صفحات أخرى

برنارد لويس في كتابه الأحدث “الإيمان والقوة

: الدين والسياسة في الشرق الأوسط”: استعادة مشبوهة لأحقاد دينية مزعومة بين العرب والغرب
جهاد الترك
… وفي الرابعة والتسعين تعرّى من عباءته الأكاديمية. انتزعها من على قامته الاستشراقية وارفة الظلال انتزاعاً كمن يسلخ الجلد عن العظم. والأرجح انه بات، وهو في أرذل العمر، يفتقر إلى الاثنين معاً. كان يتدثر، في السنوات الخمسين الماضية بأردية ناعمة الملمس من البحث العلمي الموثق، كما يزعم، في التاريخ الإسلامي. ولعله أقام شهرته المتمادية على أنقاض الامبراطورية العثمانية التي راح يستخدم انسحابها من المسرح الدولي ذريعة في سائر مؤلفاته، للطعن في مشروعية الوطن العربي، مجتمعات ودوائر جغرافية. بدا، منذ العقد الثامن من القرن المنصرم، مصراً على ممارسة التزوير في “أوراق رسمية”. استخدم ذخيرته الثقافية التي كوّنها على نحو انتقائي مشبوه ليزعم بأن الارث الديني التاريخي الاجتماعي للعرب، في اشكاله الراهنة، يحيلهم عبئاً ثقيلاً لا جدوى منه في المنطقة الحضارية التي شكلوها منذ أقدم الأزمنة. رأى ان شيئاً ما من هذا القبيل يمكن القيام به في اللحظة المناسبة. وكلما استبعد تأجيل هذه اللحظة “الحاسمة” بدت احتمالات تحققها أقرب إلى المنال. وكلما جرى التغاضي عنها لاعتبارات مختلفة، ازدادت تجذراً في الزمان والمكان والانسان. كان ثمة ما يحمله على الاعتقاد بأنه صاحب رسالة حقيقية لا بد من إبلاغها قبل فوات الأوان. بدا مستسلماً لهذا التصور منقاداً له على نحو من الهوس المرَضي المستحكم إذا جاز التعبير. على هذا الأساس من الدوامة المفتعلة التي ألقى نفسه في أتونها، وبدافع من حالات الاختناق التي كانت تنتابه، ورغبة منه في الرهان على الوقت، أوصى ذات يوم بأن يصار إلى استخدام علاج الصدمة القاتلة. دعا بإلحاح، الإدارة الأميركية أثناء ولاية الرئيس الأسبق جيمي كارتر إلى الشروع فعلاً في اعتماد استراتيجيا طويلة الأمد لتقطيع حيز واسع من الجغرافيا الإسلامية وكل الجغرافيا العربية على نحو من الفسيفسائية الهندسية غير المتناغمة: بؤر يعاد تكوينها على وقع شراذم عرقية وطائفية ومذهبية وسواها، يربط بينها جميعاً خطوط غير مستقيمة تصب في خانة المصالح العليا بعيدة المدى للولايات المتحدة. ومع ذلك، كان ثمة أسباب أخرى أكثر خطورة واستدعاء لشياطين النهار وكوابيس الليل: إسرائيل التي ينتمي إليها بالعقيدة الدينية، ويستلهمها مثالاً لما ينبغي أن يكون عليه الشرق الأوسط في حاضره الملتبس ومستقبله المجهول ومصيره الذي يجب أن يبقى رهينة دائمة في كف عفريت. نجح برنارد لويس، على هذا الصعيد، نجاحاً باهراً، والأرجح فريداً من نوعه، في أن يثبت على الملأ بأنه يحتل مقعداً متقدماً للغاية في نادي اولئك المستشرقين الذين يتوهمون كثيراً، يستوحشون كثيراً ثم يتذوقون كثيراً طعم المرارة. اجتهد طويلاً في سنواته التأسيسية الأولى لينضم إلى هذه القافلة القبيحة التي كانت ترى، ولا تزال، في الجغرافيا العربية مختبراً مشوقاً يجري فيه تصنيع التاريخ على غير مثال. بدا أميناً لنمط مستهجن من الاستشراق يخيل إليه أن الوطن العربي يشكل فرصة تاريخية، بكل المقاييس، لإعادة إسرائيل إلى التاريخ، علماً انها لم تكن حاضرة فيه على الاطلاق.
في كتابه الأحدث الصادر عن “منشورات جامعة اوكسفورد” في الولايات المتحدة في شهر أيار مايو الماضي، لا يبدي برنارد لويس ما يشير إلى رغبته في التكفير عن آثامه الأكاديمية التي اقترفها بحق الجوانب الإنسانية المضيئة في الثقافة الغربية. الكتاب بعنوان “الإيمان والقوة: الدين والسياسة في الشرق الأوسط”. وقد تعمّد، في هذا الإصدار أن يتوّج سنواته الطويلة التي أمضاها قلقاً على مصير إسرائيل وخوفاً من حسابات غير متوقعة، بأن يعيد صوغ تصوراته الاستشراقية على نحو أعنف وأكثر تطرفاً وجرأة على العبث المبتذل في حقائق الحضارة والثقافة في محتواها الإنساني. الكتاب، على هذا الأساس، يدور في الحلقة المفرغة عينها التي لم يستطع التملص منها أبداً. ولأن الأمر كذلك، على الأغلب، يستدرج لويس هذه المرة كمّاً وفيراً من فضلات فكرية لم يعد الاستشراق الحديث يكترث بها أو يتطلع إلى الافادة منها.

لا يقع هذا الكتاب، على الأغلب، في المنظومة الأكاديمية التي درج عليها برنارد لويس منذ أن راح يتسلق جبل الاستشراق ذا المسالك الوعرة. اعتاد في مؤلفاته السابقة منهجاً هو أقرب إلى التقاطع بين البحث العلمي وتحليل الوقائع والمعلومات التاريخية على قاعدة من قناعات مسبقة إذا صح التعبير. نادراً ما كان يخرج عن هذا المنحى التقليدي السائد في الوسط الاستشراقي وفي دوائر ما يسمّى صناعة البحث العلمي.
وبمعزل عن هذا التوجه الراسخ في الجامعات الأميركية والأوروبية، كان لويس دائم الخشية من أن يفقد جزءاً ملحوظاً من بريقه الاكاديمي وسمعته العلمية إذا ما أقدم على وضع كتاب مشابه لإصداره الأحدث يخلو من التوثيق الدقيق للأحداث والمعلومات والوجوه والشخصيات وسائر ما يمكن اقتباسه على هذا الصعيد. بضربة واحدة مفاجئة، يعلن لويس تمرده على أنماط الكتابة التي كان يتوسلها قبل عمله الأخير. ينتفض على نفسه وكأنه يتبرأ منها أو ينتقص من قدراتها أو يتبرم منها في أحسن الأحوال. والأغلب أنه يلتف عليها بانتهازية مثيرة لكثير من الجدل وقليل من الاعجاب. قرر، في نهاية المطاف، أن يستبعد من معادلاته الفكرية التقيد الصارم بمناهج البحث التي أطلقت شهرته في الأروقة الاكاديمية والثقافية، وعلى نحو خاص السياسية والاستراتيجية. وهو إذ يفعل ذلك، فإنه يمزّق الصفحات التي طالما اعتبرها الأهم والأكثر تألقاً في حياته المريرة. يكاد إصداره المذكور الذي تتقاذف اصداءه الدوائر المعنية بالشرق الأوسط في الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل، وعلى نحو أقل دوياً في الوطن العربي، أن ينسجم مع هذه التصورات بشكل أو بآخر. لا قيمة أكاديمية على الأغلب، للكتاب المذكور. لا جدوى استثنائية من قراءته أو تصدره مرجعاً يمكن الاحالة عليه، أو حتى إدراجه في المناهج الاكاديمية التي طالما سعت إلى الاسترشاد بآرائه الاستشراقية التي تستقطب جمهوراً واسعاً من المعجبين بها في الولايات المتحدة.

