من الممكن للمرء ان يكون ثورياً ومعارضاً لنجاد
نهلة الشهال
هل كان للصراع السياسي العنيف الدائر بين أقطاب النظام الإسلامي في إيران أن يغرق في الدماء لولا قوة حضور النزوع الشعبوي لأحمدي نجاد؟ من الطبيعي أن يجد هذا الصراع تعبيراته في الشارع، الذي تحتله مظاهرات متناقضة، وأن تكون الانتخابات الرئاسية مناسبة لظهوره إلى العلن. ولكن ماذا ومن يخدم الاتجاه إلى القمع الدموي، سواء من قبل وحدات البوليس أو من قبل الحرس الثوري «الباسدران»؟
مِن غير الأمين الادعاء أن تلك الاحتجاجات تهدد أمن النظام نفسه. فقادة المعارضة جميعهم أبناؤه، ومن يقف خارجه ضعيف إلى حد أنه لا يمثل خطراً بأي حال. كما لا تمثل التدخلات الغربية، هي الأخرى، أي خطر فعلي. وهذه مبررات تشابه في سخفها حجة من يقول أن أحمدي نجاد يخدم في نهاية المطاف إسرائيل والولايات المتحدة، لأنه يوفر لهما «العدو المثالي». ودليلهم فرحة نتنياهو وجماعته بإعادة انتخابه، وهي فرحة علنية، متوافرة في الصحف والتصريحات الرسمية. ذلك أن الصراع في إيران أهم بكثير من أن يقاس على ضوء أمزجة هؤلاء، بل وحتى على ضوء مصالح واشنطن نفسها. نحن أمام واحدة من جولات ستقرر الوجهة التي يتخذها حدثٌ وقع عام 1979 وقلب وجه المنطقة والعالم، مستعيداً طرح النقاش حول مقولات في غاية الأهمية، عما هو الإسلام، وعن الدين كمعطى سياسي، وهل يمكنه حقاً امتلاك شحنة تغييرية ثورية، وليست محافِظة فحسب، وليست روحية أو تعبدية فحسب، عن إيران كقوة إقليمية راسخة، تطمح للعب دور عالمي يساهم، وفق معطيات اللحظة، في بلورة نشوء قطب ثان، مختلف تماماً عما كان عليه الاتحاد السوفييتي، أو أنه يمزج هذا بما مثلته العالمثالثية مع «باندونغ».
هذه واحدة من جولات ستقرر ما إذا كانت الثورية مرتبطة بالضرورة بقمع تعدد الآراء، والضيق بأي معارضة، والعجز عن البحث عن توافقات لتسوية الخلافات، وعما إذا كانت الثورية بالضرورة رثة، مبسطة، عاجزة عن الهام المثقفين: هل صدر نص يثير النقاش، أو يخاطب الذكاء أينما كان، منذ شريعتي؟ ما أبأس «ثورة» لا تحتمل أبناءها! هل زهرة إشراقي، حفيدة الخميني، معادية للثورة؟ هل خاتمي معاد لها؟ بل وهل يعاديها الليبراليون من أمثال مير حسين موسوي، الذي تحدث التظاهرات اليوم بـ «اسمه»، ومن خلفه الشيخ رفسنجاني، وهو، رغم كل ما يمكن أن يقال فيه لجهة ليبراليته الاقتصادية، بل وربما فساده أثناء فترة حكمه، ولكنه يبقى «رئيس مصلحة تشخيص النظام»، أي ركناً أساسياً من أركانه؟ ما أبأس ثورة تذهب إلى اعتقال إبراهيم يزدي كل ما دق «الكوز بالجرة»، في محاولة لمد صفته التمثيلية المقربة من الغرب على ما يجري. وهذا تزوير بالنظر إلى التأثير الضعيف جداً للرجل وحركته، يهدف إلى إلقاء الضباب السهل على الحدث. ثم، هل على الثورة، أياً كانت وأينما كان، أن تكون قاحلة جلفة، تخاطب فحسب النوازع الدفينة لدى الفئات الأكثر فقراً، بحيث لا يظهر من «مصالح الفقراء» إلا ما صاغه واقعهم الراهن، البائس، عوضاً عن استنفار رؤيتهم لغد جميل متخلص من كل أشكال القهر، طبقية وغير طبقية؟
تلك أسئلة انطلقت مع ثورة أكتوبر، بل وحتى مع الثورة الفرنسية قبلها، أولى ثورات العصر الحديث وبنت «الأنوار»، وعادت فتكررت مع الثورة الصينية في سنوات «القفزة الكبرى إلى الأمام»، وبعدها «الثورة الثقافية»، وهما من ضحى بالملايين من أجل تحقيق «الأهداف»، لتنتهي إلى نسخ مفضوحة البشاعة سلفاً، كتجربة الخمير الحمر، أو ذات مآل ممسوخ، كالثورة الجزائرية…
من الدقيق القول أن القمع الذي تواجه به التظاهرات في إيران لا يحدث بسبب جسامة المخاطر على النظام. أي أنه ليس دفاعاً عن مصيره، وهو ما كان ليفعله أي نظام إذا ما تهدد (مستدعياً النقاش حتى في تلك الحالة، إذ توسل هذه الأدوات في حفظ النظام يطبعه بعد ذلك بطابعها). بل هذا القمع موظف في خدمة تغليب خيار معين، واعتباره الوحيد الممكن. يريد السيد احمدي نجاد أن يعزز رؤيته هو، وتياره، لما على إيران أن تفعله لتكون قوة إقليمية مرهوبة الجانب. ويفترض تحقيق هذا تماسكاً داخلياً عالياً، إن لم يكن جامعاً، فلعصب فاعل. ومن أجل توفير هذا التماسك، يعتمد أحمدي نجاد على خطاب «راديكالي» يطال كل الأصعدة: إسلام مغرق في المحافظة (وكان يمكن للراديكالية الإسلامية أن تكون تقدمية، تنتج لاهوت تحرير، فهل يمكن القول أن المحافظة الشديدة هي «راديكالية مضادة»؟)، أولويات صارمة لا تحتمل التلوين، إجراءات لمصلحة الفئات الأكثر فقراً، وإن كانت غير منهجية، ومعظمها عرَضي، أو قابل للأفول، ولكنها فعالة في ظل الاختناق الاقتصادي الشديد، حيث 15 مليون عائلة إيرانية تعاني من دخول محدودة للغاية. ولعل هذه النقطة الأخيرة تستحق مزيداً من التوقف. فصحيح أن هناك طبقة وسطى واسعة، ولكنها آخذة في التراجع، ثم أن الشرائح البائسة حقاً في المدن كما في الأرياف، لم تختف، بل على العكس. وهناك أيضاً الارتكاز إلى الفئات التي “ضحت” من اجل الثورة الإيرانية، عائلات القتلى في الحرب مع العراق، وهؤلاء الذين يعتاشون ويكتسبون أهميتهم وقوة موقعهم الاجتماعي من انخراطهم في الحرس الثوري. وأخيراً، يتوج كل ذلك خطاب يتعمد الاستفزاز أو على الأقل الاستعراضية. فمن المؤكد أن النظام بكل تعبيراته ساع لاكتساب القدرة النووية، وأن ذلك يصطدم بالغرب بقيادة الولايات المتحدة، ولكن السيد نجاد نجح، عبر المفردات والوضعيات التي يعتمدها، في إكساب نفسه صفة من “يتمسك” أكثر! كما صادر الدفاع عن فلسطين ومناهضة إسرائيل، بواسطة مواقف من المؤكد أنها لا تخدم هذه القضية، ليس لأن ما يخدمها بالمقابل هو المهادنة والتملق للغرب والدعوة للاستسلام أمام الجنون الإسرائيلي، بل لأن القضية الفلسطينية تحتاج قبل وفوق كل شيء إلى إبراز بعدها الإنساني والأخلاقي الشامل، وهو ما لا يخدمه خطاب السيد نجاد الملتبس هنا تحديداً.
أي، يمكن للمرء أن يكون مناهضاً للاستعمارية الغربية المستمرة بأشكال مختلفة، ومناضلاً من اجل فلسطين وضد منحى اعتبار إسرائيل، سياسة وقبل ذلك وجوداً، قدرٌ من المطلوب التسليم به، ومنحازاً للفقراء، ومؤيداً لبروز كتلة عالمثالثية تقع في الوسط منها إيران ومن يرغب، ومنافحاً عن الطاقة الثورية والتقدمية التي يختزنها الإسلام، إلى آخره، وأن يعارض السيد نجاد، وأن يقف خصوصاً ضد القمع البشع الجاري في إيران. بل من الضروري أن يكون المرء كذلك!!
الحياة