مهمة الهوية والثقافة في التعبئة الجماعية
مراجعة: نظام مارديني
سيشكل هذا المبحث في حقل “حل النزاعات” إضافة علمية لميدان جديد في الدراسات الأكاديمية، وذلك بعدما كان قد تطور إلى اختصاص مهم في الجامعات الدولية. كما ويحاول هذا المبحث أن يربط التنوع الثقافي بأنماط التعبئة الجماعية للنزاعات العنيفة داخل المجتمع. ورغم ذلك، لا تزعم هذه الدراسة أنها استقصت العوامل المتعلقة بالهوية والثقافة إلى مدى يتجاوز الصلات المباشرة بأنماط التنمية الاجتماعية – الاقتصادية.
ثمة قناعة قوية بأن الفقر واللامساواة الاجتماعية والاقتصادية سببان جذريان يؤديان إلى النزعات العنيفة. ولا بد من فهم الطريقة التي تتولد فيها الموارد وتوزع بين الجماعات، لفهم طبيعة التفاعل السياسي داخل هذه الجماعات وفي ما بينها. وترتكز مهمة هذا المبحث على هذه المسلمة الأساسية. ذلك أن دراسة درجة الفقر والعدد المطلق للفقراء، علاوة على درجة التفاوت، قد تكشف حوافز ومظالم مهمة لبعض الجماعات داخل الدول، كما قد تقود بدورها إلى تفهم أفضل لنشوء النزاعات العنيفة. من هنا يتوقف هذا المبحث عند عدد من المسلمات المستنبطة من المواد المتاحة بالتجربة مقدماً أمثلة محددة بهذا الشأن في غرب إفريقيا وجنوب آسيا وأميركا الوسطى.
ويقدم هذا الكتاب فرضيات متصلة بالعوامل الاجتماعية – الاقتصادية، جاعلاً من هذه الفرضيات مختبراً تجريبياً وعبر ثلاثة أقسام منفصلة، بغية التحقق من العلاقات السببية بين الفقر، والتفاوت الاجتماعي – الاقتصادي، والديناميكيات الاقتصادية، على التوالي، وبين نشوب النزاع العنيف.
1- الفقر والنزاع: في هذا القسم يمكننا قراءة مسألة الكبح الثقافي والفقر، إلى جانب تحليل التوجهات المطلقة، وقد ركز هذا التحليل أصلاً على إحصائيات الفقر، الذي عُرّف بأنه يتمثل في جماعات الدخل الأدنى. وعموماً، فإن الاتجاه الطويل المدى للفقر يكشف أنماطاً متنوعة بالنسبة إلى المناطق التي حضعت للتحليل من خلال بيانات إحصائية، كمناطق جنوب آسيا التي بدأت تشهد اتجاهاً طويل الأجل لتناقص الفقر. وبالنسبة إلى غرب إفريقيا، فعندما يُعرّف الفقر قياساً إلى إحصائيات المداخيل، فإن الاتجاه الطويل الأمد يظهر فقراً متزايداً لأغلبية السكان، نظراً إلى كون مداخيل ما قبل الاستقلال أعلى اسمياً من مستويات الدخل الحالية. وفي أميركا الوسطى يكشف الاتجاه العام نمطاً ديناميكياً من النمو حتى سبعينيات القرن العشرين، ثم تزايداً حاداً للفقر في ثمانينياته، يتبعه تحسن في إحصائيات المداخيل، وصولاً إلى مراوحة في هبوط المداخيل الهامشية للفقراء.
2- التفاوت الاجتماعي – الاقتصادي والنزاع: في هذا القسم يتم تحليل النزاعات المتصلة بالموارد، سيما المتعلقة بالأرض، وأنماط التفاوت الاجتماعي – الاقتصادي النسبية والمفترضة، وأثر استخراج الموارد من قبل سلطة الدولة المركزية، علاوة على تنافس الجماعات على الموارد والخدمات الحكومية، بمعزل عن الاختلافات المطلقة.
ولتحليل التفاوت بين مختلف الشرائح الاجتماعية – الاقتصادية، تم قياس التفاوت بين ما يوصف بالأخماس من مجموع السكان لإظهار الأنماط التكتلية للتفاوت الاجتماعي – الاقتصادي داخل الدول. وكما في القسم الخاص بالفقر، فإن متوسط الدخل الفردي استخدم باعتباره المؤشر الأساسي للقسم (2)، أي عند النظر إلى الدخل الفردي، يتضح أن التفاوت بين خمس السكان الأغنى والخمس الأفقر ظل ثابتاً إلى حد ما على امتداد الزمن في جميع المناطق والبلدان التي توافرت عنها البيانات. لذلك، فالحصة النسبية من الثروة بين الأغنياء والفقراء لم تتغير إجمالاً على نحو بارز على امتداد العقود الأخيرة، وإن كان من الممكن ملاحظة بعض الشذوذ عن هذا النمط العام في بعض البلدان، كبنغلادش حيث بقي التفاوت أقل تفاقماً على مدى 15 سنة. أما في هندوراس فإن البيانات عن توزيع الدخل على المستوى الوطني تظهر تراجعاً في التفاوت بين عامي 1970 و1980، وفي أميركا الوسطى أن الذي حصل على الدعم الإحصائي عدد قليل من الحالات، وذلك لعلاقة محتملة بين التفاوت والنزاع العنيف.
3- النمو الاقتصادي، والركود، والانحطاط: ويتوقف هذا القسم المتعلق بالديناميكيات الاقتصادية عند منظور إقليمي ونظرة شاملة إلى التطورات في كل بلد على حدة. وقد تم تسليط الضوء على بعض الحالات الملائمة ضمن إطار منفصل، بغية إبراز أهمية بعض الاكتشافات الخاصة. ولما كانت غاية هذه الدراسة الكشف عن أسباب النزاع العنيف الواسع النطاق، فإن الكثير من الحوادث لم تؤخذ بالحسبان. ولأن من الممكن أن يكون للديناميات الاقتصادية الطويلة الأمد تداعيات بالنسبة إلى دول بعينها أو إلى جماعات بعينها داخل المجتمع المحلي، فإن التركيز في هذا القسم يقع على التوجهات الطويلة الأمد وأنماط التنمية الاقتصادية البنيوية وآثارها في اندلاع النزاعات العنيفة.
يتوصل الباحث دوماً إلى أن العوامل الاجتماعية – الاقتصادية قلما تسببت بشكل مباشر في اندلاع النزاعات العنيفة، كما يبدو في الأغلب أنها تقوم بدور تعبوي. ولذلك، فليس من الممكن اعتبار بعض مجموعات العوامل التي تم تحديدها في هذا المبحث، كانت قادرة على تقديم تفسير مرضٍٍ لاندلاع نزاعات عنيفة كبرى، بل كان لا بد من أن نأخذ في الاعتبار عوامل أخرى تتصل في ما يبدو بعمليات صنع القرارات السياسية لقطاعات شعبية محددة، لأن من شأن هذا أن يقودنا إلى تحديد مجموعات من العوامل أوسع نطاقاً.
[ الكتاب: النزاعات الأهلية من منظور اجتماعي اقتصادي.
[ الكاتب: بيت س. دوما، ترجمة حسني زينه.
[ الناشر: دراسات عراقية، بيروت 2009.
المستقبل