فقهاء الظلام
نبيل الملحم
لانعرف الكثير عن الفقه الديني والفقهاء، وكذا، لانعرف الكثير عن القانون وزواريبه، ولكن الحياة بأرصفتها متاحة لنا مرتين:
مرة بفعل أن ركلتنا بأقدامها، وثانية بفعل أننا مازلنا مواطنين وقحين فيها ريثما يختارنا عزرائيل أو سواه.
بفعل المرة الثانية من حقنا أن نتدخل بشؤون حياتنا.. بشؤون أولادنا، بشؤون بلداننا.
سوريا، بلد متوسطي، وتاريخها مزيج من الحضارات: روماني على بيزنطي، على فينيقي، على عربي اسلامي، وسكانها مزيج من الأعراق، والقوميات، والمذاهب والديانات، وهذه حسنة كبيرة من حسنات سوريا، تدفع بالبلد الى أن يكون بلدا ذا خيارات متنوعة بتنوع سكانه، وهو يعني في الحدود الدنيا أن الخيارات السورية المتنوعة هي خيارات حيوية، ويثبت ذلك أنها مازالت بلدا على الخارطة.. بلدا ينتج موسيقى وشعراء، وينتج قمحا قاس وقطن، وينتج تعايشا مستمرا لم ينحرف ولا لمرة واحدة رغم الهزات الهائلة التي طالت شعوبا في هذه الكرة الأرضية ليس أشدها ماشهدته دولا بعيدة من نماذج آسيا الوسطى، ولم ينتج ما أنتجته دولاً على ذراع من محيطها وتعبيراتها في العراق ولبنان، وكلها بلدان استعصى عليها التعايش، فاختارت الانفجار، فيما ماتزال سوريا ، وبفعل اختيارات الناس، بلدا للتعليش، ولنسمه ماشئنا:
تعايش بفعل الدولة المركزية القابضة.. تعايش بفعل التوازن مابين سكانها.. التعايش بفعل اختيارات الناس الطوعية.. بالنتيجة البلد متعايش.
سوريا هذه مرشحة في خمسينيات القرن الفائت لتكون، بلدا صناعيا متوسطا، أي بمستوى ايطاليا في ذلك الوقت، وهذه ليست رغبة متخيلة، فهي حقيقة أثبتتها الصناعات النسيجية، وأثبتها الاستمطار الصناعي، وثبتت بالدليل القاطع عبر برلمانها آنذاك وقد جمع طلائع البرجوازية الوطنية، في حوار بالغ الرقي مع الحركة النقابية وكذلك مع ممثلي العمال..
مؤشرات ماسبق، تأخذنا نحو سؤال يقول:
ماهو المكون الجوهري لسوريا؟
والاجابة القاطعة هي أن سوريا، البلد الأخصب لنمو الحياة الديمقراطية.. الحياة التي تأخذ بخيارات الناس، فالسلم الأهلي جزء من الموروث السوري، والتنوع ليبقى متنوعا لن يقوم سوى على الحامل الديمقراطي، وكل الحوامل (سواه)، حوامل طارئة أو مؤقتة، مايعني أن سوريا بلد مرشح ليكون من طراز الدولة المدنية.. دولة الحريات.. دولة الثقافة.. دولة المعاصرة، وهو المأمول بالنسبة للناس، أقله بعد صعود قوى السوق التي تبحث عن (البنك)، والفندق، والاستثمار السياحي، وكلها لاتعيش الا في بيئة هي :” بيئة الحريات”.
في هذه اللحظة، تخرج تعديلات قانون الأحوال الشخصية.. تعديلات تحكي بـ : ” الملل، والردة، وأهل الذمة”، ماذا يعني هكذا توقيت لهكذا كلام؟
يعني ببساطة مايلي:
انهاض (الفتنة)، وهو التعبير الذي يستخدمه دينيون ، ويعني كذلك:
اعاقة الحياة عن أن تتطور على نحو يخالف امكانية التعايش، وامكانيات المواطنة، وتقليص المواطن الى مجرد (طائفة)، أو مذهب، وسلب الحرية الفردية منه، كما سلب ارادته في اختيار مايختار.
قانون للأحوال الشخصية، تجاوزته الحياة نفسها، ففي الحياة السورية لمن لايعلم:
مساكنة، وزواج حر، وزواج من مذهب مختلف عن مذهب الشريك، وزواج عرفي، وزواج مسيار، وزواج متعة، وزواج كنسي، وزواج عبر الشيخ المأذون، وكلها خيارات ناس هم أحرار باختياراتم.
وتأتي التعديلات على قانون الاحوال الشخصية، لتوطد مارفضته الحياة، فنسمع عن :
الردة، ونسمع عن أهل الذمة، ونسمع كوكتيلا من المفردات وقد وضعها بشر هم في غيبوبة صريحة عن ما اختاره الناس.
نموذجين اسلاميين أمامنا، والنموذجان احترما الاسلام وواكبا الحياة:
النموذج التركي، والنموذج التونسي، فتونس بورقيبة اختارت الزواج المدني منذ منتصف خمسينيات القرن الفائت ولم تسقط هويتها الاسلامية، والنموذج التركي وكان خياره الزواج المدني، وأطلقه أتاتورك مطلع القرن الفائت، ولم يسقط عن تركيا اسلاميتها ولا هويتها الاسلامية.. شيء مرعب أن تأخذ سوريا بقانون يشدها الى الخلف، وأي خلف؟
أي خلف لانعلم، فان كان الماضي هو ماضي الاسلام، فلاسلام أكثر الديانات انتماء لمعطيات الارض.. لفكرة الدولة والمواطنة.
من أي ليل يأتينا فقهاء الظلام؟