الدور الإيراني والعلاقة الإيرانية ـ السّورية

عن “الفقراء” و”مرشحهم”… وعقل إيران الكلّي

مصطفى اللباد
انتهت الانتخابات الرئاسية العاشرة في إيران بنتيجة غير متوقعة هي فوز الرئيس الحالي محمود أحمدي نجاد من الجولة الأولى، ولكن الجدل حول النتيجة لم يحسم بعد سواء في داخل إيران أو خارجها. ومع اندلاع التظاهرات المعترضة على النتيجة والمؤيدة للمرشح الإصلاحي مير حسين موسوي في المدن الإيرانية المختلفة ومنها أصفهان، يدور سؤال في ذهن الغالبية العظمى من المتابعين للمشهد الإيراني الساخن: ما هو السياق الأساسي الذي يتحكم في انتخابات إيران ويستطيع أن يقدم تفسيراً معقولاً لما جرى؟
تستلزم الإجابة مقدمة مطولة تليق بالسؤال المعقد، على العكس من الأحكام السطحية الرائجة. يعتبر بعض مؤيدي الرئيس نجاد أنه “مرشح الفقراء”، وهم الذين حسموا النتيجة لمصلحته! وهو قائد “محور الممانعة” في المنطقة، و”العدو الأول للولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل”، وهي الصفات والنعوت التي تغرف من خطاب إيديولوجي رجراج يفتقر إلى السياق كما إلى أدوات التحليل غير الإيديولوجية. ومع انتفاء الانقسام الانتخابي في إيران على خلفية اليمين واليسار، بسبب انضواء جميع المرشحين تحت عباءة النظام من جهة والسيولة الإيديولوجية للمرشحين من جهة أخرى، تبدو هناك انقسامات جهوية وعرقية وجندرية واجتماعية – ثقافية بين نجاد وموسوي. صحيح أن نجاد له مؤيدين بين شرائح إيرانية شعبية غير قليلة، ولكن أجهزة الدولة الإيرانية وأذرعها العسكرية والأمنية تدخلت ومالت لمصلحة نجاد على حساب موسوي المتمتع بتأييد شعبي لا يمكن إنكاره أيضاً، وإن كان ذلك التدخل يعود لأسباب ليست إيديولوجية بالضرورة، كما سيتضح لاحقاً.
تعيد المقولات السطحية والمرتكزة على فكرة “الخير والشر”، إنتاج سجال ثنائي بين “المحافظين” و”الإصلاحيين” في قالب رخيص ومستهلك. وهكذا ينهض المنطق الداخلي للثنائية المذكورة على قاعدة تضاد الآراء والمواقف؛ ولأن نجاد يحمل كل الصفات السابقة، فإن المرشح الإصلاحي مير حسين موسوي هو بالضرورة – حسب منطق هؤلاء – على العكس من ذلك أي “مرشح الأغنياء” و”صديق إسرائيل”، و”المتخاذل عن نصرة الممانعة”. ويدلل على فساد وتهافت هكذا بضاعة تحليلية أن موسوي، مثل نجاد، ينتمي إلى النظام السياسي الإيراني، وبالتالي يعد رفع نجاد إلى مصاف “الممانعين” أو الهبوط بموسوي إلى مرتبة “المتخاذلين”، أمراً يتناقض وطبيعة الحراك الدائر بين أجنحة النظام السياسي في إيران. ولا يتساوق مدح نجاد وذم موسوي من طرف مستعيدي الثنائيات والسجالات، مع وجود تلك الطبيعة التضايفية التي تميز علاقة كل منهما بالأخر. والتضايف يعني أنه لا يمكن تعقل ظاهرة بدون تعقل واستنساب الأخرى مثل: الأبوة والبنوة والأعلى والأدنى وهكذا. فإذا كان المطلوب تحليلياً المقايسة الأقرب إلى الدقة والموضوعية بين الشخصيتين وما تمثلانه من أفكار سياسية، فينبغي أن يتم ذلك إذن على قاعدة المشتركات التي تميزهما، فإذا كان نجاد “ممانعاً” فموسوي أيضاً، وإن كان نجاد “عدو أميركا وإسرائيل” فموسوي كذلك، وهي ما يغيب عن عمد وسابق تصميم في تحليلات الزاعقين.
دخلت إيران الانتخابات وقوتها الناعمة في أوجها، فهناك أربعة مرشحين يتنافسون على منصب الرئاسة – ليس المنصب رقم واحد في الدولة بحسب الدستور- وهي ظاهرة غير معتادة في الشرق الأوسط، ولكنها خرجت من الانتخابات ونظامها السياسي يواجه أعمق أزمة مشروعية في تاريخه الممتد إلى عام 1979. قاومت إيران الضغوط الدولية عليها بضرورة ومددت نفوذها الإقليمي في المنطقة في السنوات الماضية كما لم تفعل في تاريخها، ولكن استحضار “المؤامرة” في العملية الانتخابية الأخيرة يبدو خارج سياق التحليل والتفحص في معاني ودلالات المشهد. والمرشح الإصلاحي مير حسين موسوي، رئيس الوزراء خلال فترة الحرب الإيرانية – العراقية والمؤتمن على اقتصاد إيران وسياستها الخارجية ليس “مؤامرة أميركية” ضد إيران، وإلا كانت تلك إهانة كبيرة لكل النظام السياسي الإيراني وليس موسوي وحده. كما أن الشرائح الشعبية المتظاهرة في الشارع اعتراضاً على النتيجة وتأييداً لموسوي ليست “مدفوعة من الخارج” ومن “أعداء إيران” بل تعبر – حتى بحكم عددها المجرد – عن إرادة شعبية لا بد من التوقف عندها. ووفقاً للمنطق ذاته يجب عدم اعتبار موسوي “ملاكاً”، أو الرئيس نجاد “شيطاناً”، فكلاهما يتنافس سياسياً وانتخابياً لتحقيق مصلحة النظام وفق قناعاته ورؤاه وعلى قاعدة مصالح إيران الوطنية، وهو درس كبير تقدمه إيران في الواقع لجوارها الجغرافي.
يلعب العرفان (التصوف) دوره الكبير في الثقافة الإيرانية ويمتد تأثيره إلى تراث إيران السياسي، حتى تبدو إيران الحالية امتداداً لتراث عظيم من أقطاب الفلسفة والعرفان من أمثال العباقرة: خيام وحافظ وبسطامي ومولانا جلال الدين الرومي. ومن الطبيعي ألا تخلو المحتويات السياسية والثقافية في إيران من الصور البلاغية والفلسفية التي قدمها هؤلاء العظام الراحلين، ومن هذه الصور تلك العلاقة السببية التصاعدية التي تنظر في الماورائيات وليس إلى الصورة الظاهرة فقط. في كتاب “مثنوي ومعنوي” لمولانا جلال الدين حكاية عن نملتين تمشيان بالقرب من لوحة جميلة رسمت لزهور ملونة، فتقول النملة الأولى للثانية: الله هذه الألوان والصورة رائعة والفضل في ذلك يعود للألوان. فتقول الثانية: بل للأصابع التي جرت بالألوان على اللوحة. فتعود الأولى قائلة: وما الأصابع دون تأثير من المعصم؟ المعصم هو الأهم! فتعود الثانية قائلة: ولكن الساعد هو الذي يحرك المعصم، فهو إذن الأهم. ولكن النملة الأولى تقول: الذراع هو من يحرك الساعد فهو الأولى بالاحترام. لم تيأس النملة الثانية فعادت لتقول: ولكن العقل هو الذي يحرك الذراع والساعد والمعصم والأصابع، فهو السبب في هذا العمل. سكتت النملة الأولى لبرهة ثم عادت لتقول: ولكن العقل دون تقليب من الله مجرد جماد!
توضح الحكاية السابقة سلسلة التراتبية العرفانية في قالب قصصي، وتبقى الفكرة الأساسية لعمل مولانا جلال الدين “مثنوي ومعنوي” متمثلة في عقد المقارنة بين ما يسميه أساطين العرفان “العقل الجزئي” و”العقل الكلي”. العقل الجزئي – وهو عقل البشر أيضاً – لا يستطيع أن يدرك من صور الوجود إلا ما يستطيع الجزء إدراكه في سياقه الزماني المعين والمكاني المحدد، أما العقل الكلي فهو مجموع إرادات العقل الجزئي، وهو علم الحق بالأجزاء منفردة ومجتمعة والذي، كما يسير الأقمار، فهو أيضاً يقدر الأقدار. وبسبب التعقيد الذي يميز العقل الكلي فهو يرتقي ليصير مرادفاً وانعكاساً للحق وما يدركه من صور قَبلية (بتسكين الباء)، إذ أن صور الوجود من الناسوت إلى اللاهوت، مسبوقة في علم الحق قبل هذا العالم – وفقاً لمولانا طبعاً-. وإذا جاز لنا أن نجتهد على خلفية العرفان الإيراني الشهير يمكن القول بوجود عقل إستراتيجي إيراني، فوق المرشحين والميول التكتية والأفكار الجزئية. ويرسم هذا العقل الإستراتيجي الإيراني، أو العقل الكلي في حكاية مولانا، التصور والخطوط العريضة، فيسيّر المرشحين ويقدر أقدارهم ومواقعهم. فإذا لاحظنا رؤساء الجمهورية في إيران منذ عصر رفسنجاني مروراً بخاتمي ثم أحمدي نجاد نرى الطابع المميز لكل شخصية وتناغم ذلك مع مصالح إيران القومية في الإقليم وفي مواجهة العالم، لأمكننا التثبت من جدارة تلك الفرضية.
ترأس رفسنجاني إيران بعد الحرب العراقية – الإيرانية وأعاد إعمار البلاد في وقت حرج ودقيق، وبسبب تغلغله في مفاصل الدولة الإيرانية و”مشروعيته التاريخية” إبان الثورة الإسلامية، فقد كان وجوده على رأس الدولة يخفف من تناقضات أجنحتها في الداخل وينفتح على الخارج ليعبد الطريق أمام فك العزلة عن إيران. أما السيد محمد خاتمي الرئيس المثقف فقد أعاد الاعتبار لقوة إيران الناعمة في المنطقة بمقولات “حوار الحضارات” و”الدين والفلسفة” وهي المقولات التي أظهرت قدرات إيران العرفانية والتراثية العالية في قالب عصري حديث. وفي عصر الرئيس خاتمي، المبتسم والداعي إلى حوار الحضارات، قطعت إيران خطوات واسعة في برنامجها النووي بحيث لم يعد ممكنا إعادة هذا البرنامج إلى الوراء. في الفترة الأولى للرئيس نجاد أصبح منجز خاتمي الأول، أي البرنامج النووي، هو القاعدة الأساسية للمشروع الإقليمي الإيراني. وفي ظل وجود الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش، تمت الإطاحة بالنظامين السابقين في أفغانستان والعراق، فتمددت إيران إقليمياً في عصر نجاد كما لم تتمدد في تاريخها. ومع نهاية الفترة الأولى للرئيس نجاد فقد تم انتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، فأخذ يرسل الإشارات في اتجاه طهران بدءاً من الاعتراف بالنظام وحتى الرغبة في الحوار معه وليس الإطاحة به مثل سلفه.
أخذت المنطقة منذ فوز أوباما تتأهب لحوار أميركي – إيراني؛ يقنن دور إيران الإقليمي ويترجم مكتسباتها الإقليمية إلى نظام جديد يلحظ التغير في موازين القوى لمصلحة إيران، وبالمقابل فقد اعتبر الكثيرون أن ترشح مير حسين موسوي هو مقدمة لكي يصبح الطرف الإيراني الجالس إلى مائدة المفاوضات مع أوباما، ومن هنا تنبع أهمية موسوي في الواقع داخل إيران وخارجها. لذلك ربما كانت العوامل الاقتصادية في صدارة المشهد للقطاعات الشعبية الواسعة التي أيدت موسوي وانفتاحه على المجتمع المدني، ولكن الحوار مع أميركا وتوقيته وإطاره الإقليمي والزمني كان ومازال حاضراً في حسابات العقل الإستراتيجي الإيراني. ومع ذلك فانتخاب نجاد لا يعني إلغاء الحوار الإيراني – الأميركي، الذي يبدو قادماً في فترة لاحقة سواء بوجود أحمدي نجاد أو بغيره، لأن واشنطن هي الطرف الوحيد القادر على تحويل مكاسب إيران الإقليمية إلى نفوذ معترف به في المنطقة. على هذه الخلفية يعني انتخاب نجاد –من منظور العقل الكلي الإستراتيجي- أن إيران ليست في عجلة من أمرها، فالأوراق التي تملكها ما زالت تفرض حضورها على واشنطن. كما أن تعهد أوباما لنتنياهو بسقف زمني في مفاوضاته مع إيران لا يتجاوز نهاية العام الحالي، يعني أن الثمن الذي يريد أن يدفعه أوباما لإيران يقع تحت السقف المقبول من عقل إيران الإستراتيجي.
ليست إيران في ورطة بالعراق، بل الرئيس الأميركي الحالي الذي ورث تلك الورطة عن سلفه، وليست طهران هي الطرف الذي ينبغي عليه طمأنة الحلفاء للحوارات القادمة مع واشنطن، بل العكس في الواقع. مع تغير الإطار الحاكم للعلاقات الأميركية – الإيرانية من لغة التهديد والمواجهة في عصر بوش إلى خطاب الحوار والتهدئة في عصر أوباما، يبدو أن العقل الإستراتيجي الإيراني لا يقبل الإطار الذي سينطلق منه أوباما في المفاوضات، كما أن العقل ذاته يعتبر أن استمرار نجاد في موقعه راهناً سينتزع تنازلات من أوباما لجهة تليين شروط الحوار. النتيجة الأدق إقليمياً لفوز نجاد هي أن العقل الإستراتيجي الإيراني يرى السياق الإقليمي الحالي مهيأ لمزيد من التمدد الإيراني في المنطقة قبل الجلوس في نهاية المطاف إلى طاولة المفاوضات مع القطب الدولي الأوحد، وبالتالي حصد مكاسب تفاوضية أكبر. لا يمكن فهم نتيجة الانتخابات الإيرانية دون الصورة الأكبر للسياق الذي جرت فيه، والذي وتندرج تحته تفاصيل كثيرة تستعصي على الحصر، ولكنها تدخل كلها كأجزاء في رسم الصورة الشاملة الموجودة قبلاًً. ومن هذه العناصر، التفاصيل الجزئية مثل الدعايات الانتخابية وشخصيات المتنافسين والفئات الموالية لهذا المرشح أو ذاك، والديناميكيات التي تتحكم في عملية الانتخاب شعبياً وإعلامياً واختيار الشعارات والرموز ومواطن قوة وضعف المرشحين، وحتى تظاهرات التأييد والمعارضة، وكلها أمور جزئية صرف.
اختصار الحراك السياسي الدائر في إيران حالياً في الاحتفال بفوز “مرشح الفقراء” و”عدو أميركا وإسرائيل” لا يدرك من الأبعاد المتعددة للموضوع أكثر من الصورة المائلة على القشرة، وهكذا فمن حيث يريد أن يقرع الطبول احتفالاً فإنه
يختزل عرفان إيران العميق وعقلها الإستراتيجي الكلي في قالب ساذج وزاعق في آنٍ معاً!.

– طهران
(خبير في الشؤون الايرانية والتركية)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى