الأزمة المالية العالمية

مراحل التراجع الخمس المؤدية الى إفلاس الشركات

فادي طفيلي
صيغٌ ومؤسسات وشركات كبرى ومشاريع هائلة كثيرة ـ ومنها مشاريع مدن ودول ـ أصيبت، في خضمّ مسيرتها التاريخيّة، بعكس ما كان قد خطّط لها، فما لبثت أن سلكت منزلق الانحدار وفقدت مواقعها البارزة.
في تحليله لمسالك الانزلاق والتحلّل، يرى الكاتب الأميركي جيم كولينز (Collins) أنّها أشبه بالأمراض البيولوجيّة. إذ أن تحرّيها واستبيانها هو أصعب بكثير من علاجها في مراحل المرض الأولى، وأنّ علاجها هو أصعب بكثير من تحرّيها واستبيانها في مراحل المرض المتقدّمة.
في كتابه How the Mighty Fall الصادر حديثا ً (2009)، والمصيب جدّاً في توقيته المزامن حقبة الركود العالميّة الراهنة، يعود كولينز إلى مدينة سان فرانسيسكو الأميركيّة في مطلع القرن العشرين، تحديدا ً عام 1906، ليحلّل قصّة صعود وهبوط واحدة من أكبر المؤسسات الماليّة في تاريخ الأعمال الأميركي، “بنك أوف أميركا”، ويبني على عناصر تحليله ذاك سياقا ً متكاملاً، ذا معالم بيّنة، لمظاهر التحلّل والسقوط العامّة التي لا تصيب شركات الأعمال فقط، بل تصيب صيغاً كثيرة ومدناً ودولاً أيضاً.
عقب الزلزال الكبير الذي ضرب مدينة سان فرانسيسكو الأميركيّة، عام 1906، كان مؤسس “بنك أوف إيتالي” (مصرف إيطاليا)، المصرف الحديث العهد آنذاك، أ. ب. جيانيني، قد طوّر سياسة إقراض جديدة أتاحها لشبّان في مقتبل العمر، وذلك في نشاط اقتصادي حيويّ ومبتكر، اعتبره جزءاً أساسيا ً من عمليّة إعادة بناء سان فرانسيسكو.
سياسة الإقراض تلك جذبت آلاف الشبّان في المدينة المنكوبة إلى مؤسّسة جيانيني الماليّة. فسالت القروض من مؤسّسته تلك، وتحوّل “مصرف إيطاليا” إلى “مصرف أميركا” (بنك أوف أميركا)، جاذبا ً الإيداعات بعد أن أتاح القروض، ومفتتحاً الفروع بالتتابع، ليكتسب بعد ذلك حركيّة كبرى تخطّت سان فرانسيسكو على نحو كبير.
في عام 1945 تفوّق بنك أوف أميركا على “تشايس ناشيونال بنك”، فغدا المصرف التجاري الأكبر في العالم. عدد فروعه في عقد السبعينات من القرن العشرين بلغ أكثر من ألف فرع موزّع في أكثر من مائة بلد. كما اكتسب المصرف ثقة كبرى ليس فقط بسبب حجمه الهائل، بل تقديرا ً لأسلوب إدارته الرفيع المستوى.
مع عقد الثمانينات من القرن المنصرم، كان “بنك أوف أميركا” قد تربّع على قمّة الشركات الكبرى في العالم، وبلغ أعلى مواقع النجاح. لكن، وفي غضون ثمانية أعوام لا أكثر، مُني المصرف المذكور بأقسى الخسائر في تاريخ المصارف الأميركيّة، فتسبّب إذّاك بضعضعة أسواق المال وبتراجعات حادّة للدولار الأميركي، كما شهد انهياراً في أسهمه بمعدّل ثمانين في المئة، وتفرّقاً في حصصه لأوّل مرّة منذ 53 عاماً. وقد بيعت إذّاك مراكزه الرئيسة واستقال آخر أفراد عائلة جيانيني المصرفيّة من عضويّة مجلس إدارته.
مصير “بنك أوف أميركا” هو مصير قد تتعرّض له كلّ مؤسّسة، أو صيغة، مهما عظمت، وهو، في أغلب الأحيان، مصير “مُتسلّل” ومباغت، كما الأمراض، على حدّ تعبير جيم كولينز. كما أنّه مصير أكثر فتكا ً حين يُصيب صيغا ً احترفت وجهة معيّنة واحدة، فقلّلت من البدائل التعويضيّة الأخرى.
مراحل التراجع الخمس
يلخّص جيم كولينز مظاهر التراجع وعلاماته بخمس مراحل متتابعة، تقود كلّ واحدة منها إلى الأخرى.
المرحلة الأولى، بحسبه، هي مرحلة “الغرور الناتج عن النجاح”. إذ أنّ هذا الأخير قد يؤدّي أحيانا ً إلى عزل الاستثمارات الكبيرة، خاصّة إذا ما أصيب أصحابه بالثقة المبالغ فيها فأقدموا على حسابات لا تقيم وزنا ً لوجود الآخرين وأدوارهم. فحين تحلّ القاعدة التي تقول بـ “أن النجاح تحقّق بفضل هذه الأشياء المحدّدة” محلّ “أنّ النجاح تحقّق بفضل فهم السبب الكامن وراء اعتماد تلك الأشياء المحدّدة، وبفضل فهم الظروف التي تبطل صلاحيّة هذه الأشياء”، يصبح التراجع إذّاك شبه محتوم.
المرحلة الثانية هي مرحلة “السعي غير المنضبط للحصول على المزيد”. مزيد من النمو ومزيد من الارتفاع ومزيد من الثناء ومزيد من الكِبر ومزيد من كلّ ما يراه أولئك الذين في السلطة وموقع القرار، متماشيا ً مع ما يعتبرونه نجاحاً. وذلك ناتج، على الأرجح، من القاعدة التي تقول “إن العظيم بإمكانه فعل أيّ شيء”. على الرغم من أمورا ً كمقاومة التغيير والخشبيّة إزاء التطوّرات الحياتيّة الشاملة تبقى خطرة لكلّ استثمار مهما كانت طبيعته، فإنّ عدم الانضباط في السعي للحصول على المزيد، قد يؤدّي أيضاً إلى نتائج مماثلة وخطيرة.
المرحلة الثالثة من مراحل التراجع هي مرحلة “نفي وتجاهل الخطر المحدق والخطوات المقامرة”. إشارات التراجع وعلاماته تكون في هذه الحالة قد كثرت وتراكمت داخليّا ً، في قلب الصيغ والشركات والمشاريع، فيما يبقى مشهدها الخارجي قويّا ًومعافى ومثابراً. وتساهم العلامات الخارجيّة أحيانا ً في تقديم مسوّغات “خبيثة” للاطمئنان والثقة وعدم التحسّب لبعض الصعوبات والهنّات. كما يُقدم القادة والمسؤولون عن المشاريع الكبرى في هذه الحقبة باستبعاد التقارير السلبيّة وتبنّي تلك الإيجابيّة ويفسّرون ما هو غامض في المعلومات والأرقام والمعطيات على نحو إيجابي، ويبدؤون إذّاك بإلقاء اللوم على عوامل خارجيّة كونها هي، بحسبهم، مسؤولة عن بعض الإخفاقات، لا هُم. الأمر لا يعني أبدا ً أن المشاريع الكبرى والاستثمارات لا تقدم على المغامرة، بل هذا يشير إلى الميل الخاطئ عند بعض القادة إلى نفي علامات الوهن الداخليّة وإلى المثابرة في تحقيق القفزات غير المحسوبة، مثابرين في ذلك نحو المرحلتين الرابعة والخامسة من مراحل التقهقر.
في المرحلة الرابعة تبدأ علامات الوهن وإشاراته، التي كانت داخليّة ومحجوبة من قبل، بالتجلّي والظهور وبتأكيد نفسها على نحو لا يمكن معه نفيها. بذلك يغدو السعي إلى تصويب الأمور لا مناص منه، ويصبح تركيز المسؤولين منصبّا ً إمّا على العودة إلى سياسات الانضباط والدقّة الأولى، التي رافقت بدايات النجاح، أو على اعتماد تدابير إنقاذيّة عاجلة. المنقذون في هذه الحالة يكونون، في العادة، قادة ذوو رؤية فذّة يتمتّعون بكاريزما عاليّة، وإستراتيجيون جدد يتمتّعون بالجرأة، هذا إضافة إلى وصفات الحلول المتعدّدة، المتمثّلة بدعاوى التحولات الجذريّة، والثورات الثقافيّة، وإلى ما هنالك.
وقد تؤدّي عوامل الهلع والتسرّع في هذه الحالات، خلال المرحلة الرابعة المذكورة، إلى التعجيل في بلوغ الهلاك التام للمشاريع والصيغ المترنّحة.
المرحلة الخامسة والأخيرة من مراحل التراجع والتي تعني السقوط التام والزوال في النهاية، يحدّدها طول البقاء في المرحلة الرابعة. فتؤدّي الإقامة في مرحلة الاضطراب والتخبّط المذكورة، إلى استنفاد روحيّة التقدّم عند الأفراد العاديين والقادة على حدّ سواء.
في ما يمكن قراءته على ضوء مراحل التقهقر الدراماتيكيّة للمشاريع الكبيرة ذات الأبعاد التجريبيّة، الاقتصاديّة والاجتماعيّة، “الحديثة” في العالم العربي اليوم، قد تبدو مدينة دبي نموذجا ً مثاليّا ً لذلك. الأمر لا يعني بالطبع “نهاية دبيّ”، كما قد يستعجل البعض في التكهّن. لكنّ ثمّة في الأحوال المتقهقرة لتلك “المدينة ـ الشركة”، والتي لم تنفصل زمنيا ً عن ذروة تألّقها سوى أشهر قليلة، ما يستحضر تحليل جيم كولينز لسيرة “صعود وهبوط جبابرة” الاستثمار. فلعلّ المدينة المذكورة، التي تتخبّط اليوم بقصور “30 في المئة من مشاريعها الإنشائيّة، وبخواء النسبة عينها من مبانيها وعقاراتها المنشأة، وبهبوط أسعار تلك العقارات بمعدّل 70 في المئة عن العام الفائت، وبانحسار الإقبال الاستثماري الغربي عنها، وبتراكم كثيف لديون من غادرها بغير رجعة” (الأرقام من تقرير لمجلّة “تايم” 25 أيار 2008)، تمثّل نموذجا ً صارخا ً لذلك الانكسار المباغت الذي يبقى غامض الوجهة وبلا قاع محدّد.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى