امتحان الديمقراطية الثيوقراطية في إيران
د. منى فياض
تجعلنا مشاهد المواجهات المندلعة بين فئات من الشعب الغاضب الآتية من طهران بعد إعلان أحمدي نجاد نجاحه في المكوث على مقعد الرئاسة للجمهورية الإسلامية، وخطابه الشعبوي، الذي كان عبارة عن تكرار لمدى تمسكه بالديمقراطية ومصالح الشعب الذي «انتخبه مجدداً» متجاهلاً في الوقت نفسه ما يجري في الشارع تحت أنفه، وكأنه في قارة أخرى، بل ونكاد نصدقه من أن ما تتناقله وسائل الإعلام العالمية عما يحصل في الشارع، هو محض تهيؤات. وإذا كان كل شيء على ما يرام، وما دامت الديمقراطية على هذا الازدهار في إيران، وعملية الانتخاب ديمقراطية ونزيهة! لا ندري لماذا يمنع وزير الداخلية الذي أشرف على الانتخابات، ويترأس قوات الشرطة الوطنية، الناس من المشاركة بأية «تجمعات محظورة»؟
يجعلنا هذا نستعيد ذكرى العام 1979 وفيما كان السادات يعقد اتفاقية السلام مع إسرائيل، ونتهمه بالعمالة، كان الخميني يقلب النظام في إيران اعتماداً على فئات الشعب هذه نفسها التي يقمعها الآن ورثته في الحكم لإنهاء استبداد الشاه وقمعه.
ها هي الجماهير تعود 30 سنة إلى الوراء وتستعيد رفضها للقمع، فتتعالى في طهران مجدداً هتافات الموت للدكتاتور. يكفي هذا الهتاف من فئة، ولو ضئيلة، لكي يسأل الملالي أنفسهم باسم أي عدالة، وأي حكم إلهي يتحكمون بالإيرانيين؟ وكيف استطاعت الثورة الإسلامية أن تنقلب على نفسها، وتتحول من مدافعة وناطقة باسم الشعب الإيراني إلى جهاز مهمته الأولى العمل على إرساء تحكّم الولي الفقيه الذي استعاد تراث الشاهنشاهية بأثواب التيوقراطيين الجدد المقدسة؟
فرهاد خسرو خافار في كتابه «شهداء الله الجدد» يلقي نظرة على تاريخية هذا التحول وآلياته.
ولنفهم ذلك لا يمكننا عدم الرجوع إلى الظاهرة الجديدة التي برزت وتمثلت بالشهداء الجدد الذين أسهموا بتغيير صورة العالم عن الإسلام والمسلمين. وسوف نهتم بالشيعة منهم، وكيف أمكنهم تحويل العقيدة الشيعية إلى أداة تثويرية؟
إن ظهور شهداء جدد ليس ناتجا عن إعادة إنتاج البنيات التقليدية في المجتمعات الإسلامية، ولا عن إرادة بعض الجماعات بالتصدي للحداثة. إن الشهداء الجدد هم حقا، الأشكال الجديدة من التحرر من التقليد، بشكل المبالغ أحيانا، أو حتى المرضي؛ فهم يتحررون منها باعتناقهم أشكالا من الشرعية تنتمي شكليا إلى هذا التقليد، لكنها تهمشه في الواقع. فنحن أمام تناقض أصبح كلاسيكيا بالنسبة إلى سوسيولوجيي الدين؛ تدين جديد يدرج انقطاعا مع الأشكال التقليدية للحياة الاجتماعية، وهو في الوقت نفسه، يغيّب هذا الانقطاع باسم منهج «أكثر صحة» لإسلام الأصول. إن جزءا كبيرا من جدة الظاهرة المسماة «إسلامية» يكمن في الاستعمال المزدوج لمستوى التقليد الديني بغية تقويضه.
نجد الشهادة كتضحية بالنفس لهدف مقدس في أغلبية الديانات، ولاسيما الإبراهيمية، كفكرة ترتبط بالنضال ضد اللامساواة والقمع. ونجد عند الشيعة بنية عاطفية ترتكز على الشهادة، وتعطي معنى جديدا لدين الله. يحتل الحسين مكانة مميزة. تضحيته شكلت إيقاظا للمسلمين وحثتهم على التصدي لتشويه دين الإسلام.
كانت شهادة ثالث الأئمة مناسبة للكشف عن المغتصبين بغية إصلاح دين الرسول الصحيح. تبدو العلاقة هنا بين الشهادة والجهاد غامضة، إذ أن الهدف من التضحية بالذات ليس النصر، بل العكس.. فالنتيجة هي هزيمة مؤقتة، مصرع الحسين في معركة غير متكافئة، حيث «سيد الشهداء» يقتل دون أن يتذوق النصر، بل على العكس، سيتحقق النصر -حسب هذه الرواية- بعد وفاته عبر كشف لا شرعية السلطة الظالمة.
لكن لم يجمع كل الأطراف على هذه الرواية. بالنسبة إلى مناصري الألم، تعني هزيمة الحسين أن هذا العالم هو وادٍ تذرف فيه الدموع، ويمكنها ان تكون بلسما للآلام التي تخصصها الحياة الدنيا للمؤمن. في حين كانت السلطات العثمانية السنية تضطهد الشيعة، وتعتبرهم منحرفين عن الإسلام، بل وحتى مشركين. في هذه الظروف كانت النظرة إلى الألم تعطي معنى لبقاء القمع، بما أنها تواسي المؤمن. شكل هذا النهج السائد (في ما عدا استثناءات) الدين الشعبي في العالم الشيعي. فشهادة الحسين كانت تغذي وبشكل نادر الثورات، أو الانتفاضات ضد السلطات القمعية، وضد ما يعتبر سيطرة سنية، أو ضد قمع غير محتمل، أو ضد السيطرة الاستعمارية.
لكن بدءا من القرن التاسع عشر، ظهر شكل قتالي إرادي حول شهادة الحسين حوّل شهادته إلى نضال ضد الظلم الذي يتطابق مع إنكار دين الله.
وظهر الشكل الجديد الآخر مع الثورة الإيرانية، حيث استعمل التشيع كإيديولوجية تعبوية في خدمة الثورة الإيرانية، ولم تكن إعادة إنتاج بسيطة للتشيع التقليدي. ثمة تحولات جمة حصلت داخله، وجعلت منه سلاحا يستخدمه العديد من فئات المجتمع الشعبية. بدأت دنيوية التشيع في نهاية القرن التاسع عشر، وأصبح راديكاليا بدءا من السبعينيات، ولاسيما بفضل شريعتي الذي أصبح القائد الإيديولوجي للحركة الثورية. صارت تعابيره كالبناء الثوري الذاتي والتشيع الأحمر، وتشيع علي الأكثر تداولا في أثناء الثورة الإيرانية.
حولت دنيوية التشيع، دور المؤمن تحولا جذريا. وبعدما كان التشيع في الماضي يميل إلى البحث عن المواساة من قلة عدالة العالم عبر الاعتقاد بمذهب الألم، أو الألمية، وصب كل آماله على المهدي المنتظر (الإمام الثاني عشر الغائب). أما الآن فإن المؤمن الحقيقي قد حوّل الانتظار السلبي إلى انتظار عملي، ويغير تشيّع الطبقات المسيطرة المزيف «التشيع الصفوي» إلى تشيع ثوري حقيقي، «تشيع علي» أول إمام شيعي. وصل الشيعي إلى مبتغاه عبر إطلاقه الصراع الثوري ضد الطغاة.
كانت تلك المرحلة الثانية للتشيع الراديكالي، لكن يبدو أن المرحلة الثالثة بدأت، وسوف نراقب في المدى المنظور ما سوف تؤول إليه نتائج الانتخابات الرئاسية في إيران وكيف سوف تتمكن الطبقة الحاكمة التيوقراطية من تبرير انقلاب ثورة الحسين على نفسها وتحولها لقمع المنتفضين طلباً للعدالة؟.
أطلق خامنئي على نتائج عملية الانتخاب التي أعادت انتخاب نجاد «التقييم المقدس». قداسة تتطلب تعطيل كل شبكات الاتصال الإلكترونية والهاتفية الحديثة لكي تحتفظ بنقائها الأصولي وقدسيتها. ولننتظر نتيجة الاعتقالات في صفوف القيادات الإصلاحية ولنر ماذا سوف يحصل للمرشح الموسوي الذي قال في بيان نشره على موقعه الإلكتروني: «أحذر من أنني لن أستسلم لهذا التلاعب، وحصيلة ما شهدناه من أداء للمسؤولين، ليس إلا مجرد هزة لدعائم النظام المقدس للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وطغيان للأكاذيب والدكتاتورية». وأردف: «إن الشعب لن يحترم أولئك الذين وصلوا إلى السلطة عن طريق الغش».
كاتبة من لبنان
أوان