[ بقايا تأملات
يدرك لويس، على الأغلب، طبيعة هذه النقائص الفادحة التي من شأنها أن تحيل كتابه ضرباً من الآراء الهشة التي لا تستند إلى مرتكزات علمية أو تاريخية أو مرجعية موثقة. يعلم هذا الأمر علم اليقين من دون أي شك في ذلك، وهو الخبير العتيق في استقراء الأحداث التاريخية على نحو يفتقر إلى تحليلها في سياقها الموضوعي. ومع ذلك، يحجم عما درج عليه من مسالك أكاديمية وإن كان يستخدمها في غير مواضعها سعياً إلى إخفاء الحقائق. يتوخى هذه المرة أسلوباً مستسهلاً للغاية يتمثل بالدرجة الاولى في الاحتكام إلى ما تختزنه ذاكرته من بقايا تأملات واجتهادات واهية واستنتاجات متعثرة لا ترقى إلى مستوى التبصّر الرصين. ولعله يدرك أيضاً أنه لا يحتاج، في عمله الأخير، الى ما قد يفرض عليه شروطاً أكاديمية وعلمية لا تفترضها طبيعة المعالجة المتسرعة التي ترخي بظلالها الثقيلة والممجوجة على نص قد لا يستسيغه حتى أقرب الناس إليه والمهللون لقامته “الفارعة”. لماذا يتعرى لويس، والحال هذه، من عباءته الأكاديمية التي لم تكن تفارقه في سنوات انشغاله الطويلة بإعادة تركيب التاريخ الإسلامي من جهة، والعربي القديم والحديث، من جهة أخرى، في قوالب جاهزة تنسجم بالضرورة مع أوهام وترهات وتهيوءات مستسخفة ولكنها ألحقت أضراراً عميقة في بنية الفكر الاستشراقي المعاصر؟ إن أي إجابة عن هذا التساؤل يتبرّع بها الكتاب عينه من دون أن يستدعي ذلك استنفاراً لا طائل منه في البحث والتنقيب. تتملكه رغبة جامحة، متوترة عدوانية وعشوائية أيضاً، في القفز مباشرة إلى سلسلة من الاستنتاجات الضحلة والمفككة التي حالت دون أن يتمكن من الولوج إلى التاريخ من بوابات العقل والاستعلاء على الأهواء والهواجس. نراه يستميت في الكتاب لتنشيط الذاكرة المسيحية القديمة والمعاصرة نسبياً على قاعدة ما يعتبره ثلاث هجمات كبيرة شنها المسلمون للاستحواذ على الجغرافيا الأوروبية ومن ثم استهداف الحضارة الغربية في عقر دارها لإخضاعها للإسلام.
أولاها إقدام المسلمين على غزو المشرق والمغرب وتحديداً لبنان وسوريا والأردن وفلسطين وصولاً إلى مصر وبلدان المغرب العربي انتهاء بفرض سيطرتهم على اسبانيا (الأندلس) وصقلية وسواهما. وقد نجح المسيحيون، بعد قرون قليلة، وفقاً لتعبير لويس، في استرداد هذه المنطقة الحيوية من أوروبا، كما تمكنوا من درء الخطر العربي عن فرنسا. الهجمة الثانية نفذها العثمانيون في القرن الحادي عشر الميلادي عندما حاصروا فيينا وكادوا أن يسقطوها لولا ان استجمع المسيحيون قواهم (وفقاً لتعبير لويس أيضاً) وردوا العثمانيين على أعقابهم. الهجمة الثالثة هي الأخطر بالنسبة إليه، تستند إلى موجات من الهجرة الغفيرة من البلدان الإسلامية إلى نظيراتها الأوروبية، الأمر الذي يصفه لويس بالقول ان انتقالاً للمسلمين كهذا من منطقة إلى أخرى، ليس تسليماً بالارتحال من جغرافيا إلى أخرى. يرى ان ما لم يستطع المسلمون تحقيقه بالحروب والغزوات أثناء امبراطورياتهم السابقة، يسعون اليوم إلى إنجازه بهجراتهم الجماعية التي أسفرت عن خلخلة خطيرة، ديموغرافية وسياسية ودينية في المجتمعات الأوروبية التي حلّوا فيها. والمستغرب ان لويس لا يتطرق إلى موجات التوسع الجغرافي التي نفذتها، على نحو لا سابق له، الأنظمة السياسية في أوروبا بدءاً من القرن العشرين. ويتغافل كذلك عن النزعات الاستعمارية والاستيطانية التي بدا ان الأوروبيين، بآلتهم الفكرية والعسكرية، كانوا يتطلعون إلى صوغ جديد لحقائق التاريخ والجغرافيا واختراع مستهجن للقيم الإنسانية التي شكلت ولا تزال هويات لا بديل منها في البلدان المستعمرة إسلامية وعربية وسواهما.
[ المنحى الديني
من نافل القول استعادة النقاش في هذه القضية بناء على الخلفية المذهبية التي يسخّرها لويس بذريعة ان أي نزاع محتمل بين العرب والغرب، وهو قائم فعلاً، سيتخذ بالضرورة منحى دينياً متطرفاً. وقد لا تصلح معالجة مبتذلة كهذه حتى لقراءة الحروب “الصليبية” التي شنّها الأوروبيون على المنطقة منذ أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، في أبعادها الدينية. كان الذود عن مسيحية القدس، كما اشيع في تلك الأثناء، واجهة فقط وشعاراً براقاً يخفي خلفه أطماعاً استراتيجية وسياسية هي من نسيج الصراع في ذلك الزمن البعيد. والأمثلة على ذلك كثيرة قديماً وحديثاً. ومع ذلك لا يتورع لويس عن استثارة الغرائز الدينية والمذهبية لدى الأوروبيين والأميركيين على حد سواء. وهو يستدل على ذلك بما يسمى اعتباطاً وتزويراً للحقائق وإمعاناً في الجهل المنظم (الإرهاب الأصولي) الذي بات يستخدم الإسلام حافزاً للتحريض على الغرب لإقامة نوع من توازن الرعب بين الطرفين. والأغلب ان لويس يدرك في قرارة ذاته الحجم المذهل للتورط الأميركي في استفحال هذه الظاهرة منذ الغزو السوفياتي لأفغانستان في نهاية العقد الثامن من القرن الماضي. وهو يدرك أيضاً ان ثمة إرهاباً تقشعر له الأبدان تمعن في ممارسته دول عظمى متعددة. غير انه لا يقرأ إلا في كتاب الحروب الماضية بين الدول الإسلامية المختلفة ومثيلاتها الأوروبية، معتبراً إياها القاعدة التاريخية الأساس التي تشير، على الدوام، إلى أرجحية الحقد الديني بين الطرفين على أي سبب آخر. وقد يبدو معذوراً في ذلك، إذا صح القول. فنظرته إلى التاريخ بين الأمم والشعوب والمجتمعات غالباً ما لا تحيد عن المغزى الخرافي لتفسير الأحداث الكبرى التي تشكل منعطفات بارزة في تطور البشرية أو تقهقرها. واستناداً على الأرجح، إلى نمط من الفكر اليهودي المتزمت، دأب برنارد لويس، منذ بداياته “المظفّرة”، على التشبع إلى حد التخمة، بأن الحروب والنزاعات بين البلدان والحضارات والمجتمعات هي المعطى الأساس الذي يستولد التاريخ. ثم راح يطور هذا المفهوم، رويداً رويداً، وفي ذهنه ان التناقض في المصالح والتضارب في الاستراتيجيات والقلق على المصير، لا تشكل وحدها أسباباً موجبة لاشعال فتيل الحروب. وهي وإن بدت كذلك، على الأقل في الشكل، فإنها في المضمون توحي بأسباب أخرى دفينة في اللاوعي، إذا جاز التعبير. سرعان ما تستفيق من سباتها لتضفي على الحرب بعداً حقيقياً، جاعلة من النزاع فرصة لا بد منها لإلحاق الأذى الفادح بالآخر. والمقصود بذلك الخوف المروّع على العقيدة الدينية التي يترجمها برنارد لويس في إحالاته الكثيرة على الصراع الديني بين “المسلمين والمسيحيين”، استيقاظاً ضرورياً لغرائز الدفاع عن الحياة والذات.

[الهجرة إلى الغرب
إن غمزه من قناة المهاجرين المسلمين والعرب إلى البلدان الأوروبية قد ينطوي على شيء كثير من هذا التصور المشبوه. يكاد يتفوّه مباشرة غير أنه يُحجم عن ذلك، بأن الديموغرافيا الإسلامية العربية في مجتمعات الغرب تستبطن في داخلها مشروعاً محتملاً لنزاع ديني عنيف من هذا النوع. والأرجح أن عقله اليهودي الذي ينفر، في طبيعته، من أي حالة محتملة لإشاعة الاستقرار في الدائرة الاقليمية والساحة الدولية بشكل عام، يدفعه دفعاً إلى الرهان على نزاعات كهذه. فالمسيحية كما الإسلام، في التصور اليهودي لصيرورة التاريخ، وجهان لعملة واحدة في نهاية المطاف. وكلاهما يبعثان، في قناعاته الملتبسة، على محاولة التصدي لكل منهما استباقاً لما قد لا يستجيب للمصالح الغامضة للكيان الإسرائيلي. وفي هذا يتنطّح لويس لاستكمال حلقات خطة وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر. وقد ارتأى الأخير أن تبادر الولايات المتحدة، وقتئذٍ، إلى استعجال العمل لوضع سيناريو من شأنه أن يفتت المنطقة إلى دويلات أصغر حجماً، أقل تأثيراً في حركة السياسة الاقليمية، أكثر قابلية للمشاركة في انفجارات دينية ومذهبية وعرقية محتملة. بدا كيسنجر في أحلامه السياسية المفبركة، ابناً باراً للحرب الباردة التي كانت تملأ الفراغات المفترضة على حلبات الاشتباك بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. بدوره، بدا برنارد لويس تلميذاً نجيباً لمرحلة من التصادم، فُرضت قسراً على المسرح العالمي بعد زوال الاتحاد السوفياتي. وقد عبّر عنها المفكر الأميركي، مطلع التسعينات الماضية، صاموئيل هانتنغتون بالقول إن الصراع المرتقب بين اللاعبين الكبار على رقعة الشطرنج الدولية سيتخذ مساراً عنيفاً في المستقبل المنظور بين الأعراق الكبرى واتباع الديانات والمذاهب الأكثر انتشاراً في العالم. ولعل ما يجمع بين لويس وكيسنجر وهانتنغتون، أن كلاً من هؤلاء مشبع باعتقاد يفيد بأن التاريخ ينطوي في مسيرته على ثغرات محتملة أشبه بالتصدعات، يمكن استغلالها لحمل التاريخ نفسه على تغيير طريقه في اتجاه محطات غير متوقعة لم تكن في الحسبان. ومع ذلك، يبقى لبرنارد لويس خصوصية محددة يتجاوز بها زميليه مردّها إلى الكيفية المتوهمة التي تفترض توافر سيناريوات هي من نسيج الاستراتيجيات الجاهزة للتطبيق الفوري أو التدريجي لحماية إسرائيل من التآكل. وتستلزم هذه الخطط، على الأرجح، أصنافاً من التصورات الخبيثة في إعادة تأويل التاريخ القديم والمعاصر. وهذه تشمل، في هذا السياق المزعوم، محاولة أكثر خبثاً لتأويل الجغرافيا ومكوناتها الديموغرافية. من هنا، قد يفترق لويس عن أستاذه الأكبر هانتنغتون، في أن هذا الأخير قد خيّل إليه بأنه اهتدى إلى رسم الخطوط العريضة لصدام مرتقب بين الحضارات العظمى. بينما خيّل إلى لويس أنه اهتدى بدوره، بدافع من هوسه اليهودي الضيق، إلى تفجير نظرية زميله من داخلها لتتحول شظايا صغيرة يمكن استثمار كل منها. فأقدم على إقحام الدين اليهودي في قلب هذا الصدام معتبراً أنه جزء لا يتجزأ من معادلة الصراع ولكن في الجغرافيا العربية على وجه التحديد.

[ دائرة النخبة
ثمة هالة من “القداسة” الأكاديمية تحيط بهذا المستشرق الذي انحاز، عن قصد والأغلب عن سابق تصور وتصميم، إلى المعسكر المرذول في جبهة الفكر الاستشراقي. ويبدو أن انصرافه المبكر إلى قراءة الإسلام في شكله العثماني، لم يكن اعتباطياً أيضاً أو التزاماً منه بالاطلاع المعمّق على هذه الحلقة الهامة من الحضارة الإسلامية. بدا أن ثمة ما يشير، في سياق الجوانب الغامضة من حياة لويس، أنه كان يعد نفسه جيداً، بدعم قوي من اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة وأنصاره ووكلائه في مراكز القرار السياسي تمهيداً لانتقاله التلقائي من الوسط الأكاديمي إلى دائرة النخبة السياسية التي تحيط بالإدارات الأميركية، والأرجح أنه حقق في هذه النقلة النوعية نجاحاً منقطع النظير في زمن قصير نسبياً فاق توقعاته الشخصية. وليس مستغرباً، في هذا الإطار، أن كتاباته المكثفة حول التاريخ الإسلامي، إضافة إلى محاضراته الجامعية والندوات التي كان يعقدها على نحو موسمي، كانت تسير جنباً إلى جنب مع تقدمه المثير للجدل في صفوف النخبة المذكورة. ولم تكن الرعاية التي حظي بها من قبل هنري كيسنجر، وهو النجم اليهودي الأكثر التماعاً في المشهد السياسي بدءاً من ستينات القرن الماضي، من قبيل المصادفة أو نتيجة لذكاء استثنائي لدى برنارد لويس. بدت الإدارات التي تعاقبت على السلطة في الولايات المتحدة، منذ التاريخ المذكور، متعطشة إلى نمط من الذهنيات المغايرة التي بمقدورها أن تطرح بجرأة نظريات لاحتواء الشرق الأوسط إبان ذروة الحرب الباردة بين الجبارين الأوحدين. ولعل لويس كان مهيأ بالفعل لأداء أدوار محددة على مستوى الصراع الملتهب بين العرب وإسرائيل. شكل إحدى المرجعيات الخطيرة التي استخدمتها إسرائيل في غزوها لبنان في العام 1982. وقد اجتهد لويس في تلك الحرب المجهضة في أن يثبت لزملائه في حلقة المستشارين الضيقة، بتوصية مباشرة من معلمه كيسنجر، أن نظريته حيال شرذمة الشرق الأوسط صحيحة بالمطلق وهي على وشك أن تؤتي ثمارها. وفي عقله المهووس بالكيان الصهيوني، كان يعتقد جازماً، إذا صح التعبير، أن الأوان قد آن لتتحرر إسرائيل من أغلال الخوف وعقدة “الاضطهاد” من خلال توجيه ضربة قاضية إلى ما يسمّى عروبة المنطقة بتقسيمها أولاً ومن ثم بعثرتها إلى فضلات مذهبية وعرقية. ومع ذلك، خاب ظنه، فقد انسحبت إسرائيل من لبنان وهي تجر أذيال الخيبة. وتكللت نظرية لويس بالفشل الذريع من دون أن يبدي استعداداً يُذكر ليعلن هزيمته الفكرية.
في العام 2003، كان لويس على موعد آخر مع نظريته المؤجلة قسراً. استعين به من جديد ليضفي على الغزو الأميركي للعراق، كغيره من الاستراتيجيين الأميركيين أو من أصول يهودية، بُعداً فكرياً تفتقر إليه الإدارة الأميركية عندما تأخذها العزّة بالإثم. عندما تستخدم جبروتها العسكري وهي تسعى إلى حمل التاريخ على تغيير مساره بقوة النار والتلويح بما لا يحمد عقباه. بدا الرئيس الأميركي، في تلك الأثناء، جورج بوش الابن، في ذروة انتشائه وغطرسته، وهو يرقب من موقعه البعيد، تحوّل الولايات المتحدة إلى امبراطورية حقيقية. ومن حوله أركانه من فلول المحافظين الجدد الذين كانوا يتأهبون فعلاً لإحكام السيطرة على مقاليد السلطة في أميركا. باعتبار أنهم الوحيدون القادرون على الانتقال بالبلاد من الدولة العظمى إلى الامبراطورية الأعظم في التاريخ. كان برنارد لويس واحداً من هؤلاء الذين راحوا يستمتعون بتحقيق “نبوءتهم” هذه انطلاقاً من “سلخ” العراق من جلده العربي، بأن أطلقوا على أنفسهم لقباً مضحكاً هو “آلهة الحرب”. والأغلب أنهم كانوا يقصدون بذلك، أن التاريخ العنيد يتعذر ترويضه أو تدجينه أو إعادة تشكيله إلا بالحرب. بدا لويس ممتلئاً بهذه الايديولوجيا التي لم تخطر حتى على بال الامبراطورية الرومانية القديمة. ولا يزال على موقفه عينه على الرغم من تحول نظريته ضرباً من الوبال على إدارة الرئيس بوش داخل الولايات المتحدة وخارجها. وقد تسلل باراك أوباما من بين ظلال التعثر الأميركي في المستنقع العراقي إلى البيت الأبيض موجهاً ضربات موجعة غير مميتة إلى كتيبة “آلهة الحرب” وقد أصبحت نموذجاً فاقعاً للهرب من المسؤولية من الأبواب الخلفية.

[ الرهان على الحرب
ومع ذلك، يبدو لويس مصراً على التشبث بنظرياته التي قد تعجل في ذهاب الولايات المتحدة إلى الجحيم من دون تردد. لم يسترشد بتبعات التورط الأميركي في العراق. والأرجح أنه لا يزال يراهن على اشتعال حروب أميركية وإسرائيلية أخرى أكثر التهاباً في المنطقة. من هنا، قد نفهم لماذا بنى كتابه المذكور بالكامل، على شعار هو أقرب إلى الدعوة إلى الحرب الدائمة على المجتمعات الإسلامية والعربية. يقول في إصداره الجديد: إما أن ننجح في إقامة النظام الديموقراطي في العالم العربي، وإما لن يكون بمقدورنا ان نتجنب الخراب الذي سيحل بالغرب، وبالتحديد الولايات المتحدة. والأغلب أنه وضع هذا الكتاب من أجل أن يذكّر الأميركيين والأوروبيين، أسوة بالتهويل من هجرة المسلمين والعرب إلى المجتمعات الغربية، بأن لا خيار أمامهم إلا بالاستعداد الدائم للدفاع عن أنفسهم وعن إرثهم الثقافي. وهذا لن يكون إلا باستعجال الحرب وليس بتأجيلها. وهو يغمز بذلك من قناة الحصار العثماني لأسوار فيينا وسقوط عدد من بلدان أوروبا الشرقية في ذلك الزمن البعيد.
إن المضي باللعب على أوتار القلق مما يسمّى استسهالاً الظاهرة الأصولية المنبعثة من جديد، قد يُعزى بشكل أو بآخر، إلى سلسلة التصدعات التي أصابت نظرية لويس وسواها في الصميم. ومع ذلك، فهي تختزن في داخلها إقراراً صريحاً وميلاً ايديولوجياً جارفاً إلى الاعتقاد بأن المجتمعات العربية والإسلامية لن تشهد أي محاولة موضوعية للتحول نحو الديموقراطية والحياة المدنية. يبحث لويس عن الأسباب الموجبة التي تحول دون ذلك، فلا يعثر إلا على الحافز الديني الذي يعرقل هذه النقلة. وعلى غرار ذلك النفر المستهجن من المستشرقين الذين يرون في هذه المسألة سبباً دفيناً في الذهنية التاريخية للمسلمين، يرفض لويس رفضاً قاطعاً مقاربة التحول الديموقراطي المفترض في المجتمعات المذكورة إلا من هذه الزاوية الحادة أو المفبركة على الأغلب. ويتناسى، في الوقت عينه، العقل اليهودي الذي يصنع ديموقراطيته المزعومة على إيقاع الخرافة التوراتية والأساطير التلمودية المملّة.
من الساذج الاعتقاد بأن برنارد لويس شاء أن يختتم حياته الأكاديمية والسياسية بكتاب استجمع فيه أفكاره الرتيبة من هنا وهناك في مؤلفات سابقة. ولو خيّل إليه ذلك، والأرجح أنه يرقص طرباً لهذا الإصرار الذي قوبل بامتعاض واستنكار حتى من بعض زملائه الصقور، فإنه يتعالى بمرارة على خيبات أمله وانكسار خاطره وتهشم نظرياته وسط الفوضى المريبة التي سببتها إدراة بوش للامبراطورية المترنحة. ولو افترضنا جدلاً بأن كتابه الأخير يمثل بالضرورة، زبدة أفكاره التي أودعها مؤلفاته السابقة، لاستنتجنا على الأرجح، عمق الهشاشة التي تكتنفها. ولاستدركنا كذلك أن التوثب الانتهازي الذي رافق لويس، في حياته المديدة، كان قبضاً من ريح وغباراً منثوراً سرعان ما يتساقط من الأعلى إلى الأسفل ثم يضيع رخيصاً مجانياً تحت التراب. ولكن لا يزال برنارد لويس أحد الأوزان الثقيلة في وضع الاستراتيجيات التي تقوم على استثمار التناقض بين الولايات المتحدة والعرب وتوظيفها في إشعال الحروب وتدبير الفتن. والأغلب أن الإدارات الأميركية، اليوم وغداً وبعد غد، لن تقلع عن محاولة تجنيد أمثال لويس ومن يلف لفهم ويتوهم أوهامهم ويدمن على هواجسهم. إنه مزاج الامبراطورية التي تحسب أن لدى هؤلاء وغيرهم حلولاً سحرية لمعضلاتها المتفاقمة. هكذا كانت روما القديمة وسائر الامبراطوريات التي راح الشك والقلق والخوف يداهمها من داخل أسوارها المنيعة. ومع ذلك سرعان ما تقدم الامبراطورية على تسريح هؤلاء من خدمتهم الإلزامية لتستدعي غيرهم.
وهكذا دواليك.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى