الانتخابات الرئاسية الإيرانية… من التسويد النجادي الى “الكرنفال” الحزيراني
وضاح شرارة
غداة أربعة أيام على إحصاء وزارة الداخلية الإيرانية نتائج الانتخابات الرئاسية التي دعي الى المشاركة فيها 46 مليون ناخب، ولبى الدعوة 80 في المئة منهم، نظم انصار محمود أحمدي نجاد، المنتخب الى ولاية ثانية في الدورة الأولى بثلثي أصوات المقترعين، نظموا تظاهرة تأييد و”توحيد” لصاحبهم. ومنع أنصار خصم الرئيس المنتخب، في اليوم نفسه، من التظاهر. وناشد المعارضين والمحتجين صاحبُهم، المرشح مير حسين موسوي، البقاء في منازلهم، وترك الشارع العظيم بطهران، ولي عصر (إمام الزمان المنتظر، و”خليفة” بهلوي ثم محمد مصدق، رئيس الوزراء الذي “قلبته” الـ “سي آي أي” في 1953، على الاسم)، الى متولي احمدي نجاد وراعيه، علي خامنئي، المرشد والولي الفقيه ومرجع التقليد، آية الله العظمى.
[المحادثة الأخطبوطية
وتقول وكالات الأخبار في الحشد النجادي والخامنئي هذا وكنا، نحن مشاهدي التلفزيون، رأينا العشية السابقة صوراً مضطربة، وتكاد تكون رمادية وبعيدة، تظهر فيها ظهوراً هلامياً حركات جموع تروح هذه الجهة ثم تلك، وتشبِّه موج البحر في علوه وهبوطه وامتلاء أطرافه وانحسارها وضمورها ـ تقول الوكالات ان الحشد جمع من غير شك آلافاً من المتظاهرين، ربما بلغوا العشرة أو فوق العشرة. والحق ان العدد، ولو فاق العشرة آلاف أضعافاً كثيرة، ليس ما يستوقف، ويدعو الى النظر والتأمل. فما يستوقف هو تناول التلفزيون (الرسمي طبعاً) المسيرة أو التظاهرة الجديدة أو الأخيرة. فالصور والمشاهد اقتصرت على نصف الشاشة، ومعظمها بعيد من المتظاهرين، وضيق البؤرة، ومحجم عمداً عن التصوير العالي والإجمالي والبانورامي، ومن غير صوت خلفي أو غير خلفي. وأما نصف الشاشة الآخر، نظير التظاهرة الحاشدة والتوحيدية، المفترضة عينة من 62،63 في المئة المقترعين لأحمدي نجاد، فـ “احتله” المعلقون أو المذيعون، خطباء مكبرات الصوت الجماهيرية في حجرات الاستديو المركزي المغلقة والصامتة.
وعلى هذا، انفرد المذيعون الخطباء بالكلام والتعليق الكثيرَين على الصور القليلة والغائمة والضيقة الحقل والصامتة. وعادت الشاشة، وصورها المتدافعة والعصية على القراءة والتصفح النافذين والبصيرين، عادت الى دورها المتواضع والثانوي سنداً للإذاعة والصوت الجهوريين والمعنويين، والمقتصرين على المعنى والمضبوطين عليه. والضبط ليس، في هذا المعرض، كناية ولا مجازاً. فالمعلقون والمحللون، على قول الوكالات، وهم كلهم صوت مجلس تنسيق الدعاية الإسلامية، صاحب الدعوة الى التظاهرة، تكهنوا بالأثر المترتب على التظاهرة النصفية والصامتة. فأجمعوا، والإجماع فضيلة الصوت الواحد الداعي ومجيب الدعوة معاً، على ان الجمع “يحسم دابر المؤامرة والإخلال بالأمن”، و”يحبط مخططات الأعداء”.
وفي الأثناء، على قول موقع قناة “برس تي في” على الشبكة، شهدت مراسلة القناة مناصري المرشح الخاسر، وخصم أحمدي نجاد و(تدريجاً) علي خامنئي، يتجمعون ويقصدون ساحة وناك، أحد مسارح الحملة الانتخابية البارزة شمالاً، ويتكاثرون، ويضمون روافد المتظاهرين المتقاطرين من الطرق والشوارع الفرعية والخلفية. وحين صاروا “تظاهرة كبيرة وضخمة”، وخضراء جهيرة الأخضر، قصدوا “في هدوء” جادة والي عصر، الشريان الواصل جنوب طهران “الفقير” بشمالها “الميسور”، والبالغ 16 كلم طولاً و50 متراً عرضاً. وانعطفوا صوب مبنى هيئة التلفزيون الإيراني، جنوباً، حيث يطمئن صوت المستضعفين، ونورهم ومنارتهم، في حضن أهله. ويسعه ان يعمى عن تظاهر الخصوم “الأعداء”، ويصم الأذن عن أصواتهم ومطاليبهم، ويعدمهم. وكان المقترعون لموسوي يجتمعون في مدن ايران الكبيرة الأخرى مثل شيراز، جنوباً، وأصفهان، وسطاً. فيسرع “الباسيج”، شرطة التعبئة (“المعبأون” حرفياً)، الى محاصرتهم وتخويفهم وتفريقهم واعتقال بعضهم، حين لا يقتلونهم غدراً.
ويتضافر على الإسكات والتعتيم، وهو صنو الإعدام واسمه الآخر في عصرٍ وليّه أو امامُه الصورة المتلفزة والرقمية وليس الصوت الإذاعي، قطع شركة الهاتف الخلوي التي تملكها الدولة الاتصال عمداً، والحظر على أخبار وسائل الإعلام الأجنبية. وقال أحد مأذوني وزارة الثقافة أن وزارته، أي دولته، حظرت على الصحافيين والمراسلين التصوير التلفزيوني والفوتوغرافي (الشمسي) في انحاء “المدينة”. وفي المدن الإيرانية الأخرى، بالأحرى. وكانت السلطات الفقهية الراشدة والهادية والمهدية، الثقافية والإعلامية، أسكتت معظم المواقع والمدونات المناصرة موسوي في الأيام الثلاثة السابقة. فلجأ المناصرون الى نشر الأخبار والصور وتبادلها على مواقع “حرب” الغوار والطياحة المحدثة، وطرق “تموينها”، وعلى “فايسبوك”، و”تويتر”، منافسه المولود قبل وقت قليل. فانتصاب نصف الشاشة التلفزيونية الرسمية معلقاً أوحد ومأذوناً على نصفها المصوَّر والغامض والصامت الآخر، وعلى الحشد المستجيب دعوة المعلقين وهيئتهم الراشدة (مجلس تنسيق الدعاية الإسلامية)، إنما شرطة تجفيف “الدم” السائل في شرايين المواصلات والخطوط التلفزيونية والإلكترونية. فلا يستقيم تسويد الشاشات، وإطلاق ألسنة المحللين المأذونين في القيام مقام المقترعين والناشطين والمتظاهرين وأصحاب الرسائل القصيرة والمواقع والمدونات، أي مقام المحادثة العظيمة والأخطبوطية التي عصت بإيران والإيرانيين طوال الأسبوعين الأولين من شهر حزيران 2009، ومثَّلت على السياسة غير الخمينية ولا الخامنئية الحرسية والباسيجية ـ لا يستقيم هذا إلا بخنق ذاك.
[العزل والكوى
والحق ان الانقلاب الى الحال الأخيرة، حال التعتيم والتسويد وانتصاب نصف الشاشة رقيباً على نصفها الصامت الآخر، هو مرآة الانقلاب الحرسي والفقهي على المحادثة والسياسة الإيرانيتين اللتين استفاقتا في الأيام العشرة عشية الانتخابات، بعد أربعة أعوام من سلطة حرسية وبوليسية متزمتة. فعلى رغم ان سنوات ولايتي محمد خاتمي (1997 2005) لم تدرأ عن الإيرانيين المتنورين اغتيالات 1998، وهذه طاولت بعض المثقفين (وفيهم امرأة) ولا اقتحام جامعة طهران والعدوان على الطلاب وقتل بعضهم ترهيباً، ولا هي حمت الفقراء وأصحاب المداخيل المتواضعة من البطالة وانهيار قيمة العملة وضعف الخدمات العامة، إلا انها نفخت بعض الروح واللون والأمل في الحياة الاجتماعية والثقافية. ودعت الشباب والطلاب والنساء وأهالي المدن الى مشاركة واسعة في دائرة التعبير العامة والمشتركة. وسعى الرئيس السابق في تقييد الحسبة الحرسية والباسيجية على حركات الناس وسكناتهم، وعلى أفكارهم وأقوالهم وذوقهم ولباسهم واختلاطهم وشرابهم ودراستهم. وهو لم يهدم جدار الفصل الشائك والعقيم الذي شيدته الخمينية ورفعته، وأوكلت إليه عزل إيران والإيرانيين عن تيارات مبادلات العالم ومداولاته، على وجوهها الكثيرة، ولكنه فتح كوى في الجدار الأمني والإيديولوجي، أو حال بعض الوقت دون ردمها وتطيينها على وجه السرعة، ومعاقبة المتجرئين على النظر أو الكلام أو الاستماع منها (ولم يبرئ هذا عبدي ولا كديوار، ولم يخرجهما من السجن ولكنه ربما حماهما من السحق وأحكام القتل التي يتهدد بها قضاة خامنئي وأحمدي نجاد معتقلي اليوم).
وحين حانت انتخابات 2005، كان استنفد الرئيس ولايتيه، وبدا جلياً، منذ انتخابات 2002 البلدية، قصوره وقصور أنصاره، وحزب المشاركة الذي يجمعهم ويضويهم، عن جمع كثرة الإيرانيين على سياسة تتفادى، في آن، الانقسام الداخلي العميق، ووصاية مجالس النظام الانتصابية، أو الرقابية على اجتماعهم واقتصادهم ونزاعاتهم وانتخاباتهم. وإلى هذا، وهو فادح، لم يخرج من صفوف الخاتميين، أو أنصار “الإصلاح” المقيدين بقيود “ولاية الفقيه” المزعومة والرازحين تحت ثقل تقاسم كتلها النفوذ والعوائد والموالي، لم يخرج “إصلاحي” واحد اضطلع باستئناف دعوة الرئيس السابق أو تجديدها. والعقم هذا ليس من حيل النظام الخميني المركب ومراوغته وحسب. فالحرب التي أصلتها المجالس والإدارة المهترئة والفاسدة الرئيس خاتمي، ومجلس الشورى المناصر له، استنزفت شطراً كبيراً من طاقاته ووقته ومساوماته و”رجاله”.
ولكن خاتمي سلَّم طوعاً، منذ فوزه وعلى رغم فوزه الكاسح بأصوات لم يفلح التزوير المتعمد والشرس اليوم في بلوغ عددها (70 في المئة من المقترعين)، بأرجحية المرشد وهيئاته وأجهزته. وهو لم ينازع المرشد والحرس والباسيج و”أنصار حزب الله” والحوزة على قواعدهم وجمهورهم من “عيال” الثورة الخمينية وحروبها المعلنة والمستترة، ومستضعفيها وعوامها. فتركهم نهباً لوصاية شرهة ومتنمرة لم تفتأ تشد قبضتها على أعناقهم، وتغريهم بما أغرت به الامبراطورية الرومانية العوام، وصرفتهم بواسطته عن الجمهورية، وهو الخبز (المنح والقروض والإعفاءات والشيكات والطعام لملايين “المستضعفين” والموظفين وصغار اصحاب المصالح في الريف وضواحي المدن) والسيرك (النووي والثوري والإقليمي والشعبوي الداخلي).
فلم تقتصر الهزيمة على مرتبة “الإصلاحيين” المتأخرة، وهم كان وجههم البارز الشيخ المعمم والمسن (نسبياً) مهدي كروبي قبل ان تجلوه معارضة الأعوام الأربعة الأخيرة صوتاً غير متلجلج، بل تجاوزت تأخر المرتبة، وانفراط العقد، الى اضطلاع رجل مثل محمود أحمدي نجاد بقيادة ايران في النصف الثاني من العقد الأول. فـ “تجديد” النظام الخميني، وما اقتضاه من تقديم الحرس الثوري والباسيج وهيئاتهما ومصالحهما على هيئات النظام الأخرى بما فيها هيئة الإرشاد، وما آذن به التجديد هذا من تحريك نعرة “المستضعفين” في الداخل والنفخ في عصبية إقليمية مقاتلة تعهدت حروب اختيار متواترة (في 2006 و2008 2009) وشقاقاً أهلياً مزمناً (في لبنان وفلسطين والعراق) تولاه الحرسي الاستخباري الغامض والمغامر هذا. وهو زعم إحياء الثورة الإيرانية، وقيادة “ثورة إسلامية ثانية” تُتِم الأولى، وتقتلع جذور “انحرافاتها” اللاحقة، وفي مقدمها امتيازات بعض اعيان النظام من المتحفظين عن سياسة أحمدي نجاد وعن شعاراته وخطاباته قبل سياسته. ويشمل أهل الامتيازات الأثرياء، وأهل الالتزامات من غير الحرس، ومعظم العلماء “القاعدين” أو “الصامتين”، والطبقات الوسطى الليبرالية وأولادهم الوارثين، والطلاب والنساء المائلين مع “الغرب”.
واتفق انتخاب أحمدي نجاد مع غلاء أسعار الطاقة، وفورة البلدان الناشئة “الكبرى”، والعولمة المالية. فمدته هذه بموارد عظيمة صرفها الى توزيع “خبزه” وإخراج ألعاب “سيركه”، وإلى قمع خصومه الكثر والمتحفظين عنه. فأحيا، منذ اسابيع ولايته الأولى، مراقبة الباسيج البوليسية على لباس الصبايا والنساء، وزينتهن وشعورهن وصحبتهن من يصحبن. وخول شرطة “الأخلاق” تعنيف المخالفين والمخالفات، وتوقيفهم (وتوقيفهن) واقتيادهم الى المكاتب المحلية وابتزازهم والتشهير بهم، على ما صورت وروت مرجانة ساترابي في أشرطتها المصورة، “بيرسيبوليس”، وفي فيلمها الجامع (وهي تناولت المراحل الأولى من الانقلاب الخميني وقهره). فسام خصومه ومعارضيه السياسيين والاجتماعيين والثقافيين والإيديولوجيين، وهم على الأرجح معظم الشعب الإيراني “النبيل”، على قول حسين منتظري، إذلالاً ومهانة وتضييقاً. وجمعت هذه التمييز الرمزي الى وطأة التعسف والإمعان في الحجر والانغلاق والارتهان للطغمة الخمينية المتجددة والحاكمة.
[الرمادي والأخضر
وعشية الانتخابات, أو قبل أشهر قليلة، لم يكن الإيرانيون وكثرة المراقبين، داخل إيران وخارجها، ليشكّوا جدياً في تجديد ولاية محمود أحمدي نجاد. وذلك عملاً بسنّة درج عليها النظام منذ ترئيس علي خامنئي في 1981 ـ 1989. وهذه السنة انقلبت “حقاً” ادعاه المحافظون لصاحبهم، وبدا أن رأس النظام لا ينكره عليه، على رغم كثرة الثارات التي أحجبها الرجل في طاقم الحكم، وأجنحته المتنازعة والمتفرقة. وكان السبب فيها سعيه علانية وجهاراً في جمع مقاليد السلطة، ومفاتيح النفوذ، في نفسه وأنصاره وصنائعه، وفي إقصاء كتل النفوذ الأخرى، على خلاف ما استقر تقليداً ثابتاً في سياسة “الجمهورية الإسلامية”. وقبل نحو السنة، أعلن محمد خاتمي عزوفه عن خوض الانتخابات. وأخرج إعلانه مخرج خطوة الى الأمام، وأخرى جانباً، وثالثة الى الوراء، على جاري تردد هاملت الإيراني هذا، واضطرابه وتنازعه المكبِّل. ولم ييأس بعض اصحابه من حمله على الترشح. وأولهم أحد أركان حملته الأولى، وأحد نوابه الرئاسيين في ولايته الثانية، محمد علي أبطحي، الكثير الوجوه، والمتشابك الأدوار والخيوط، وأحد المعتقلين البارزين في قيادة حملة مير حسين موسوي غداة إعلان النتائج.
وأثمرت المثابرة عودة عن العزوف، قبل اسابيع قليلة من افتتاح الحملة. ودعا المرشح، أو المؤذن بالترشح، الى مهرجانات على عتبة الصفة الانتخابية، اختبارية، خارج طهران. فكان الإقبال لجباً وعريضاً. وأطل الرجل ذو المحيا الأنيس والطلق، وصاحب النظرة الصافية والمباشرة، والعينين اللتين يذكر الإيرانيون انهما دمعتا في أوقات عصيبة بدا فيها الرئيس مقيداً بولائه البنوي للولي الأب وسياسياً مشلولاً وحائراً. واستقبله الجمهور مرحباً، وآملاً في التخلص من دبق جنرال استخبارات الحرس، و”دكتور” تنظيم المواصلات في المدن الخانقة والملوثة التي تتصدرها طهران، ورئيس بلديتها السابق. وثَنَى تهديد حاشية أحمدي نجاد الرئيس السابق، وربما الآتي، بلقائه مصير بنظير (بنازير) بوتو، على ما كتبت “كيهان” وعلى ما تهامسَ من غير شك اهل الظل الذين تنقل عنهم “كيهان” وأشاعوا، ثنى التهديد المرشح عن المضي على حملته. وتولى وسيط الجمهورية ومناورها، ورجل فصولها الكثيرة والمتقلبة، علي اكبر هاشمي رفسنجاني، وساطة أفضت الى انثناء خاتمي، على ما يحب ويرغب، وترشيح مير حسين موسوي، أحد اصحاب خميني المقربين، وجامع طرفي الاعتدال مصلحاً ومحافظاً، و”اليساري الفلسطيني”، على قول ايليوت ابرامز (أحد بيروقراطيي الأمن القومي الأميركي البارزين). وافتُرض أن موسوي المنكفئ والصامت طوال 20 عاماً حاسمة، ومخاصم الرئيس المرشح، أحمدي نجاد، من طريق زوجته زهرة رناورد (التي صرفها الرئيس الحرسي من رئاسة الجامعة النسائية فيمن صرف و”طهر”)، قد لا يهزم احمدي نجاد، ولكنه قد يحول دون فوزه في الدورة الأولى، ويضيّق الفرق بين المرشحين. فإذا فاز، على رغم تكتل الخصوم، والمتحفظين الذين احتسب فيهم علي خامنئي نفسه ورجاله وأقرانه من رؤوس الحوزة، خرج من المعركة “بطة عرجاء”، على ما أحب المعلقون العرب والعجم القول في جورج بوش الابن ورددوا كثيراً غداة الانتخابات النصفية في خريف 2006.
وأراد استراتيجيو النظام، وأولهم ولاة الدعاية الإسلامية والثقافة (وهما واحد بطهران و”ضاحية” بيروت) وكبار موظفي وزارة الداخلية، وفوقهم “الأوصياء” على الدستور و”خبراؤه” وأهل التمييز والتشخيص، أرادوا إفحام الأعداء، وكسرهم وإذلالهم وإماتتهم بغيظهم وتعذيبهم. وفطنوا، عن دراية وحدس سوسيولوجيين، وربما في ضوء استشارات مكاتب دولية مثل التي أطلقت كذبة مفاوضة الحزب الخميني المسلح في لبنان صندوق النقد الدولي، فطنوا الى ان دليلهم الأقوى على مزاعمهم في موالاة الإيرانيين الثيوقراطية الخمينية المسلحة هو إشراك الإيرانيين المتحفظين والعازفين في الحملة الانتخابية. ويقتضي الإشراك هذا، واستجابة الإيرانيين الدعوة المتأخرة والمقيدة، الرضوخ لشروط احتفال وطني صاخب حر، ينسي الناخبين، وعلى الأخص فتيانهم وفتياتهم (60 في المئة من الناخبين) وجمهور الرسائل القصيرة ومواقع الإنترنت و”الفايس بوك” و”تويتر” والطلاب (60 في المئة منهم طالبات) والمتعلمين وأهل المهن، اعوام أحمدي نجاد وخامنئي “السياسية” والدعاوية والنووية الثقيلة.
وارتضى دعاة الأجهزة والكتل الصارمون والرماديون، في هذا السبيل، إعلان حال طوارئ مقلوبة واستثنائية طوال نحو أسبوعين. فتركوا للجمهور الذي نشأ وشب على هدهدة الحكاية الخاتمية، وحملته الولاية النجادية على تجميل الحكاية الذهبية هذه، حبلاً طويلاً على الغارب. وعندما حل مئات المراسلين والصحافيين الغربيين ربوع إيران طوال 10 أيام معدودة، وكانوا منعوا عملياً من ارتيادها في الأوقات العادية أو اقتصر اهتمامهم في الأثناء على السيرك الإقليمي، فاجأهم الإيرانيون باحتفالاتهم اليومية، وأعيادهم المخالفة على نحو حرفي ودقيق “عاشوراء” البويهية والخمينية، وتعمدهم الرد على شعائرها، ومناقضة شطور الشعائر هذه بشطور من ايار 1968. فعلى نقيض الأسود طليت الوجوه والجدران والسيارات بالأخضر الفاتح والفاقع. ورفعت الأعلام الخضر على المنازل والسيارات وفوق التظاهرات، ولُفَّت المعاصم بالخيوط الخضر، ورسمت الراحات المفتوحة وأصابعها الخمسة على الجدران. وسارت الموكب السيارة، وجابت شوارع المدن مثقلة بحملة الأعلام (الخضر) وحاملاتها، طوال ساعات العصر والغروب والعشاء الى مطلع الفجر، أو ساعات الليل المتأخرة الى السحر ووقت السحور في الليالي الرمضانية.
[العيد والتبديد
وهتف أهل المواكب مودعين احمدي نجاد بـ “باي! باي!”، وناعتيه بالكذب والتضليل وتزوير الأرقام (مثل زعمه ان متوسط التضخم هو 15 في المئة، فرد البنك المركزي ان الرقم الدقيق هو 25، ودعواه ان البطالة اقل من 8 في المئة ورد اختصاصيين مستقيلين انها تبلغ نحو 20 في المئة). وعلى خلاف الشاشة التلفزيونية ذات الشعبتين، الصامتة الغائمة والخطابية الثرثارة، وسع مناصري المرشحين البارزين المناقشة والمطارحة على جهتي الطريق الواحدة، وعلى الرصيف الواحد، ومن سيارة الى سيارة. وتبادلوا، الى اللكمات والرفسات والشتائم أحياناً، البيانات والهتافات والشعارات والحجج، أحياناً أخرى. وتبوأت النساء وتلميذات وطالبات وعاملات وجامعيات و”ربات” منازل، محل الصدارة. فلوّنّ المواكب والمسيرات والتظاهرات بألوان تعمدن زهوها وبهجتها وضوءها. وسهرن خارج البيوت. وتوافدن الى الاجتماعات والمهرجانات وبادلن الشباب الهتاف والتحية و”خفقة القلب”، على زعم صحافية فرنسية. وأسمعن أصواتهن. وانتخبن زهرة راهنورد، موسوي الرسامة، وصاحبة صالة عرض فنية، والأستاذة والعميدة الجامعية، أم ثلاثة أولاد، وصاحبة الوشاح الملون تحت غطاء الرأس الأسود، وشريكة زوجها في الحملة والخطابة، وشابكة يدها بيده على الملأ، ومتقدمته الى المنبر، والقائلة “نحن” كناية عن الرئيس الجائز وعن نفسها، ومن صب أحمدي نجاد عليها افتراءه في معرض تهمته خصمه بالفساد والمحاباة زهرة راهنورد هذه انتخبتها الإيرانيات “الخضراوات” في اثناء الحملة علماً عليهن، وعلى علانيتهن وطلبهن الاختلاط والصداقة والشركة والمحادثة والقيام بالنفس من غير مراتب ولا وصاية.
وترك المعبأون والمستنفرون طوعاً (الباسيج) المغتاظون، وهم يعدون 6 الى 8 ملايين ايراني وناخب، مواطنيهم ومواطناتهم المختلفين و”الغرباء”، يحتفلون بـ “كرنفالهم” و”كرمسهم”. وخلوا بينهم (وبينهن) وبين قلب الدنيا، والعادات السائرة والسنن الثورية المعهودة والمشهورة، رأساً على عقب، على ما يجدر الأمر بالأعياد وتبديدها في أيام قليلة خزائن أعوام طويلة من الإمساك والجمع والمراكمة. وأمسكوا، على ما أمروا، عن قمع الإيرانيين المحتلفين، بعد صمت رمادي طويل، بانبعاث الحياة والألوان والمشاعر والأفكار والكلمات والروابط والكثرة في السواد الخميني والنجادي.
وجاءت الإشارة من عل، على صورة دعوة الى سبع مطارحات تلفزيونية حرة بين المرشحين الأربعة. فشهد الإيرانيون وسمعوا، وكان متوسط عدد المشاهدين المستمعين 45 مليوناً، سياسييهم ومقدمي دولتهم، لأول مرة، يكلم بعضهم بعضاً من غير تزويق ولا تلفيق أو مواربة. وخرج على الملأ تفرق أهل النظام المفترضين اسرة أو عائلة واحدة تحت عباءة الولي. وأنكر بعضهم على بعضهم الآخر الكذب والفساد والرشوة، والتوسل بالقضايا السياسية الكبيرة الى الصغائر. واستخلص الجمهور، والحملات من بعده، من المطارحات صوراً أو مواقف تختصر نهجاً. فعمت الجدران والصحف صورة إبهام مير حسين موسوي وهي تقطع كلام الرئيس محمود أحمدي نجاد المسترسل في رده الطويل، وغير الآبه بالقيد على وقت الكلام، وتلزمه الاستماع الى منافسه. وثبت ان الإيرانيين ليسوا رعية من القصّر لينتصب وصياً عليها وولياً مدعي مناجاة إمام الزمان، ومكاشفه على حدة من الشعب الإيراني، ومن هيئات دولته (وعلى رأسها المرشد!). وطالبُ الوصاية يستظهر بكرامات لم يعطها غيره مثل النور الذي جلل رأسه ووجهه وهو يخطب قادة الأمم و”ملوكها” في محفلهم الأممي. وكان بعض منافسيه، السابقين أو المرجأين، مثل علي لاريجاني، رئيس مجلس الشورى، يرى رؤى “يظهر” فيها خميني، وليس هو.
ولكن التلفزيون، وعلانيته، ذو حدين، على ما يعلم حق العلم أعيان الخمينية وبن لادن وأحزابهم. فهو مجلى الخلاف والنزاع والكثرة والاحتجاج، وعلى هذا فهو “دنيوي” و”بشري” ومبدد هالات. ولكنه، من وجه آخر، صانع ايقونات، ومجلل هامات. فشطر من الجمهور رأى أحمدي نجاد في صورة البطل المظلوم والمنافح عنه، والذائد عن حياضه وحقوقه ومصالحه، وحاميه من وحشية الليبراليين الشرهين، ومصاصي الدماء، عملاء “الأميركان” الذين أذلهم الحرسي ابن الحداد، و”أخوه البطل” حسن نصر الله، على ما قال الأول في الثاني. وترددت أصداء المناظرات التلفزيونية دعوة متعاظمة الى الحساب والعلانية والكثرة، من وجه، ويقيناً بإقدام “الملك” فيروز، البطل الملحمي الفارسي، وعدله ونصرته الضعيف على المستكبر الظالم، من وجه آخر.
والحق ان الإيرانيين لم يخرجوا الى علانيتهم الانتخابية، الموقتة والمقيدة، من مراسهم السياسي والاجتماعي طوال العقود “الخائية” (خميني وخامئني وخاتمي) الثلاثة. فهم خرجوا إليها من ارتدادهم الى حياتهم الخاصة التي قسرتهم السياسات الخمينية عليها، على مثال عرفه ووصفه روائيو الأنظمة الكليانية الشولية من أمثال ميلان كونديرا التشيكي الفرنسي (وقد يحضر المتذكر، اليوم، غاسل الزجاج في “خفة الكائن المحالة الاحتمال”، وكلامه على مغامراته الجنسية). وبعض الصحافيين الذين زاروا، أخيراً طهران ومدناً إيرانية أخرى، لاحظوا كثرة الأشكال والصور التي يتصور فيها الانصراف الى الاهتمام بالنفس، أو ما سماه أحدهم “هم ذات النفس”. وبعض الصور هذه مأساوي. فمنها مقتل 28 ألف نفس في السنة في حوادث سير، وإصابة 280 ألفاً بالتعويق. وهذا ثمرة ركوب هوى السيارة الفردية الإيرانيين. ومنها، كذلك، تعاظم الانتحار في صفوف اهل المدن العريقين، مسنين وشباناً، وفي صفوف المهاجرين من الريف الى المدينة الأولى العظيمة والساحقة. وإدمان المخدرات، على رغم الحرب التي تشنها قوات الأمن على الحدود الأفغانية الإيرانية وكلفة الحرب الباهظة، البشرية والمادية، قد يكون تظاهرة من تظاهرات “الخلاص” البائس والفردي في مجتمع يتربع في سدته السياسية متزمتون، ومترهبو سياسة وأمر (ونهي، على وجه الخصوص). ومنها، أخيراً، تردي متوسط الإنجاب والولادات الى مستوى “أوروبي”.
وإلى الوجه المعتم هذا، ثمة وجه آخر يشاركه الدلالة ويخالفه في العبارة. فجراحة تجميل الوجه وقسماته، وأولها جراحة الأنف (وتصغيره أو الحد من تصدر عظمته الوجه وغلبتها عليه)، لم تبق ميلاً، أو شاغلاً يقتصر على فئة ضيقة من الناس. وهذا ما كانت عليه العمليات الجراحية قبل 4 سنوات، عندما انتبهت الصحف الإيرانية إليها ونبهت عليها. فلم يفت الصحافيين الوافدين، والنازلين ايران بعد غياب طويل أو لأول مرة، عموم التظاهرة ومعناها. والعناية بالجسد، والوجه آيته الأولى، وبجماله لا تقتصر في دولة انتصبت لسياسة الأجساد واللباس والقيافة على قدر ما تصدت لسياسة النفوس والأذواق والأهواء والأفكار، العناية هذه جزء من مجادلة السلطان، والرد عليه حيث لا يحتسب رداً وجدالاً. وتتصل العمليات الجراحية التجميلية بحلقات نفسية تنصرف الى “تجميل” النفس، مثل التحليل النفسي، وعالم الرياضة الروحية الشرقي البوذي، والروحانيات الغيبية، والرياضات الجسمانية، من البادمينتون الى كرة الطاولة.
ويرتدي الانقسام الاجتماعي والسياسي الإيراني العميق، في ضوء العيد الانتخابي، وعشيته الرمادية وغداته الدامية والقانية، أثواباً مسرحية. وهذه جزء من تعريف هوية ايران السياسية. وهي قناع يحول بين قواها وبين تعرفها مسالكها الى مجتمع سياسي يقر بالكثرة والعلانية والمناقشة ناموساً يومياً وعادياً، وليس مكيدة ومراوغة تستدرجان الإيرانيين الى مبايعة احد أقلهم مروءة سلطاناً عليهم.
المستقبل