صفحات أخرى

“الذكــورة المتمــيّزة” لبــول أكيرمــان: الرجــل الجديــد هــو الأكثــر أنثويــة

رفيف رضا صيداوي
الكتاب: الذكورة المتميّزة: تحقيق حول الهوية الجديدة للرجال
المؤلف: بول أكيرمان
الناشر: روبيرت لافون، طـ 1 ، باريس، 2009 .
الدراسات حول التغيّرات الطارئة على هوية الرجال، في ظلّ التحولات الكبرى التي يشهدها العالم، لا تزال خجولة في مجتمعاتنا العربية عموماً، في حين أن هذه التغيّرات باتت موضوع تأمل الكثير من الباحثين من علماء نفس واجتماع وفلاسفة، بالإضافة إلى الصحافيّين وسواهم من أهل الثقافة والعلم. وكتاب بول أكيرمان لا يخرج عن هذا السياق العام، فهو يتأمل الهويّة الجديدة للرجال التي مهّدت لها برأيه أحداث عام 1968 في فرنسا.
«الطريق الخاطئ» لإليزابت بادينتر، «جمهوريّة النساء» لجاكلين ريمي، «حول الهويّة الذكوريّة» لأوديل جاكوب، «اختلاط الأجناس» لميشيل شنايدر، «الجنس الأول» لإيريك زيمور… وغيرها من العناوين التي تتناول بالدراسة تغيّر أحوال النساء أو الرجال، فيما تتباين الآراء حول مؤيّد ومعارض لتلك التغيّرات.
أكيرمان الذي يحاول في كتابه رسم ملامح «الرجل الجديد»، يدافع من خلاله عن هذه الهويّة الجديدة، وينطلق منذ البداية بتوضيح وجهة نظره مستبقاً النقد والاتهام الذي قد يوجَّه إليه بأنه يفرض هويّة واحدة للرجل الجديد وكأن هناك ذكراً واحداً (بصيغة المفرد) يحاول هو فرض ملامحه بالقوّة. يستبق المؤلف الأمور إذاً، موضحاً أن الصورة التي يرسمها لا تعدو كونها تحمل سمات ذات دلالة خاصة بذكور بداية الألفيّة الثالثة، أي أنها ـ أي هذه الصورة ـ عامة، وتعيّن بعض الاتجاهات أو الملامح الكامنة في هذه الذكورة المتحوّلة من دون أن يعني ذلك سيادة هذا النمط الذكوري الجديد.
أكيرمان الذي دافع في كتابه عن الخصائص البيولوجيّة لكلّ من المرأة والرجل، شدّد على التكافؤ الفكري بينهما، وذلك بالاستناد إلى الشروحات البيولوجيّة. فإذا كان حجم دماغ المرأة يصغر حجم مثيله لدى الرجل بنسبة تتراوح بين 5 و10 %، فإن ذلك لا شأن له مطلقاً بمستوى الذكاء. فدماغ العالم «أنشتاين» كما يورد أكيرمان كان أقلّ وزناً من متوسط الحجم الطبيعي للدماغ بنسبة 10 %. وهذا يعني أن ليس للدماغ جنس. وهذا يعني أنه إذا كان لا بدّ من فهم رجل اليوم، ينبغي البحث في محيطه الاجتماعي. ويتبنّى المؤلف وجهة نظر سيمون دو بوفوار في أن الأدوار الاجتماعيّة هي التي تحدّد ملامح الذكورة والأنوثة.
بماذا يتشابه رجال اليوم؟
للإجابة عن هذا السؤال يستند أكيرمان إلى دراسة عائدة لمجموعة موندادوري للنشر، مبيّناً أن هناك 10 % من الرجال الفحول (الذين يشعرون بالتهديد بسبب تحرّر المرأة)، 24 % من أصحاب الحساسيّة الجديدة (الذين يطرحون أسئلة كثيرة حول علاقة الثنائي، العمل، العالم)، 16 % من الذين يفكرون بالنجاح في المهنة قبل أي شيء آخر، 34 % من الذين يستفيدون من الحياة بالاقتراب بلطف من التقاعد الذهبي، 16 % من الأحرار كالهواء، والطامعين بتجارب متناقضة أحياناً لكنهم مرتاحون في جلدهم. يستعرض أكيرمان هذه النسب ليخلص إلى أن الفئة الأخيرة من الرجال هي التي تضمّ أكثر من الفئات الأخرى، الرجل المتصالح مع نفسه، رجل الأعوام 2010 ، رجل المستقبل أو عنوان الرجل الجديد.
