… عن قدرية «الحق الإيراني» وحدوده
حسام عيتاني
ليس أسهل من ملاحظة ان إيران ومنذ ايام مملكة الحيرة واللخميين، لم تُقِم علاقات حسن جوار مع العرب، باستثناء الفترات التي انشغل الإيرانيون فيها بصراعاتهم الداخلية او بترميم حطام دولتهم. بالقدر ذاته من السهولة يمكن القول ان النفوذ الإيراني ما اتسع يوما وتغذى الا على حساب الفراغ العربي.
هذان الاستنتاجان يذهبان مذهبا معروفا في التفكر العربي في الأحوال، يقوم على التقليل من شأن التبدل وناموسه في الناس والدول. وما كان يشغل بال ملوك فارس حيال ملوك المناذرة وحلفائهم او خصومهم من ابناء القبائل البدوية غير ما يقض مضجع مرشد الجمهورية الاسلامية ورئيسها، وهذا من نافل القول وبداهته.
ما يعنينا هنا ان الفترة التي اعقبت الحرب العراقية–الإيرانية (1980-1988) والتي انصرفت فيها طهران الى تضميد جراحها واعادة بناء ما هدمته الحرب وبين تسلم محمود احمدي نجاد رئاسة الجمهورية في 2005، ربما كانت فرصة اضاعها العرب وكان يجوز فيها السعي الى اعادة رسم العلاقات العربية–الإيرانية في معزل عن مشاعر العداء التي دمرت العراق وإيران معاً وافقرتهما من دون طائل، وكلفت العرب الآخرين ما كلفت من شقاق ومال. ومعلوم ان محاولات عربية وإيرانية جرت في عهدي الرئيسين هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي لتجاوز المخاوف والخلافات السابقة، وان مبادرات ديبلوماسية اطلقها العرب والإيرانيون في سبيل تطبيع العلاقات بين الجانبين خلال عقد التسعينات، اسفرت عن تحسن ملموس، وإن مؤقت، في المناخ.
صحيح ان مرشد الجمهورية الذي له قول الكلمة الفصل في المسائل المهمة لم يتغير في عهود الرؤساء رفسنجاني وخاتمي واحمدي نجاد، وصحيح ان مشكلات من نوع الجزر الاماراتية والعلاقات بين طهران والقاهرة لم تجد حلولا نهائية، لكن الصحيح ايضا ان حدة التوتر التي كانت تشوب العلاقات العربية–الإيرانية منذ الثورة الاسلامية في 1979، انحسرت انحسارا واضحا بين منتصف التسعينات وسقوط بغداد في يد القوات الاميركية.
في وسع نقاد الفراغ العربي التدخل هنا والقول ان العرب، خصوصا المعتدلين منهم، لم يهتموا اهتماما كافيا باستيعاب إيران وتفهم خصوصياتها وحركيتها التي تملي عليها عدم اهمال أي نقاط ضعف تتيح لأعدائها التقدم صوب محيطها المباشر. وهذا ما فعلته في العراق بعد الاحتلال. وترك العرب لـ»الممانعين» من بينهم مهمة تشكيل التحالف مع إيران حيث احتلوا فيه الحيز الاصغر. لكن المسألة تنقلب عند هذه النقطة الى سؤال عن تعريف الاعداء: هل هم اسرائيل والولايات المتحدة ام ان التعريف الإيراني يشمل دولا وشعوبا اقرب؟
ومن دون الانزلاق الى خطابية مناهضة لـ»الشعوبية»، حيث لم تترك القومية العربية في انحطاطها الصدّامي مزيدا لمستزيد في الباب هذا، يبدو من المنصف ان يتساءل العرب عن معنى «الحق الإيراني» في استكمال الدورة النووية التي تقول طهران انها ضرورية في مشاريعها التنموية. وفي منأى عن الشعارات الكبيرة والمضادة للامبريالية والصهيونية وتحقيق الانتصارات عليهما في ساحات لبنان وغزة، تبرز الحاجة الإيرانية الى علاجات جذرية لجملة من المشكلات التي بلغت حد الاستعصاء على كل علاج عابر وسريع. فالصناعة النفطية لا تبدو قادرة على تخطي العطب المزمن الذي يجعل من المحال على المصافي الإيرانية توفير المشتقات النفطية للاسواق المحلية، الى جانب التذبذب الواسع في اسعار النفط العالمية المربكة والاخفاقات المتعاقبة لكل العمليات الاصلاحية، سواء في القضاء وفي الادارة اللذين يتفاقم فسادهما او في ابتكار وجهة عامة للاقتصاد الإيراني تجذب الاستثمارات الى القطاعات غير النفطية او على الاقل تجعل من القطاعات هذه مربحة.
وبعد تدهور الزراعة التي عول الجيل الاول من الثوريين الاسلاميين عليها، وبعد ظهور الحدود التي يمكن ان يبلغها التكنوقراط الذين دفع بهم رفسنجاني الى الواجهة، وخصوصا بعد ابلاغ المرشد للإيرانيين ان رهانهم على اصلاحات خاتمي في غير مكانه، من خلال وضع آية الله منتظري في الاقامة الجبرية وصولا الى الاضطرابات الطالبية الواسعة في 1999 و2003، لم يبق سوى اقتصاد يقوم على توزيع غير رشيد لعوائد النفط، يرمز اليه احمدي نجاد مقدما كدسات المال الى الفقراء في الارياف، ونزعة استهلاكية تنتج مجموعات من المستوردين والطفيليين الباحثين عن ادوار لا تصطدم بالضرورة مع الهيئات النافذة في المجتمع والسلطة. واذا عُطفت هذه الوقائع على حقيقة تقول ان الإيرانيين هم الشعب الاشد تأييدا للولايات المتحدة وانجذابا اليها والى قيمها في الشرق الاوسط، وان الحكم في إيران هو الاقسى في عدائه لتلك الدولة، بَدت بعض ملامح التعقيد الذي يشوب الصورة الإيرانية الداخلية. وما يبدو من حيوية وهمة عالية عند المسؤولين الإيرانيين، ربما كان في حقيقة الامر تعبيرا عن الحاجة الى مخارج من وضع لا مستقبل له ولا مخرج سوى الحرب والهباء.
الطاقة النووية هي العلاج لوضع داخلي وصل اقتصاده الى طريق مسدود واجتماعه الى اغتراب كبير عن السلطة التي تسمها سمات الشيخوخة المبكرة. والبرنامج النووي الإيراني، حتى لو صدقت اقوال المسؤولين الإيرانيين من انهم لا يريدون جعل انتاج قنبلة ذرية هدفا أخيرا له، يبقى العنصر الجامع الاقوى في السياسة الداخلية الإيرانية. وتزيد اهميته بذلك، بالنسبة الى الإيرانيين على الاقل، عن المشروع الكوري الشمالي العسكري الذي تقايض بيونغ يانغ به بقاء نظامها على حاله، والمشاريع الهندية والباكستانية والاسرائيلية والتي وان كان لها جوانب داخلية في شد لحمة المواطنين حول دولتهم، الا انها تبقى في المقام الاول مشاريع ذات اهتمامات وابعاد استراتيجية وعسكرية.
لقائل ان يقول ان العرب ليسوا مسؤولين عن أزمات النظام الإيراني الداخلية او عن انسداد آفاق التنمية التقليدية امامه وعن اضطراره، بالتالي، الى خوض مغامرات نووية قد تكون عواقبها وخيمة على الشرق الاوسط، بعربه وعجمه. وعند العرب ما يكفي ويزيد من اخفاقات وازمات. صحة الحجة هذه لا تنفي طبيعة قدرية – اذا جاز التعبير – لبعض جوانب العلاقات الدولية حيث لا تختار البلدان جيرانها وانظمة حكمهم. عليه، ليس من اليسير على العرب تجاهل الحق الذي تكفله معاهدة حظر الانتشار النووي لكافة الموقعين عليها، ومن بينهم إيران، بالحصول على المساعدات اللازمة لتطوير قدراتهم السلمية، من جهة، ومحاولات التملص الإيرانية التي اشارت اليها تقارير الخبراء الدوليين من التزامات الموقعين بالامتناع عن استخدام البرامج النووية السلمية لحيازة الاسلحة النووية، من الجهة الثانية.
مشكلة اضافية مع «الحق الإيراني» تطرحها مسألة الأهداف التي تمضي اليها طهران. فالناظر الى خريطة الشرق الاوسط لن يفاجأ برؤية تركيا تجاور إيران وتناقضها في آن. وفي حلقة الاضطرابات الممتدة من باكستان الى أفغانستان جنوبا وشرقا، الى الخليج والعراق في الجنوب الغربي والغرب، تبدو تركيا الاكثر استقرارا وثقة بالذات وازدهارا، ما يغري العديد من العرب بالتطلع الى دور تركي يوازن نظيره الإيراني. غني عن البيان ان العامل المذهبي ليس آخر ما يدخل في حسابات من الصنف هذا. الخريطة عينها تحض على الاستفهام عمّا اذا كان من معنى للعداء لاسرائيل في معزل عن الايديولوجيا الرسمية. والحال ان الاهداف الجيو-استراتيجية لا تكفي لتفسير الاندفاع الإيراني المحكوم بعوامل عدة تلجمه من الداخل قبل الخارج، ما يستدعي من العرب صبرا امام حملات التسويق لشراكة تواجه التهديد الإيراني كيفما اتفق وفي اسرع وقت ممكن.
* كاتب لبناني.