قراءة في مشروع قانون الأحوال الشخصية المقترح: اختلاف الدين والردة
عبد الله علي
-1-
بعد سنتين من تشكيلها عام 2007، وضعت اللجنة الوزارية المكلّفة من قبل رئيس مجلس الوزراء السوريّ مشروعاً جديداً لقانون الأحوال الشخصية كي يخلف القانون المعمول به حالياً، والذي كثرت الانتقادات حوله من قبل بعض رجال القانون والناشطين في مجال حقوق المرأة والطفل، لأنّ القانون لا ينسجم مع المعايير الدولية لهذه الحقوق، ولأنّه يجحف المرأة حقوقها، ويصادر إرادتها في أكثر أمور حياتها شخصيةً.
ورغم بعض الإيجابيات التي وجدناها في مشروع القانون الجديد، لاسيما لجهة ضمانه سرعة البتّ في الدعاوى الشرعية، حيث نصّ على تشكيل المحكمة الشرعية من ثلاثة قضاة برئاسة مستشار استئنافي، وتضييقه من حالات الطعن بالنقض في القرارات الشرعية، حيث أخرج مشروع القانون جميع القرارات التي تصدر بالإجماع من فئة الأحكام التي تقبل الطعن، وهذا تطوّر هامّ وجيّد ومن شأنه المساهمة الجادّة في علاج بطء سير الدعاوى وإطالة أمد التقاضي. وإيجابيات أخرى تتمثّل في تشكيل دار الأيتام لمساعدة القاضي في اختصاصاته المتعلقة بشؤون اليتيم (م23)، وتشكيل صندوق التكافل الأسريّ لتأمين الإنفاق على من لا مال له، من المطلقات والأرامل والأيتام والأولاد القاصرين والعاجزين عن الكسب والذين لا عائل لهم (م24).
إلا أنّ هذه الإيجابيات جاءت في مشروع القانون على شكل شذرات متفرّقة، لا تحمل في طواياها رؤية موحّدة ذات أفق واضح لتطوير المجتمع السوري والنهوض به من قاع الطائفية والشكلية الدينية إلى قمة الانتماء الوطني والموضوعية الإنسانية.
فلم يخرج مشروع القانون عن الإطار العامّ للقانون الحالي، وبقيت أحكامه تدور في فلك النظرة الإسلامية للمجتمع، وكيفية بناء العلاقات بين أبنائه، دون أن يشعرنا واضعو المشروع أنّهم أرادوا، أو حاولوا مجرّد محاولة، مواكبة التطوّر الكبير الذي طرأ على المجتمع وبنيته وخصائصه منذ خمسينات القرن الماضي وحتى اليوم. فلم يستطع مشروع القانون أن يكسر أياً من المفاهيم البالية التي يقوم عليها القانون الحالي، بل حاول مسحها وإضفاء بريق مخادع على بعضها. وفي مواقع أخرى خان التوفيق واضعي المشروع وسقطوا في مهاوي مهلكة؛ من التمييز بين المواطنين على أساس الدين والجنس، وأحياناً استعادة مصطلحات عنصرية عفا عليها الزمن كإطلاق اسم “الذمّي” على أهل الكتاب في المادة 38 من المشروع، ولا يخفى ما تثيره هذه التسمية من استدعاء للأسلوب الذي كان يعامل به المسيحيون وأبناء الديانات الأخرى في الدولة الإسلامية باختلاف مراحلها الأموية والعباسية والعثمانية، لجهة نقصان حقوقهم وفرض الجزية عليهم. ونحن نرى في استخدام هذا المصطلح في مشروع القانون انتكاسة خطيرة في الخطاب التشريعي واستحضاراً تعسفياً لمآسي التاريخ وإيهاماً مخيفاً للأخوة المسيحيين أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، وأن مواطنتهم منقوصة بسبب انتمائهم الديني.
يقودنا هذا إلى الحديث عن كيفية تناول مشروع القانون لموضوع اختلاف الدين بين الأشخاص والآثار التي رتبها على هذا الاختلاف خاصة في موضوع الزواج.
اعتبر مشروع القانون اختلاف الدين بين الرجل والمرأة سبباً مبطلاً للزواج في ثلاث حالات نصت عليها المادة 63 وهي:
زواج المسلمة بغير مسلم. زواج المسلم بغير مسلمة إذا لم تكن كتابية. زواج المرتدّ أو المرتدّة عن الإسلام ولو كان الطرف الآخر غير مسلم. وحسب المادة 93 من المشروع فإنّ العقد الباطل لا يترتب عليه أيّ أثر من آثار الزواج، فلا مهر ولا حقوق ولا نسب ولا وراثة.
وبذلك يكون مشروع القانون قد استحدث حالتين جديدتين لبطلان عقد الزواج بسبب الدين، هما زواج المسلم بغير كتابية، والزواج بالمرتدّ أو المرتدّة، فهاتان الحالتان غير موجودتين في القانون الحالي الذي اقتصر نصه على بطلان زواج المسلمة بغير المسلم.
وإذا كانت حالة الزواج من غير كتابية تبدو، لندرة حدوثها، غير ذات شأن إلا أنّها في الحقيقة تقوم على مبدأ فاسد أساسه التمييز بين الأديان واستبعاد بعض الأديان التي يبلغ عدد المتعبّدين بها الملايين والمليارات كالبوذية، فبناءً على هذا النص فإنّ زواج المسلم السوري من امرأة تدين بالديانة البوذية هو زواج باطل، لأنّ البوذية ليست من أهل الكتاب حسب المفهوم الإسلامي لأهل الكتاب، وينبغي بالتالي التفريق بينهما فوراً، إلا إذا قبلت المرأة الانتماء إلى أحد الأديان السماوية الثلاثة المنعوتة بالكتابية.
أما الحالة الثانية المستحدثة، والتي نعتقد أنها قد تمثّل تهديداً جدّياً لفئة من نخبة المثقفين السوريين بشكل خاص، فهي حالة بطلان زواج المرتدّ أو المرتدّة. إذ نخشى بشكل جدّي أن يصبح بعض المثقفين والمفكّرين عرضة لاتهامات بالردّة بهدف الضغط عليهم للرجوع عن أفكارهم، مع ما يترتّب على الاتهام بالردّة من إبطال لزيجاتهم، وتفكيك لحياتهم العائلية، وتدمير لأسرهم ومستقبل أولادهم.
وهذا التهديد جدي ويغدو تحققه محتملاً جداً إذا علمنا أن مشروع القانون الجديد أفسح المجال أمام إقامة دعاوى الحسبة وذلك عبر آليتين اثنتين هما:
أ – أنشأ مشروع القانون بموجب المادّة 21 منه ما سمّاه النيابة العامّة الشرعية، وتكون مهمّتها أن ترفع الدعاوى أو تتدخّل فيها إذا لم يتقدّم أحد من ذوي الشأن، وذلك في كل أمر يمسّ النظام العامّ وأهمها:
1- الزواج بالمحرّمات حرمة مؤبّدة أو مؤقتة.
2- إثبات الطلاق البائن.
3- فسخ الزواج.
4- الأوقاف والوصايا الخيرية.
5- دعاوى النسب وتصحيح الأسماء والمفقودين وتصرفات المريض مرض الموت بناء على طلب من ذوي الشأن فيما يتعلق بالمريض.
ب – أتاح مشروع القانون في المادة 22 منه لكلّ أحد الادّعاء بأيّ موضوع من المواضيع المحدّدة بالمادّة السابقة، ولو لم تكن له مصلحة بذلك.
وعليه، وفي ضوء غياب الضوابط التي تمنع من التعسّف في استعمال دعاوى الحسبة واستغلالها لابتزاز بعض الأشخاص، والضغط عليهم للتراجع عن أفكارهم التي يعبّرون عنها، فإنّ الخشية على المثقفين السوريين من اتهامهم بالردّة تغدو خشية منطقية ولها أسبابها المعقولة، وتجربة الدكتور نصر حامد أبو زيد ما زالت ماثلةً أمام أعيننا حتى الآن.
-2-
المقصود بالتأسلم، كما هو واضح، أن يخرج شخص من دينه ليدخل دين الإسلام. ومعلوم أنّ تغيير الدين بهذا الشكل تترتّب عليه آثار قانونية هامّة تمسّ الحياة الشخصية والروابط العائلية، وما يتعلق بها من التزامات شرعية وقانونية للشخص المتأسلم.
والبحث في عملية التأسلم وآثارها شديد الترابط مع الموضوع الذي درسناه في الجزء الأوّل من هذه الدراسة، تحت عنوان “اختلاف الدين والردة”، بل هو في الحقيقة مكمّل له ومتمّم، وسوف تكون الدراسة ناقصة دون أن نعرّج عليه.
ففي المقالة السابقة درسنا حالات الاختلاف الديني المتوافرة ابتداءً، أي قبل انعقاد الزواج بين الرجل والمرأة المتغايرين دينياً. أما التأسلم فإنّه يهتمّ بموضوع الاختلاف الديني الطارئ بعد انعقاد الزواج بين رجل وإمرأة كانا متماثلين في الانتماء الديني ثمّ قرر أحدهما تغيير انتمائه لدخول دين آخر.
في البداية يجدر بنا أن نشير إلى أنّ مشروع القانون المقترح، متطابقاً في ذلك مع القانون الحالي المعمول به، لا يسمح بتغيير الدين إلا باتجاه الاسلام فقط، أمّا تغيير المسلمين دينهم فيغدو من قبيل الردّة التي تخرجهم، ليس من حظيرة الإسلام وحسب، بل من حظيرة الأديان السماوية بأكملها. ونحن نعتقد أنّ تبنّي مشروع القانون لمفهوم الردّة ينطوي على انتهاك واضح لأحكام الدستور السوري التي تضمن حرية الاعتقاد، ولا سيما نص المادة 35 التي تنصّ على أنّ: “حرية الاعتقاد مصونة وتحترم الدولة جميع الأديان”. واحترام الدولة جميع الأديان يقتضي منها أن تساوي بين هذه الأديان، وألا تفضل ديناً على دين لأيّ سبب كان، وبالتالي يغدو قيام مؤسسات الدولة بسنّ تشريع يميّز بين الأديان في التعامل وخاصة لجهة السماح لأتباع دين بتركه والدخول بدين آخر واستثناء الإسلام من ذلك، أمراً يدحض الاحترام المزعوم والمساواة المفترضة. ويبدو الأمر وكأنّ هذه المؤسسات التشريعية تنصّب من نفسها داعية وحارسة لدين الإسلام على حساب الأديان الأخرى، وهذا مناف كما نعتقد لمقاصد الدستور التي حضّت على احترام وحماية جميع الأديان دون تفاضل بينها.
نسجّل هنا إذاً، أنّ إيراد أحكام التأسلم في مشروع قانون الأحوال الشخصية المقترح يشكل مخالفة دستورية، لأنّه يميّز بين الأديان ويضع الاسلام في مركز قانوني أسمى من بقية الأديان، وهو ما نعتقد أنه يتناقض مع واجب الدولة في احترام جميع الأديان سواء بسواء. وكان الأفضل أن يتيح القانون لكلّ المواطنين أياً كانت انتماءاتهم الدينية أن يغيّروا أديانهم سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين، فهذا على الأقلّ يضمن المساواة ويوحي بالاحترام المنصوص عليه دستورياً.
وليست هذه المخالفة الوحيدة التي وقع فيها واضعو مشروع القانون، فسوف نشير تالياً إلى مخالفة جسيمة لا ينبغي أن يقع بها مشرّع، ولكن قبل ذلك سوف ننتقل إلى الأحكام الواردة في مشروع القانون والمتعلقة بالتأسلم وآثاره. وقد وردت هذه الأحكام في المواد التالية:
المادة230
1-إذا كان الزوجان غير مسلمين فأسلما معاً فالزواج باقٍ بينهما.
2-إذا أسلم الزوج وحده وزوجته كتابية فزواجهما باقٍ ولها طلب الفسخ خلال ثلاثة أشهر من تاريخ علمها بإسلامه.
3-إذا كانت غير كتابية عُرض عليها الإسلام فإن أسلمت أو اعتنقت ديناً سماوياً خلال شهر واحد فزواجهما باقٍ وإن أبت أو امتنعت عن إبداء الرأي بعد إعلامها فسخ الزواج بينهما.
4-إذا اسلمت الزوجة وحدها يعرض الإسلام على الزوج إن كان أهلاً له، فإن أسلم خلال شهر واحد فزواجهما باقٍ وإن أبى أو امتنع عن إبداء الرأي بعد إعلامه فسخ الزواج بينهما.
5-إن كان الزوج غير أهل للعرض فسخ القاضي الزواج بينهما دون عرض، واعتدّت الزوجة، فإذا صار أهلاً وأسلم قبل انقضاء العدّة، يلغى الفسخ وتعود الزوجية حكماً.
المادة231
يشترط لبقاء الزوجية في الحالات السابقة ألا يوجد سبب من أسباب التحريم.
المادة232
في جميع الأحوال التي يسلم فيها أحد الزوجين أو كلاهما أمام المحكمة الشرعية. لا يجوز البحث في صدقه في إسلامه ولا في الباعث على الإسلام.
المادة233
إذا ارتدّ الزوج قبل الدخول فسخ القاضي الزواج وإذا وقعت الردّة بعد الدخول وعاد إلى الإسلام خلال العدّة عادت الزوجية ولها الفسخ.
المادة234
ردّة الزوجة وحدها لا توجب فسخ الزواج.
ويمكن إيراد الملاحظات الهامة التالية على هذه المواد:
أولاًـ تمييز المشروع بين ردّة الرجل وردّة المرأة، فاعتبر أنّ ردّة المرأة خلافاً لردّة الرجل لا تستوجب فسخ الزواج وهذا يتناقض مع أحكام المشروع نفسه بخصوص بطلان الزواج من غير كتابية. فالمسلمة التي ترتدّ عن الاسلام ولا تدخل في دين سماوي تغدو غير كتابية وبالتالي فإنّه حسب نص الفقرة 3 من المادة 230 يتوجب الحكم ببطلان زواجها ما لم تدخل في دين سماوي خلال شهر فكيف قضى مشروع القانون في الفقرة بأن ردّة المرأة لا تستوجب فسخ الزواج علماً أن المادة 63 اعتبرت هذا الزواج باطلاً؟ أليس في ذلك تناقض جسيم ينبغي إزالته؟
ثانياًـ زواج المسلمة من غير مسلم باطل، وزواج المسلم بغير كتابية باطل، والزواج من المرتدّ أو المرتدّة باطل، والبطلان هنا يعني انعدام ركن من أركان عقد الزواج حسب ما ذهب إليه واضعو مشروع القانون وبالتالي ينبغي التفريق فوراً بين الطرفين إلى حين صدور حكم في الموضوع من قبل المحكمة الشرعية. هنا يثور تساؤل كبير حول المهلة التي منحها مشروع القانون لتسوية الانتماء الديني لأحد الزوجين وهي المهلة المنصوص عنها في الفقرات 2و 3 و4 من المادة 230، والتساؤل هو: هل تسوية الانتماء الديني يقلب العقد الباطل إلى عقد صحيح بأثر رجعي؟ ألا يحتاج البطلان لتصحيحه إلى عقد جديد؟
ثالثاًـ أجاز مشروع القانون لغير المسلم الدخول في الاسلام بغض النظر عن صدق نواياه وحقيقة الدوافع التي دفعته للتخلي عن دينه واعتناق دين الاسلام. وعليه يكون التأسلم صحيحاً ومعترفاً به قانوناً حتى ولو كانت الغاية منه مادية بحتة كالاحتيال مثلاً على قواعد الميراث أو التخلص من التزاماته الزوجية. ولا يخفى ما ينطوي عليه ذلك من نزول بالاسلام إلى رتبة الأداة التي يتم استغلالها للوصول أحياناً إلى غايات تتنافى مع الحق والعدل والتعامل السليم.
وأخيراً لا يسعنا إلا أن نقول بأن مشروع القانون سواء للأسباب التي ذكرناها أو لأسباب أخرى لم يتسنّ لنا ذكرها يعتبر انتكاسة خطيرة للمجتمع السوري والروابط العائلية والوشائج الدينية وقيمة الإنسان، ونأمل بحقّ ألا يجد هذا المشروع طريقه إلى التصديق والإقرار في مجلس الشعب.
موقع الآوان
للاطلاع على كامل مواد مشروع القانون الجديد يمكنك الذهاب الى الرابط التالي
https://alsafahat.net/blog/pdf/Syrian_safahat001.doc