أما خلفيّة هؤلاء الرجال الجدد فتكمن في أنهم أولاً ورثة الجيل الأول من المحدثين، وفي أنهم ثانياً أبناء رجال أكثر أنثويّة ونساء أكثر رجوليّة. إنهم جيل ما بعد 1968 لأن مرحلة «ما قبل» لم تعدُ كونها مرحلة «الفالوقراطيّة» ومرحلة «عصور ما قبل التاريخ». وهو يعتبر أن الفيلسوفة إليزابت بادنتر كانت قد توقّعت منذ العام 1992 مجيء هذا «الرجل المتصالح مع نفسه».
ويكرّر المؤلف أكثر من مرّة أن هذا «الرجل الجديد» لا يعني بالضرورة زوال «رجل العصور الغابرة». الرجل ذو السمة «الفالوقراطيّة» (نسبة إلى الفالوس) ابن قانون نابليون الذي يكرّس الرجل كسيّد مطلق والمرأة كتابعة أو خاضعة. إذ إن هذا الجدّ الغابر ـ بحسب تعبير المؤلف ـ لا يزال حاضراً في تشكيل رجال اليوم، كما أنه لا يزال حاضراً في لاوعيهم، الأمر الذي يحول دون قدرة هؤلاء على نسيان ذكر ما قبل عام 1968.
ولئن شدّد أكيرمان على الانعطافة التي قامت في تاريخ الأجناس بسبب أحداث 1968، وهو تشديد تكرّر كالقافية في الكتاب، فإن الوضع برأيه ليس مثالياً. بحيث لا يزال التمثيل النسائي في البرلمان الفرنسي أقل من مثيله لدى الرجال، ولا تزال أجور النساء أقل من مثيلاتها لدى الرجال، ولا تزال 80 % من الأعمال المنزلية مناطة بالنساء، فيما نسبة العاملات الأكثر فقراً تبلغ 80 % من مجموع العاملين الأكثر فقراً. كما تطرق المؤلف إلى المفارقات العامة المتعلّقة بالسمات المتوقّعة من الرجل: ففي حين يطالب عدد من النسويات بالاستقلال عن الزوج وعن مدخوله، تطالب المرأة الفرنسيّة الجديدة الرجل بتحمّل التكاليف المادية لأدوات الزينة خاصتها؛ وبقدر ما تطالب المرأة بالرجل الرقيق والواسع القلب، فإنها تريد أيضاً الرجل المثير بفحولته المتمظهرة بعضلاته وبالشعر الذي يكسو جسده. هذا في الوقت الذي بات فيه المحافظون الجدد وبعض النساء يطالبون بعودة المرأة إلى المنزل لرعاية أولادها، وجعل مسألة تأمين المعيش اليومي للأسرة من مهمّات الرجل.
لكن أكيرمان أورد في المقابل بعض المؤشرات الإيجابيّة، منها على سبيل المثال، أن 23 % فقط من الآباء الحاصلين على إجازة أبوّة اعتبروا أن دورهم الاجتماعي يتمثّل في تأمين معيشة الأسرة، مقابل 45 % للّذين اعتبروا أنه من الواجب أن يحتلّوا مكاناً يوازي المكان الهام الذي تحتلّه الأم في رعاية أطفالها. كما استند المؤلف إلى مقولة للعالم الاجتماعي آلان تورين للتأكيد على الشوط الذي اجتازه المجتمع الفرنسي نحو المساواة الجنسيّة. بحيث تفيد مقولة تورين بأن «الكلمة، وتحليل الظواهر، ومعنى الأشياء، كلّ ذلك انحاز إلى وجهة نظر المرأة».
سمات «الرجل المتصالح» أو «الرجل الجديد»
الرجل الجديد صاحب الهوية الجديدة يتميّز بحسب المؤلف بسمات عدّة، تجعل منه رجلاً متصالحاً مع ذاته؛ ومن أهم هذه الصفات:
ـ انه رجل مصنوع من الحريّة والانفتاح، فضلاً عن كونه نهماً للاكتشاف ويطمح إلى بناء حياته والعالم مع النساء وليس ضدّهنّ.
ـ انه ذاك الرجل الذي يختلف جذريّاً عن الرجال الذين سبقوه.
ـ أنه ذاك الذي يمزج بطريقة سليمة بين الإحساس والذكر الرجولي؛ انه الرجل الأكثر أنثويّة من السابق (الأمر الذي حدا بالمؤلف إلى اقتباس مقولة آلان تورين التي جاء فيها أنه ينبغي التراجع عمّا قالته سيمون دو بوفوار في أن النساء خلال بحثهنّ عن المساواة يقتربن شيئاً فشيئاً من النموذج الذكوري. إذ إن الرجال في الواقع هم الذين يقتربون شيئاً فشيئاً من النموذج الأنثوي).
ـ أنه ذاك الرجل الرجل، من دون أن يكون فحلاً (بمعنى الفحولة المستفحلة)، الذي تخطّى أزمة الهوية الناتجة عن التحرّر النسائي، والذي عثر على مكانه في مجتمع مساواتي.
ـ أنه الرجل الذي حلّ صراعاته مع القواعد المجتمعيّة، وقرّر العيش بحسب ما تمليه عليه رغباته وليس بحسب ما يجري فرضه عليه. كما أنه ضبط صراعه الذي كان قائماً مع النساء.
ـ أنه الرجل الذي لم يعد كتوماً بل صار يفضي بمشاعره ويعبّر عنها.
ـ أنه الرجل الذي تخلّى عن الدور التقليدي للأب القوي ليتحوّل إلى أب محبّ وحاضن.
ـ أنه الرجل الذي صار يحلم بحبّ أبدي، وبأداء روحيّ مغمور بالرقّة، أي ذاك الذي يستعيد رجولته في السرير لكنه يبحث أيضا عن الحبّ والرقة والحنان.
ـ أنه الرجل الذي لم يعد متفرّداً بقراراته.
ـ أنه الرجل الذي صار يتشارك مع أبناء جنسه في مواضيع العلاقات العاطفيّة (من دون التوقف عند البعد الجنسي لهذه العلاقات) ويعبّر معهم عن مشاعره الدفينة.
إلا أن هذا الرجل المتحوّل في ظلّ كلّ التغيّرات الاجتماعية، ولا سيما في ظلّ المسار التحرّري الذي قطعته النساء، لم يحل دون قيام مفارقات، سبقت الإشارة إليها آنفاً، وتتجلّى من خلال ظاهرة ارتباط الفرنسيّين بنساء أوروبا الشرقيّة التي حلّلها المؤلف بالاستناد إلى رأي أحد الفرنسيّين المرتبطين بروسية. إذ يقول الرجل: «الروسي رجل محافظ وغيور وفحل عموماً، لذا تبحث الروسيات عن رجل أكثر رقّة (يتمثّل بالفرنسيّين)، في حين نبحث نحن الرجال عن الأنوثة وعن الانسجام (المتمثّلين بنساء أوروبا الشرقية) اللذين نفتقدهما شيئاً فشيئاً».
المؤلف الآتي من خلفيّة نسويّة مناهضة لتلك النسوية التي تصم الرجال وتناهضهم إما بحجّة أن قهر النساء هو مرض اجتماعي مترسخ في الهويّة الفيزيولوجيّة الذكورية، أو بحجة أن الرجل مذنب دائماً، المؤلف الآتي إذاً من خلفيّة نسوية تؤمن بالفوارق بين الأنوثة والرجولة ينتقد تلك النسوية المناهضة للذكورة كذكورة. بحيث يتبدّى كلّ من الأنوثة والذكورة على أساس تعدّدية كلّ منهما، وليس على أساس قالب معيّن ينطبق على النساء أو الرجال بعامة، وإنما على أسس كثيرة تعتمد على الاختلاف والتعدّدية بشكل عام، إن كان ذلك بين الرجل والمرأة أو بين المرأة والمرأة، أو بين الرجل والرجل. فتحلّ الأندروجينيّة، بحسب هذه الخلفيّة النسائيّة، الصراع الناتج بين «الذكورة» و«الأنوثة» وتقود إلى التلاعب الحرّ بين صفات «الذكورة» و«الأنوثة» في كلّ فرد بغض النظر عن جنسه، وربما قادت هذه الأندروجينيّة إلى المصالحة بين الجنسين وإلى منح كلّ جزء ما حرم منه بسبب المفاهيم الثقافية والاجتماعية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى