صفحات العالمما يحدث في لبنان

لعبة المتصرفية

الياس خوري
الجو خانق في بيروت. جاء الملك السعودي والرئيس السوري، ثم لحق بهما الأمير القطري. عقدت قمة ثلاثية في بعبدا، وجال امير قطر على قرى الشريط الحدودي، وحلل المحللون، ولكن الطقس الحار الذي يضرب لبنان، لم يتأثر. وانا هنا لا اتكلم عن الطقس السياسي فقط، الذي لا يزال في مجهول الغيب، لكنني اتكلم عن حرارة الجو ايضاً.
قال خبراء الأرصاد الجوية ان موجة الحر التي تضرب لبنان آتية من جزيرة العرب. وقال آخرون انه التغير المناخي الذي يجتاح العالم، لكن المسألة ليست مناخية فقط، بل ترتبط بالجغرافيا السياسية.
الشعور بالاختناق ناجم عن احساس عام بأن لا حول للبنانيين ولا رأي في المسائل التي تتعلق بمصير وطنهم. وهو اختناق مشوب بارتياح خامل. الرأي العام اللبناني، او ما تبقى منه، لا يريد سوى شيء واحد، هو ان لا تتجدد الحرب. واذا كان ثمن ذلك هو هذا الاختناق فإنه على استعداد لدفع الثمن بطيبة خاطر.
غير ان وضع لبنان في ظل ‘كوندومينيوم’ سعودي- سوري، ليس علاجاً سحرياً، فإذا كان الطرفان العربيان ‘يمونان’ على الطائفتين الكبريين: السنة والشيعة، فان لا احد منهما ‘يمون’ على اسرائيل، وهنا تكمن المشكلة الكبرى التي تبقي الجرح اللبناني مفتوحاً.
لقد فشلت جميع محاولات بناء الجمهورية، منذ انهيار الشهابية عام 1970، كنتيجة شبه مباشرة لهزيمة الخامس من حزيران/يونيو، ودخل لبنان في دوامة صراعات داخلية متمفصلة على الصراعات الاقليمية. حاولت الحركة الوطنية، ثم حاولت المارونية السياسية، التي انتهت مغامرتها الاسرائيلية باتفاق الطائف الذي وضع لبنان تحت المظلة السورية. وبعد اغتيال الحريري حاولت السنية السياسية، التي سرعان ما اصطدمت بالشيعية السياسية، وجاء اتفاق الدوحة ليقيم توازنا بين الطائفتين في ظل راعيهما السعودي والسوري.
غير ان المتصرفية التي تأسست بعد اتفاق الطائف، اصطدمت بمسألتين:
المسألة الاولى هامشية، وتتعلق بتصفية ما تبقى من نفوذ المارونية السياسية، وقد استطاعت الهيمنة السورية انجاز هذا الهدف، عبر قيام الشريك السعودي بغض النظر المتواطئ.
المسألة الثانية اكثر صعوبة وتعقيدا، وهي ناجمة عن الاحتلال الاسرائيلي للشريط الحدودي. وهذا اقتضى قيام الهيمنة السورية بدور فاعل من اجل تسليم راية المقاومة لحزب الله، بعدما تم شطب جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية بالعنف الدموي.
بالطبع كانت هذه الجبهة التي قادها الشيوعيون واليساريون تعاني من مشكلات عديدة، سهلت عملية ازاحتها، من آثار الممارسات السلطوية في الحرب الأهلية، الى الزلزال الايديولوجي الذي شكله سقوط المعسكر السوفييتي، وقاد الى تفكك الحركة الشيوعية في العالم بأسره وانهيارها.
انعكست هذه المسألة على الدولتين الراعيتين لمتصرفية الطائف، خصوصا بعد الاستقطاب الحاد الذي فرضته حماقات جورج بوش على المنطقة والعالم، ما خلخل بنية ‘الكوندومينيوم’ السوري – السعودي، وقاد الى العاصفة التي هبت على لبنان بدءا من اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير 2005.
التحالف السوري – الايراني لم يكن جديدا، فقد بدأ منذ الحرب العراقية – الايرانية، لكن الجديد فيه، هو انه تمفصل على الصراع العربي – الاسرائيلي، واتخذ مع المشروع النووي الايراني ابعادا جديدة.
بانهيار ‘الكوندومينيوم’ السوري – السعودي عام 2005، بدأت سحب الأزمة اللبنانية بالتجمع من جديد، ووصلت الى ذروتها في الحرب الأهلية القصيرة جدا التي اندلعت في 7 ايار/مايو 2008.
قمة بيروت الثلاثية، وهي في الواقع قمة ثنائية بين سورية والسعودية، كانت محاولة لاختبار قدرة التعديلات التي ادخلت على الطائف في مؤتمر الدوحة على الصمود في وجه العاصفة الاقليمية الجديدة التي تهب على ايران، بعد فرض العقوبات الدولية عليها.
وبدا لبنان ساحة الاختبار الأولى لهذه العاصفة، ووجد حزب الله نفسه في عينها، بعدما تمت تبرئة النظام السوري من جريمة اغتيال الحريري وجرائم الاغتيالات التي تلتها، ورست التهمة على اعضاء في الحزب، مثلما يُقال.
تصدى حزب الله خلال عقد التسعينيات بجدارة وفاعلية تثيران الاعجاب، لمسألة بناء مقاومة للاحتلال، وقد اعطت هذه الفاعلية ثمارها عامي 2000 و2006. غير ان المقاومة الاسلامية عجزت عن ايصال رسالتها الى جميع اللبنانيين، وهذا يعود الى طبيعتها المذهبية والدينية، في مجتمع متعدد الانتماءات الدينية والطائفية. من هنا لم يستطع الحزب بلورة مشروع خاص لبناء الجمهورية. فبعدما اضطر الى سحب مشروع بناء جمهورية اسلامية، على النموذج الايراني، من التداول بسبب استحالته، رضي بالدخول في اللعبة اللبنانية الطائفية، اي في لعبة المتصرفية المحكومة باعتبارات التوازن الاقليمي في شكل مطلق.
يُنسب الى احد امراء الحرب اللبنانيين، وهو زعيم طائفي كبير، في معرض تبريره لعدم مشاركته في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي، قوله ان الطائفة لا تقاتل دولة اخرى، بل تقاتل طائفة اخرى.
حزب الله خرق هذه القاعدة وقاتل دولة الاحتلال وطرد الجيش الاسرائيلي من الجنوب اللبناني. لكنه حين ارتضى الدخول في اللعبة اللبنانية، ربما لأنه لا يملك حلا آخر، وجد نفسه اسير المنطق الطائفي، القادر على التحايل على اي مشروع سياسي يتجاوزه، لأنه يستند بالضبط الى رعاة اقليميين، يهمهم استخدام لبنان ورقة مقايضة.
وهذا ما جرى في الأمس ويجري اليوم.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى