قراءة في “تقدير” المخابرات الأميركية للمســـــألة النوويــــة الإيرانيـــــة
مصطفى الحسيني
مع نهاية العام 2008 بدأ يخبو رواج توقعات أن توجه الولايات المتحدة ضربة عسكرية إلى إيران.
كان مرجع هذا “تقدير” للمخابرات الأميركية، شاع أنه يقرر أن إيران أوقفت العمل على الوجه العسكري من مشروعها في خريف 2003.
ويمكن الاطمئنان إلى قول أن ذلك “التقدير” يرسم مسار التفكير الذي يؤدي إلى الحوار الذي يوشك أن يبدأ بين واشنطن وطهران حول المشروع النووي الإيراني، ليحل محل لغة التهديد التي اعتمدتها واشنطن منذ ربطت نزاعا مع طهران مداره تشكك أميركي في أهداف نشاطها النووي الذي تقول إيران إنه مدني وسلمي لإنتاج الكهرباء بينما تصر واشنطن أن الغرض هو إنتاج “القنبلة”.
غني عن الذكر أن إسرائيل وأعوانها الأقوياء في الولايات المتحدة لعبوا دورا كبيرا في تهيئة ربط النزاع وفي التحريض على المنحى العسكري في التعامل معه.
لكن السؤال الذي لايجوز القفز من فوقه هو: لماذا ينشر جهاز مخابرات، يفترض أن السرية هي قاعدة عمله تقريرا يُفترض أنه موجه إلى صناع السياسة في بلده؟ أليس هذا إفشاءً للأسرار؟
للسؤال وجاهته الواضحة. لكن مهنة المخابرات ليست كلها أسرارا. من مهامها أيضا التأثير في مجرى الأحداث، بل التأثير في تفكير الآخرين، حلفاء وخصوما وأعداء ـ من طريق ترويج معلومات بعينها، صحيحة حينا، وغير صحيحة أحيانا. ولكل منها أغراضه، التي تراوح بين التشجيع على اتخاذ سبيل معين وبين التهيئة لتقبّل سلوك بعينه.
نشر هذا “التقدير” يقع ضمن ذلك المجال الواسع، فكيف نقرأه؟
غني عن الذكر هنا أن القراءة يجب أن تأخذ في حسابها، ليس ما ورد في “التقدير” فحسب، إنما أيضا الجهة التي أصدرته واللغة التي استخدمتها.
يبدأ “التقدير” بتحديد مجاله؛ أي الأسئلة التي يسعى إلى جواب عنها، فيرد في مطلعه أنه يقيِّم وضع برنامج إيران النووي وما يبدو أنه مستقبله على مدى السنوات العشر التالية. هذا المدى الزمني أنسب لتقييم القدرات لا النيات ولا ردود الفعل الأجنبية. ثم يذكر أنه يركز على الأسئلة التالية:
• ما هي نيات إيران تجاه تطوير أسلحة نووية؟
• ما هي العوامل الداخلية التي تؤثر على اتخاذ إيران قرارها في ما يتعلق بتطوير أسلحة نووية؟
• ما هي العوامل الخارجية التي تؤثر على اتخاذ إيران قرار ما إذا كانت ستطور أسلحة نووية؟ وما هي العوامل الحاسمة التي من شأنها أن تجعل إيران تختار دربا على آخر؟
• ما هي قدرة إيران الراهنة والممكنة على إنتاج أسلحة نووية. وما هي استنتاجاتنا الرئيسة وما هي الموانع الرئيسة ومواضع تعرضها؟
الأسئلة تغطي كل ما يتعلق يالبرنامج النووي الإيراني أو أن المقصود هو الإيحاء بذلك. فالمحذوف منها غير قليل وله دلالاته. مثلا: لاتتناول الأسئلة تاريخ ذلك المشروع، الذي يبين أن منشأه – في عهد الشاه – كان أميركيا. وغرض إخفاء هذا الوجه، ليس مجرد إنكار تلك الصلة، إنما ما هو أبعد؛ الغرض هو إبقاء المجال مفتوحا أمام تغير الموقف الأمريكي منه.
ومثلا؛ الأسئلة كلها مبنية على التسليم بصحة الدعوى الأميركية بأن ما تريده إيران من برنامجها النووي هو إنتاج تلك القنابل. وبالتالي لا يُطرح سؤال يحاول استكشاف مدى صحة الدعوى الإيرانية بأنها لا تريد سوى تلبية حاجتها المتزايدة إلى طاقة الكهرباء دون إحراق النفط.
نعود إلى الأسئلة كما هي:
يتناول السؤال الأول “نيات إيران تجاه تطوير أسلحة نووية. واضح أن جواب السؤال لا يأتي من طريق “معلومات تٌجمع”. السؤال بطبيعته، تحليلي؛ يحتاج الجواب عنه إلى الغوص في مصادر تفكير النخبة الحاكمة في طهران وفي التاريخ السياسي لأفرادها.
يكاد السؤال الثاني حول العوامل الداخلية التي تؤثر على اتخاذ إيران قرارها في ما يتعلق بتطوير لأسلحة نووية، أن يكون إقرارا بما تنكره واشنطن في تشخيصها لطبيعة النظام الإيراني. والمدلول العميق لذلك هو أن واشنطن قد تتصور لنفسها قدرة على “تغيير سلوكه” من طريق التأثير في الرأي العام الإيراني.
يتناول السؤال الثالث العوامل الخارجية التي يمكن أن تؤثر على قرار طهران بشأن إنتاج السلاح النووي، وهو سؤال ضروري لحشد ضغط دولي مؤثر على إيران، في نطاق معالجة ديبلوماسية للمسألة.
أما السؤال الرابع والأخير، فعناصره كلها “معلوماتية” وكذلك يلزم أن تكون أجوبته.
يعقب طرح الأسئلة بُعد آخر لمجال “التقدير”. فيذكر أنه ينبني على معلومات جمعت حتى 31 تشرين الأول 2007. ما يعني أن ما توصل إليه من استنتاجات، لا يسري على ما قد يكون حدث بعد ذلك التاريخ.
أما الجهة التي صدر عنها، فهي “المجلس القومي للمخابرات” في الولايات المتحدة الأميركية. وهو هيئة مهمتها التنسيق بين أجهزة المخابرات المتعددة هناك، سواء منها ذات الكيان الخاص مثل المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيديرالي ووكالة الأمن القومي والمخابرات العسكرية، وما هو ملحق بمختلف الوزارات والمؤسسات الفيديرالية ـ وأبرزها ما هو تابع لوزارات الدفاع والخارجية والطاقة والخزانة والتجارة. يترتب على صدور “التقدير” عن ذلك المجلس أنه يشكل قاعدة لرسم السياسات يصعب أن تنازع. أما “اللغة”، فيحتوي “التقدير” نفسه نوعا من المعجم المركز لها؛ أهم ما فيه هو التمييز بين ثلاث مجموعات من العبارات؛
تتعامل الأولى منها مع الخلاصات التي تم التوصل إليها وتضم ثلاثة تعبيرات: “نحكم” و”نقيّم” و”نقدّر”. التعبيرات الثلاثة متراتبة من حيث التوكيد، من الأعلى إلى الأدنى.
وظيفة المجموعة الثانية هي ما يستخدم لإحاطة الخلاصات بالدرجة المطلوبة من قياس احتمال التحقق؛ وتضم عبارتين: “من المحتمل” و “من الوارد”. والثانية أقوى تحفظا من الأولى.
تحيط المجموعة الثالثة من العبارات خلاصات التقدير بدرجة ثقة واضعيه بما ورد فيه؛ على درجات ثلاث: عالية ومتوسطة ومنخفضة. تتحدد درجات الثقة بمعايير ثلاثة لتقييم المعلومات: الاتساع والنوعية وقيمة المصدر.
تحاط أحزمة التحفظ هذه بحزام شامل: “هذه البيانات ليست حقائق ولا دليلا ولا معرفة. فهذه التقديرات والأحكام تقوم عموما على معلومات جُمِعت، كثيرا ما تكون غير مكتملة أو متفرقة (…) فالتقييمات والأحكام لا يقصد منها أن تعني أن لدينا “دليلا” يبين أن أمرا ما هو حقيقة…”.
تأتي جدارة هذه التحفظات بالذكر في السياق الحالي من كونها تمثّل “الشقوق” التي تعمل إسرائيل على الدخول منها بغية تغيير التقدير الأميركي، ومن ثم شن الحرب على إيران.
أخطر تلك “الشقوق” هو درجة “الثقة” التي يضفيها “التقدير” الأميركي على أحكامه. فبوسع إسرائيل دائما أن تتقدم بمعلومات “أدق” أو “أحدث” تبرر إعادة النظر في “التقدير” الأميركي. ولها في ذلك باع طويل.
• • •
ماذا يقول ذلك “التقدير”؟ يقول:
“أ- نحن نحكم بثقة عالية أنه في خريف 2003، أوقفت طهران برنامجها للتسلح النووي: كما نقيّم بثقة ما بين المتوسطة والعالية أن طهران في الحد الأدنى تترك الاختيار مفتوحا لتطوير أسلحة نووية. إننا نحكم بثقة عالية أن الإيقاف، وقرار طهران تعليق برنامجها المعلن لتخصيب الأورانيوم وأن توقع بروتوكولا إضافيا على اتفاقها لضمانات معاهدة منع الانتشار النووي، قد أتت أولا استجابة للتدقيق الدولي المتزايد والضغط الناجم عن كشف عمل إيران النووي الذي لم يكن معلنا من قبل.
• “نقدر بثقة عالية أنه حتى خريف 2003، كانت الهيئات العسكرية الإيرانية تعمل تحت توجيه الحكومة على تطوير أسلحة نووية.
• “نحكم بثقة عالية أن الإيقاف استمر لسنوات عديدة. ( بسبب فجوات مخابراتية تناقش في موضع آخر من هذا التقدير، على أي حال، تقدر وزارة الطاقة والمجلس القومي للمخابرات بثقة متوسطة فقط أن إيقاف تلك الأنشطة يمثل إيقافا لمجمل برنامج إيران للسلاح النووي).
• نقدِّر بثقة متوسطة أن طهران لم تستأنف برنامجها للسلاح النووي حتى أواسط 2007، لكننا لا تعرف إن كانت حاليا تنوي تطوير أسلحة نووية.
• “نواصل التقدير بثقة ما بين المتوسطة والعالية أن إيران حاليا ليس لديها سلاح نووي”.
• “قرار طهران إيقاف برنامجها للسلاح النووي. يشير إلى أنها أقل تصميما على إنتاج سلاح نووي مما كنا نحكم به منذ 2005. يشير تقديرنا أن البرنامج ربما أوقف أساسا استجابة للضغط الدولي، إلى أن إيران قد تكون أكثر تعرضا للنفوذ حول المسألة مما حكمنا به من قبل.
واضح أن الفقرة الأولى، أعلاه، من التقدير الأميركي:
أ – لا نغلق النزاع مع إيران بسبب برنامجها النووي، فهي تتحدث عن “إيقاف” وليس عن “إلغاء” وعن “باب مفتوح” على استئناف البرنامج.
لكن الفقرة ذاتها، في الوقت نفسه، تفتح، من منظار واشنطن “بابا للأمل” في تخلي إيران عن برنامجها النووي العسكري الذي تدرجه واشنطن ضمن الوقائع، لا الدعاوى ولا التصورات. كما أنها تشير ضمنيا إلى احتمال أن تغيّر واشنطن مسلكها حيال إيران من التهديد إلى الديبلوماسية الهادئة والحميدة.
ب- نواصل التقدير بثقة منخفضة أن إيران ربما استوردت بعض المواد الانشطارية الصالحة للاستخدام في الأسلحة، لكننا ما زلنا نحكم بثقة ما بين المتوسطة والعالية أنها لم تحصل على ما يكفي لسلاح نووي. لا نستطيع استبعاد أن إيران حصلت من الخارج – أو ستحصل في المستقبل – على سلاح نووي أو ما يكفي من المواد الانشطارية لإنتاج سلاح. بدون ذلك، إذا كانت إيران تريد سلاحا نوويا ستحتاج إلى أن تنتج محليا ما يكفي من المواد الانشطارية ـ ما نحكم بثقة عالية أنها لم تفعله بعد.
ج- نحن نقدر أن التخصيب بالطرد المركزي هو الكيفية التي بها تستطيع إيران أولا إنتاج مواد انشطارية تكفي لإنتاج سلاح، إن هي قررت ذلك. استأنفت إيران طردها المركزي المعلن وما يتصل به من عمل تسليحي وتحويلها السري في كانون الثاني 2006، رغم مواصلة إيقاف برنامج السلاح النووي. حققت إيران تقدما ذا مغزى في 2007 بتركيب أجهزة طرد مركزي في ناتنز، لكننا نحكم بثقة متوسطة أنها ما زالت تواجه في تشغيلها مشاكل تكنولوجية ذات مغزى.
ما تعنيه الفقرة “ج” أعلاه، هو أن الضغط على إيران لوقف تخصيب الأورانيم بالطرد المركزي يمكن أن يتخلى عن توتره الراهن، طالما أن إيران تواجه في ذلك السبيل “مشاكل تكنولوجية ذات مغزى” وطالما أنه الكيفية الوحيدة التي بها تستطيع إيران تخصيب اليورانيوم.
• “نحكم بثقة متوسطة أن أقرب تاريخ ممكن تكون فيه إيران قادرة تكنولوجيا على إنتاج أورانيوم عالي التخصيب يكفي لسلاح واحد هو أواخر 2009، لكن هذا احتمال ضعيف جدا.
• “نحكم بثقة متوسطة أن إيران قد تكون قادرة على انتاج ما يكفي من الأورانيوم عالي التخصيب في الإطار الزمني 2010 – 2015، (نحكم أنه من غير المحتمل أن تحقق إيران تلك القدرة قبل 2013 بسبب مشاكل تكنولوجية وبرنامجية منظورة) تدرك الوكالات جميعا احتمال أن هذه القدرة قد لا تتحقق حتى ما بعد 2015.
د- تواصل هيئات إيرانية تطوير العديد من القدرات التكنيكية قد يمكن تطبيقها على إنتاج أسلحة نووية. على سبيل المثال، يتواصل برنامج إيران المدني لتخصيب اليورانيوم. كما أننا نقدر بثقة عالية أنه منذ خريف 2003 تقوم إيران بأعمال بحث وتطوير لها تطبيقات تجارية وعسكرية تقليدية ـ بعضها قد يكون له استخدام محدود للأسلحة النووية.
هـ- لا نملك من المعلومات المخابراتية ما يجعلنا نحكم بثقة إن كانت طهران مستعدة لإبقاء وقف برنامجها للسلاح النووي إلى أجل غير مسمى بينما تزن اختياراتها، أم أنها قد حددت مواقيت معينة أو معايير من شأنها أن تحقزها إلى استئناف البرنامج؟
• “يشير تقديرنا أن إيران أوقفت البرنامج في 2003 أساسا استجابة للضغوط الدولية إلى أن قرارات طهران تُغلّب الاسترشاد بالتناول المبني على الموازنة بين الكلفة والفائدة، أكثر من الاندفاع إلى سلاح بغض النظر عن كلفته السياسية والاقتصادية والعسكرية. هذا، بدوره، يشير إلى أن مركّبا من التهديدات برقابة دولية مشددة والضغوط إلى جانب فرص لإيران أن تحقق أمنها ومهابتها ـ إن اعتبر قادتها ذلك المركّب معقولا قد يحفز طهران على تمديد الإيقاف الحالي. من الصعب تحديد ماذا يمكن أن يكون هذا المركّب.
• نحن نقدّر بثقة متوسطة أن إقتناع القيادة الإيرانية بالتخلي عن تطوير أسلحة نووية في نهاية المطاف سيكون صعبا أخذا بالاعتبار الربط الذي يراه كثيرون في القيادة الإيرانية بين تطوير الأسلحة النووية وبين مصالح إيران الأمنية والسياسية الخارجية الرئيسية وما بذلته إيران من جهد كبير بين أواخر الثمانينات و2003 لتطوير تلك الأسلحة ـ ومثل هذا القرار قابل للإلغاء يطبيعته.
الفقرتان “د” وهـ “أعلاه تعلنان دون مواربة أن “المعركة مستمرة، ويجب أن تتواصل.”
و- نقدّر بثقة متوسطة أن إيران ربما تستخدم منشآت سرية – بدلا من مواقعها النووية المعلنة – لإنتاج اورانيوم عالي التخصيب لإنتاج سلاح. وتشير كمية متزايدة من المعلومات المخابراتية إلى أن إيران تشتغل سرا في تحويل الاورانيوم وتخصيبه. لكننا نحكم أن تلك الأنشطة ربما أوقفت استجابة لإيقاف خريف 2003، وأن تلك الجهود كلها لم تستأنف حتى منتصف 2007 على الأقل.
ز- نحكم بثقة عالية أن إيران لن تكون قادرة تكنيكيا على إنتاج وإعادة تنقية بلوتونيوم يكفي لإنتاج سلاح قبل حوالى 2009.
ح- نحن نقدّر بثقة عالية أن لدى إيران الطاقة العلمية والتكنيكية والصناعية لانتاج أسلحة نووية في نهاية المطاف إن قررت أن تفعل ذلك.
• • •
كما سبقت الإشارة أعلاه، رسم هذا “التقدير؟ مسار التفكير لتوجه واشنطن إلى المعالجة الديبلوماسية للملف النووي الإيراني.
ومنذ نشر “التقدير” بذلت إسرائيل جهدا كبيرا للتشكيك فيه والتقليل من قيمته ومحاولة مناقضته بما تزعم أنه معلومات لم يتوصل إليها غيرها.
لذلك، كان اختيار واشنطن الجوار على السلاح صدمة لإسرائيل، هي التي حكمت مجرى المحادثات الأخيرة بين الرئيس الأميركي باراك أوباما ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
صحافي مصري