ولاية الفقيه.. أم ولاية الشعب؟ عراك السياسة والقداسة في إيران
فوزي بشرى
سامراء مقام فاصل في تاريخ المذهب الشيعي الإمامي الاثني عشري، ففيها مرقد الإمام الحادي عشر الحسن العسكري الذي توفي عام 260 هجرية، أي قبل أكثر من 1160 عاما. ومنذ ذلك التاريخ ظل الشيعة الإمامية ينتظرون إماما غائبا, هو محمد الحسن العسكري الذي استتر في غيبة صغرى كان يتصل خلالها بالناس -وفقا لما تقوله مدونات الشيعة- عبر نوابه وسفرائه.
وانتهت هذه الفترة عام 329 هجرية دخل بعدها الإمام غيبة كبرى لا يزال نداء الشيعة الإمامية يتردد في الآفاق أن يعجل الله فرجه ويظهره على العالمين ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت فسادا وجورا.
وتقوم فكرة الإمامة على أنها وصية من الله للنبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي وصى بها إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسارت من بعد في عقبه حتى بلغت الإمام الحادي عشر. ويرى مؤرخو الشيعة الإمامية أن فكرة انتظار الإمام الغائب قد صبغت المذهب الإمامي بسكونية قدرية تتحاشى السلطة التي هي في نظرهم حق للإمام اغتصبه حكام ظلمة.
وعلى مدى قرون ظل الشيعة الإمامية يضربون تقية كثيفة على أنفسهم تعلق رجاءاتها بعودة الإمام الغائب. لكن تحولا كبيرا وقع في اجتهاد علماء الشيعة الإمامية حين توسعوا في معنى نيابة الإمام الغائب بجعلها للفقهاء، وهو تحول بلغ ذروته عبر اجتهادات متواترة إلى فكرة ولاية الفقيه التي ستشكل بعد ذلك جوهر وروح الجمهورية الإسلامية في إيران.
فقيه وسلطتان
كان على المذهب الإمامي الاثني عشري أن ينتظر أكثر من 1100 عام ليخرج الشيعة الإمامية إالى دنيا السياسة ومدافعات حقها وباطلها بعد أن طال الأمد بالمنتظرين ظهور الإمام الغائب.
وما كان لذلك الظهور أن يقع لولا آية الله العظمى الإمام الخميني الذي استل ولاية الفقيه من متون الكتب إلى السياسة العملية، حيث أصبح هو أول ولي فقيه للجمهورية الإسلامية في إيران بعد الإطاحة بعرش الشاه محمد رضا بهلوي في ثورة شعبية عام 1979.
تلك لحظة حاسمة في تاريخ إيران السياسي، فقد انعقدت عندها علاقة قلقة متوترة بين سلطتين زمانية وروحية, سلطة زمانية تستمد سلطانها من الشعب عبر الانتخاب وتتجسد في مؤسستي رئاسة الجمهورية والبرلمان، تتعاطى مع اليومي والمحدود والممكن, وسلطة أخرى دينية مرجعيتها نفسها أو إلهامها، وهي سلطة مهيمنة قاهرة لا كلمة فوق كلمتها.. إليها يرد الأمر كله.. ذلك هو الولي الفقيه القائم مقام الإمام الغائب حتى يأذن الله بخروجه.
ورث آية الله علي خامنئي منصب مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران أو ولاية الفقيه بعد وفاة الإمام الخميني بانتخابه من قبل مجلس الخبراء. وقد جاء خامنئي إلى هذا الموقع الخطير بعد تجربة طويلة في مناهضة حكم الشاه أهلته مع علمه إلى تقلد عدة مناصب قبل أن يصبح رئيسا لإيران لدورتين ما بين عامي 1981 و1989.
تناقضات المنصب
جاء خامنئي إذن إلى مؤسسة ولاية الفقيه بعد أن خبر هو نفسه تناقضات منصب الولي الفقيه أو مرشد الجمهورية مع مؤسسات السلطة الزمنية, فعندما أبدى الرئيس خامنئي امتعاضه من إقرار الإمام الخميني تطبيق قوانين لم تجز من قبل البرلمان أرسل إليه الخميني رسالة أوضح له فيها أن ولاية الفقيه مطلقة وأنها في نظرها بمصالح الأمة فوق الدستور, فهي شعبة من الولاية المطلقة للرسول صلى الله عليه وسلم. وفي الرسالة تلميح إلى أن اعتراضات المعترضين -ومن بينهم ضمنا خامنئي- نابعة من جهل بالولاية المطلقة الإلهية.
ويرجع كثيرون جدل الصراع الدائر بين من يعرفون بالإصلاحيين والمحافظين في إيران إلى هيمنة الولي الفقيه عبر مؤسساته الدينية الموازية لمؤسسات الدولة المدنية، وهي هيمنة كثيرا ما وجدت نفسها في تضاد مع الإرادة الشعبية.
يشار هنا إلى ما كان من سيرة الرئيس السابق محمد خاتمي الذي حملته موجة الإصلاحيين العاتية إلى سدة الرئاسة مع أغلبية مريحة في البرلمان، لكن رجال الدين والمحافظين فزعوا إلى مؤسساتهم الموازية وعلى رأسها ولاية الفقيه ومجلس صيانة الدستور ومجلس تشخيص مصلحة النظام ليفرغوا برنامج خاتمي الإصلاحي من محتواه. وقد عدت تلك واحدة من أكبر المآخذ على التجربة السياسية الإيرانية حيث تستطيع الأقلية التحكم في الأغلبية.
انسجام ومأزق
ومع أن عودة المحافظين عبر رئاسة محمود أحمدي نجاد خلقت قدرا من الانسجام بين الرئاسة ومرشد الجمهورية، فإن الانتخابات الرئاسية الأخيرة أدخلت إيران في مأزق سياسي تجاوز دارج الصراع السياسي بين المحافظين والإصلاحيين إلى الضرب في جوهر الجمهورية نفسها المؤسسة على سلطة ولاية الفقيه الواجبة الطاعة.
فعدم الانصياع لأوامر المرشد لا يعتبر خطأ في السياسة ولكنه خطيئة في التدين. ورغم تأكيد المرشد علي خامنئي أن المرشحين الرئاسيين الخاسرين مير حسين موسوي ومهدي كروبي هما من أهل السبق في الثورة بذلا وتضحيات، ورغم الثناء الكبير الذي خص به هاشمي رفسنجاني الرجل واسع النفوذ والقدرة، فإن ما لا تخطئه عين أن زلزلة قوية قد أصابت هيكل الجمهورية.
بأي مقدار سيؤثر ذلك في الجمهورية الإسلامية، سيبقى أمرا مودعا في رحم الغيب. لكن ما بات معلوما للخبير وغير الخبير أن شراسة السياسة في إيران قد مست بغير تقديس مركز الولي الفقيه، حتى ليبدو المرشد واحدا من اللاعبين السياسيين لا كرامة لقوله. وآية التحول العظمى أن المقتحمين على المرشد قداسة قوله ليسوا من اليساريين أو الليبراليين.. إنهم أبناء الثورة وفقهاؤها.
فمنهم رئيسان سابقان هما هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي، ورئيس وزراء سابق هو المرشح مير حسين موسوي، ورئيس برلمان سابق هو المرشح مهدي كروبي، ورئيس حرس الثورة السابق محسن رضائي، وأخيرا انضم إلى قائمة المحذرين مما يجري من تكميم للأفواه في إيران آية الله حسين منتظري صاحب الاستدراكات الجريئة على نظام الجمهورية الإسلامية وصفي الإمام الخميني ثم طريده من بعد من كل مؤسسات الحكم.
هذه القائمة تشترك جميعا بدرجات متفاوتة في رفضها مطالبات المرشد في خطبة الجمعة الماضية بإخلاء الشوارع والكف عن الاحتجاج والرضا بما وقع.
لا سمع ولا طاعة
كان المتوقع أن يقول الناس -خاصتهم وعامتهم- سمعا وطاعة، لكن ما جرى لاحقا وفي اليوم التالي كان خلاف ذلك. فالمرشحون لا يزالون يطالبون بإعادة الانتخابات، والمتظاهرون لا يزالون يرفعون قبضاتهم في الهواء ويجترحون من عنيف الأفعال ما تشهد به المواجهات الدائرة في طهران وغيرها.
وفي هذا من الدلالة ما يتجاوز الاختلاف في التقديرات السياسية والاستدراك على المرشد في تشخيص ما هو مصلحة للنظام إلى القدح في مبدأ ولاية الفقيه وحقه في الطاعة المطلقة.. هل هو مخاض ولادة لايران أخرى.. إيران يعلو فيها صوت الشعب وأبناء الثورة على صوت مرشدها؟
فما يحدث هو خروج إلى العلن بجدل العلاقة بين الديني والسياسي في بلد تتأسس مشروعية الحكم فيه على مبدأ وصاية الفقهاء على العامة ووصاية الولي الفقيه على الجميع, خاصتهم وغمارهم, ولهذا فإن الخروج على أو مجرد التشكيك في سلطان ولاية الفقيه -وهو المبدأ الناظم لفلسفة الجمهورية الإسلامية- سيكون ضربا من ثورة أخرى تطلب مرجعها الأعلى في سلطة صندوق الانتخابات لا سلطة ولاية الفقيه.
وذلك مقام لو بلغته إيران في عسير مسيرها اليوم، فسيكون حدثا مدويا لانسلاخ السياسي عن الديني، ولا تبقى ساعتها ولاية غير ولاية الشعب. أما الدوي فلعله يبلغ من الشدة ما يوقظ شعوبا أخرى غارقة في النوم غير بعيد.. يقول واحدهم: كم لبثنا؟.. يجيب أخو يقظة: حتى ملّتكم الشعارات.. وذاك حديث آخر.