاردن والبحرين– مظاهرات اتسمت بالمحدودية والانضباط الشديدين، مما يشير هو الآخر الى الحسابات الجارية، لكن ذلك موضوع ثانٍ

وذلك ما يجعل وزارة الثقافة في فرنسا، (وبعدها في ايطاليا، والارجح أن الحبل على الجرار)، تتجرأ على إجازة دعوة اسرائيل هذا العام كـ»ضيف شرف» الى معرض الكتاب الدولي الذي تقيمه، تحية منها للذكرى الستين لإنشائها، اي انشاء اسرائيل.

هذا ما سيحصل في باريس، في منتصف آذار (مارس) المقبل، وفي تورينو في ايطاليا أيضاً. فهل من أقدم على ذلك طبق مبدأ القراءة المتوازنة للواقع؟ وما هو الواقع، كيف يُحصر ويعرّف؟ سؤال برسم «واقعيينا» العرب، يفتح ملفات مجلة «الآداب»، واحتلال العراق، والاستقطاب المذهبي أينما كان، وقتامة الوضع في فلسطين، ومذبحة غزة، وغيرها وغيرها… وسينيكية ذلك الشاب وحزن تلك الصبية، يفتحها على بعضها، عسى تشعل رؤية الرابط بينها بصيص ضوء.

الحياة – 27/01/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى